إذن ليس هذا مريبا، فنظرية روح الأفلاك في الفلسفة اليونانية وفلسفة القرون الوسطى مواصلة لعبادة النجوم الابتدائية وعبادة النجوم لدى الكلديين تماما؛ ويرفع شأن هذا الاعتقاد باعتبارات عن انسجام الأعداد، فتسيطر على فلسفة فيثاغورس، ويكون لها موقع في فلسفة أفلاطون، ويزعم شارحو العرب أنها موجودة في كتب أرسطو، وإن كنا نرى أنها ظاهرة فيها قليلا، ثم عادت إلى الظهور في الأفلاطونية الجديدة، وغدت غير مادية في سنوحات الأدريين، ثم لما بدت في السكلاسية الشرقية وجد أنها أعيدت إلى مكانها الأصلي؛ أي إلى كلدة ذات الفلك الصافي، حيث كان الناس قد علقوا أبصارهم في النجوم مع التأمل. وقد قلنا: إن عبادة النجوم كانت لا تزال موجودة في ذاك الحين؛ فقد كان علماء حران عبدة نجوم؛ ولذا فإن النظرية عندما رجعت إلى هذه البقاع بشكلها الفلسفي وجدت أذهانا لم تزل خاضعة لنفوذ شكلها الديني، فلم تلق صعوبة في دخول دماغ المفكرين بفضل هذه الحال.
ولما حدث - في أوائل القرون الحديثة - ذلك الانقلاب الذي حول علم الفلك قضي بالعجب من جرأة العالم الذي قلب نظام الأفلاك بإزاحة الأرض من مكانها القديم، مقيما الشمس مقامها، ولكن من الحق أن يقال: إن الفكرة الجديدة لم تكن فكرة إزاحة الأرض من مركز العالم؛ وذلك لأن هذه الفكرة كانت قد تمثلت لذهن الباحثين، منذ زمن طويل، على شكل فرضية، وذلك أن مجرد كون كثير من الفلاسفة - ومنهم ابن سينا - قد كتبوا ليثبتوا أن الأرض واقعة في وسط العالم،
3
يدل على إمكان قبول النظرية المعاكسة، ولو بالعقل على الأقل، وإنما اكتشاف القرون الحديثة الحقيقي هو الاكتشاف الذي قطع به ذهن الإنسان صلته نهائيا بعادات ما قبل التاريخ في الطبيعية، فعاد لا يعتقد بسمو الأجرام السماوية، واعترف بأن النجوم مركبة من عناصر كيماوية، كالتي تتركب منها عناصر عالمنا، وبأنها خاضعة لمثل قوانينه الطبيعية والميكانية، وبما أن ابن سينا متقدم على عصر هذا الاكتشاف، فإنه لا يلام على جعل منهاجه ملائما لعلم زمانه، وهنا نكرر قولنا: إن عيب فلسفته ليس في غير استنساخ عيب العلم في عصره.
ولنرجع الآن إلى مجرى عرضنا: إن المعضلة الكبرى التي كانت أول ما توضع في النظرية العامة لانبثاق الموجودات هي معضلة انبثاق التكثر، والأمر يدور حول معرفة الكيفية التي يصدر بها عالم كثير عن الموجود الواحد، والمبدأ القائم هو في أنه «لا يمكن أن يخرج من الواحد غير الواحد»، ولو بوجه غير مباشر على الأقل. فلا بد - إذن - من اكتشاف طريقة تسمح باستخراج المتكثر من الواحد على وجه مباشر، ففي سبيل هذا الغرض تصور المسبب الأول.
كان لاختراع المسبب الأول فائدة رياضية يسهل تبينها، وذلك بما أنه لا يوجد أي تكثر في الواحد إذا ما نظر إليه على انفراد، فإن من المتعذر استخراج تكثر الأشياء من الواحد فقط، ولكن بما أن المسبب الأول - الذي هو واحد - قد خرج من الواحد الأول، ذات مرة، فقد ظهر اثنان، ووقع تكثر علاقات، وما هنالك من مفاهيم نفسية عن الشعور والمعرفة ممزوجة بمفاهيم ما بعد الطبيعة عن الممكن والواجب كان يعين طبيعة هذه العلاقات، وكان المسبب الأول يعرف نفسه ويعرف الموجود الأول، فكان هذا يكون اثنينية، ثم إن المسبب الأول كان ممكنا بذاته، واجبا بالموجود الأول، وبما أنه كان يعرف نفسه فإنه كان يعرف نفسه بهذين الوجهين، وهكذا كانت تحدث ثلاثية.
وكان هذا يكفي ليؤدي إلى التكثر المطلوب؛ ولذا كانت النظرية تتخذ شكلا جدليا، وإليكه:
4 «ليس في الموجود الأول تكثر، ويكون في المسبب الأول ثلاثية لا تأتيه من الموجود الأول، وإنما يأتي وجوب المسبب الأول من الموجود الأول، فيكون إمكانه في ذاته وما ينطوي عليه من ثلاثية يقوم - كما قلنا - على كونه يعرف الموجود الأول، وأنه يعرف ذاته مثل ممكن بذاته وواجب بالموجود الأول، ويصدر عن معرفة المسبب الأول للموجود الأول عقل يعد أول واقع تحته، وهو فلك زحل، وتصدر عن معرفة المسبب الأول لذاته، مثل واجب بالموجود الأول، وجود نفس هي نفس الفلك المحدود، ويصدر عن معرفته نفسه، مثل ممكن، وجود جرم هذا الفلك المحدود، ثم يتكرر وجه الانبثاق هذا نازلا من المرقاة الفلكية، ويصدر عن عقل زحل، من حيث يعرف الله، عقل فلك المشتري، ويصدر عن عين العقل، من حيث يعرف ذاته نفس فلك زحل، وهكذا، فإن الصدور يستمر حتى يوصل إلى العقل الفعال فيقف عنده، ويلاحظ ابن سينا أنه لا يوجد أية ضرورة لاستمرار الصدور إلى غير نهاية.
وفي هذا المنهاج يرى كيف أن تدخل المسبب الأول لإحداث بدء التكثر أمر بارع، ولكنه لا يرى في أول الأمر كيف أن وجوه معرفة المسبب الأول والعقول التالية تؤدي إلى حدوث أجرام الموجودات الفلكية ونفوسها، فهنا أعترف بصعوبة تقديم إيضاح عقلي حول هذه النقطة، ولنا أن نعتقد أن هذا الارتباك لا يأتينا عن عدم اختصاصنا أو عن نقص استيعابنا لمنهاج ابن سينا؛ فقد أراد الغزالي - الذي هو فيلسوف عربي آخر - أن ينتقد هذه النظرية، فلم ير من الضروري أن يستعين بأي دليل أو برهان لدحضها، وإنما اكتفى بتصريحه أنها لا تفهم، ومع ذلك فإنه لا بد من وجود دواع حملت ذهنا قويا مثل ذهن ابن سينا والفارابي على التزام هذا المنهاج.
وقد ذهب ابن سينا في موضع
Shafi da ba'a sani ba