لم يدر صابر بماذا يرد. تكوم على نفسه كأنه يدافع عنها ضد هجوم مدبر خسيس. ولما عاد الأستاذ حسني يلح عليه في صوت جاد لم يخطئ فيه نغمة صادقة تشجعه، ألقى بظهره على المسند الناعم وقال في هدوء: معذرة. بعد أن يحضر الشاي.
وصرخت سامية من وراء غرفة النوم الموارب تلعن أم محمد وتستعجلها وتهددها في نفس واحد. وجاءت صينية زجاجية تزينها خطوط ذهبية وفوقها أكواب الشاي. مد صابر يده فتناول كوبه وأحس بنشوة الدفء بعد الجرعة الأولى، نشوة يكاد يغرق فيها تعب اليوم كله. وأغمض عينيه، وتمنى لو يستطيع أن يتمدد ويستريح وينسى كل شيء . وقبل أن يغفو جاءه صوت سامية من وراء الباب: نسيت أسألك يا ميشو: أين كنت الآن؟ قال وهو يغالب النعاس: كنت أتسوق من الموسكي. سألت من جديد: هدوم مثلا؟ قال في صوت لا يخفي ضيقه: لا، بقالة للدكان. سمن وزيت وصابون وتوابل من كل الأصناف. أصلي أنا الآن أعمل مكان أبي. سألت للمجاملة: يعني تاجر؟ أجاب كأنه يؤكد حزنه على المصير الذي انتهى إليه: نعم، على قد الحال. والدي مات وأنا في التوجيهية. حضرتك كنت انتقلت من البلد مع البيك الحكمدار، ترك لي ثلاث بنات وولدين. كان لا بد من وجودي معهم لأباشر الأرض وأقعد في الدكان. سألت من جديد في استهتار تعجب كيف تقدر عليه: وعندك أولاد يا ميشو؟ فأجاب في حسرة ولكن في استسلام: خمسة، يبوسوا أيديك.
وفاجأته صيحة من الأستاذ حسني: اسكتي أنت! الرجل يريد أن يمثل. يالله يا أستاذ، قل لنا قطعة على الماشي.
قال صابر معتذرا وقد أعجبه اهتمام الأستاذ حسني به: ولكنني لا أذكر شيئا. ألح الأستاذ حسني: أي شيء؟ قال صابر في إخلاص كاد أن ينفجر له حسني ضاحكا لولا أنه تحكم في نفسه: الحقيقة أنني نسيت أغلب دوري مع الست هانم، كانت دنيا وراحت. سأل حسني في عطف وكأنه يتمنى لو يستطيع أن يبكي: كان دور ميشلينيا نفسه؟ فأحس صابر أن الإلحاح عليه زاد عن حده وأنه من الجحود وقلة الذوق أن يقابله بالصمت والجمود، فتحامل على نفسه وشد عضلاته ووقف في وسط الصالة. أطاح رأسه بهزة واحدة إلى الخلف وكشر ملامحه. عقد جبينه وزم شفتيه بكل قوته ومد ذراعيه إلى الأمام كالمستجدي وقال: «نهاية الفصل الثالث، بهو الأعمدة، الوقت ليل والمكان مضيء.» ثم انفجر في صوت فوجئ به حسني. وذعرت أم محمد فأسرعت تجري من المطبخ ووقفت خلفه تنظر إليه في ذهول: نعم، نعم، الوداع! يا ... يا ... لست أجسر! الآن أرى مصيبتي وأحس بعظم ما نزل بي. لا مرنوش ولا يمليخا رزئا بمثل هذا. إن بيني وبينك خطوة، بيني وبينك شبه ليلة، فإذا الخطوة بحار لا نهاية لها، وإذا الليلة أجيال، أجيال، وأمد يدي إليك وأنا أراك حية جميلة أمامي فيحول بيننا كائن هائل جبار: هو التاريخ!
ويبدو أنه لم يكن قد انتهى حين أطلت سامية فجأة من الباب، بقميص نوم وردي شفاف، ومدت ذراعها ضاحكة ضحكة رنت في أذنه كوقع وعاء نحاسي يرتطم فجأة بالبلاط: الوداع يا ميشلينيا!
لا يدري صابر حتى الآن ماذا حدث له في تلك اللحظة. تراخت عضلاته، تفكك جسده، انهار على الأريكة كأنه تمثال من القش. لم يستطع أن يثور، لم يستطع أن يبكي، لم يفكر أيضا لا في الثورة ولا في البكاء، بل ربما لم يفكر في أي شيء بالمرة. وأسرع حسني إلى غرفة النوم متأففا وهو يؤنب سامية بصوت يحاول أن يكون مرتفعا. ودق جرس الباب في هذه اللحظة فدخل رجل ضخم، شعره مجعد وطويل وفاحم، وعيناه شديدتا السواد مخيفتان إلى حد أن صابرا لم يستطع أن يثبت عينيه فيهما أكثر من لحظة واحدة. كان صوته أجش، وبدا لصابر كأنه ثور غبي وهو يقول: هل هذه مواعيد يا عالم؟ من الصبح أنتظركم، والناس تسأل عنكم، والبلاتوه جاهز، والمنتج الذي كان موعده معك يا سي حسني على البار، وكاتب السكربت يا ست سامية منتظر هناك على نار. إن لم تنزلوا حالا ضاعت علينا الفرصة. أعوذ بالله من هذا الحر، الدنيا نار. بسرعة يا ست سامية، اعملي لك قلب.
كان الرجل الضخم قد وقف أمام باب غرفة النوم فسده بهيكله الجبلي وصوته الأجش وكل شيء هائل فيه. لم يلاحظ وجود صابر، بل وقف في مكانه كأنه يكتم أنفاسه. ورن جرس التليفون، وسمع صابر صوت سامية تتكلم في نفس واحد، ووجد نفسه ينهض من على الكرسي وقد خيل إليه أنه استراح قليلا. ودون أن يحس به أحد مشى على أطراف أصابعه إلى الباب الخارجي ففتحه في هدوء. حتى العجوز الطيبة أم محمد، التي كانت تقف لحظتها في المطبخ وتعطي له ظهرها بحيث يرى طرحتها البيضاء فوق رأسها بوضوح، لم تحس به وهو يغلق الباب وراءه.
1964م
الصبر
اللوحة القديمة، المعلقة في حجرة الجلوس، فوق الكنبة الكبيرة، اللوحة المصنوعة من القماش، المغزولة حروفها بخيوط حريرية سوداء، الموضوعة في برواز خشبي بهت لونه من كثرة ما تراكم عليه من الغبار، فبدت الحروف الملتوية النحيلة في داخلها كأنها ثعابين سوداء، هذه اللوحة هي التي لم أكره شيئا في الوجود كما كرهتها. في كل البيوت يعلق الناس شيئا يبتهج له الضيوف أو يرحب بهم: أهلا وسهلا فعين الله ترعاك، ادخلوها بسلام آمنين. صورة رب البيت مع زوجته في ثوب الزفاف، أو في وسط العيال، صورة الابن مع تلاميذ المدرسة وأمامهم الناظر والمدرسون، أو حتى صورة ممثلة تبتسم للضيف وحده. أما نحن؟ ألم يجد أبي وأمي شيئا غير «الصبر» يعلقونه في حجرة الجلوس؟ ألم يجدوا حروفا أخرى غير الصاد الغليظة المنتفخة، والباء النحيلة التي لو هبت نسمة لأطارت النقطة من تحتها، والراء الطفيلية العديمة الشخصية التي تتشبث بالباء حتى لا تسقط مغشيا عليها؟! منذ أن فتحت عيني وأنا أراها وحدها في بيتنا. كئيبة وقديمة، وفي حداد لا ينقطع. حاولت أن أضع إلى جانبها صورة ممثلة ساحرة العينين كنت متيما بها، فزمجر أبي وقال: الصور من الشيطان. وحين دافعت عن الممثلة وقلت له إنها متزوجة وصاحبة عيال شخط وقال: هل تريد أن تقطع الملائكة عن الدار؟ ولما كنت بالطبع حريصا على أن تبقى الشياطين في الجحيم وتمرح الملائكة في بيتنا كما يحلو لها فقد أقلعت عن المحاولة، وفوضت أمري إلى الله.
Shafi da ba'a sani ba