إن القوة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية، حتى يكون فعلها الخاص إنما يتم باستعمال تلك الآلة الجسدانية، لكان يجب أن لا تعقل ذاتها، وأن لا تعقل الآلة، ولا أن تعقل أنها عقلت، فإنه ليس بينها وبين ذاتها آلة، وليس بينها وبين آلتها، ولا بينها وبين أنها عقلت آلة.»
وعلى العموم تدرك القوى - التي تعقل بآلة - شيئا خارجا عن ذاتها وعن هذه الآلة نفسها. أجل، إن إدراك الحواس الخاص وإدراك قوى النفس الحيوانية الأخرى يتم بآلة، غير أن الحواس وهذه القوى تدرك أمورا خارجية فقط، وهي لا تدرك آلاتها ولا ماهياتها الخاصة، والقوة العقلية وحدها هي التي تدرك ماهيتها الخاصة؛ ولذا فهي تدرك بلا آلة.
ويقول ابن سينا مواصلا: «وأيضا، مما يشهد لنا بهذا ويقنع فيه أن القوى الدراكة بانطباع الصور في الآلات يعرض لها من إدامة العمل أن تكل لأجل أن الآلات تكلها إدامة الحركة، وتفسد مزاجها الذي هو جوهرها وطبيعتها ... والأمر في القوة العقلية بالعكس، فإن إدامتها للتعقل وتصورها للأمور الأقوى يكسبها قوة وسهولة قبول لما بعدها.»
26
ولو كانت القوة العقلية خاصية جسمانية مشابهة للأخرى، لوجب أن تضعف بعد سن الأربعين. أجل إنه يعترض بأن النفس في دور الهرم وفي بعض الأمراض تنسى ما أدركت، غير أنه لا قيمة لهذا الاعتراض؛ وذلك لأننا بعد إثبات كون النفس تعمل بذاتها، إذا ما سلمنا - زيادة على ذلك - بأنها تنقطع عن العمل عندما يعوزها البدن، لا يمكننا أن نجد في ذلك تناقضا ولا إشكالا.
وهناك وجه آخر للإثبات يقوم على بيان أن مكان المعقولات جوهر غير عقلي، ويطبق هذا الدليل على النفس العاقلة كما يمكن أن يطبق على العقل الفعال، فابن سينا يقدمه في «النجاة» على شكل رياضي، نرى من حب الاطلاع نقله، قال المؤلف:
27 «إن الجوهر الذي هو محل المعقولات ليس بجسم، ولا قائم بجسم على أنه قوة فيه أو صورة له بوجه، فإنه إن كان محل المعقولات جسما أو مقدارا من المقادير، فإما أن يكون محل الصور فيه طرفا منه لا ينقسم، أو يكون إنما يحل منه شيئا منقسما، ولنمتحن أولا أنه هل يمكن أن يكون طرفا غير منقسم، فأقول إن هذا محال؛ وذلك أن النقطة هي نهاية ما لا تميز لها في الوضع عن الخط والمقدار الذي هو منته إليها حتى ينتقش فيها شيء من غير أن يكون في شيء من ذلك الخط، بل كما أن النقطة لا تنفرد بذاتها، وإنما هي طرف ذاتي لما هو بالذات مقدار كذلك، إنما يجوز أن يقال بوجه ما: إنه يحل فيها شيء إذا كان ذلك الشيء حالا في المقدار الذي هي طرفه ، فيتقدر به بالعرض، فكما أنه يتقدر به بالعرض كذلك يتناهى بالعرض مع النقطة.
ولو كانت النقطة منفردة تقبل شيئا من الأشياء لكان يتميز لها ذات، فكانت النقطة حينئذ ذات جهتين؛ جهة منها تلي الخط الذي تميزت عنه، وجهة منها مخالفة لها مقابلة، فتكون حينئذ منفصلة عن الخط، وللخط نهاية غيرها يلاقيها، فتكون تلك النقطة نهاية الخط، لا هذه، والكلام فيها وفي هذه النقطة واحد، ويؤدي هذا إلى أن تكون النقط متشافعة في الخط، إما متناهية وإما غير متناهية، وهذا أمر قد بان لنا في مواضع أخرى استحالته، فقد بان أن النقط لا تتركب بتشافعها، وبان أيضا أن النقطة لا يتم لها وضع خاص، ونشير إلى طرف منها، فنقول: إن النقطتين حينئذ اللتين يطيفان بنقطة واحدة من جنبتيها، إما أن تكون النقطة المتوسطة تحجز بينهما فلا يتماسان، فيلزم حينئذ في البديهة العقلية الأولية أن يكون كل واحد منهما يختص بشيء من الوسطى تماسه، فتنقسم حينئذ الواسطة، وهذا محال، وإما أن تكون الوسطى لا تحجز المكتنفتين عن التماس، فحينئذ تكون الصورة المعقولة حالة في جميع النقطة، وجميع النقط كنقطة واحدة، وقد وضعنا هذه النقطة الواحدة منفصلة عن الخط، فللخط من جهة ما ينفصل عنها طرف غيرها به ينفصل عنها، فتلك النقطة تكون مباينة لهذه في الوضع، وقد وضعت النقط كلها مشتركة في الوضع.
هذا خلف، فقد بطل أن يكون محل المعقولات من الجسم شيئا غير منقسم، فبقي أن يكون حلها من الجسم، إن كان محلها جسما، شيئا منقسما، فلنفرض صورة معقولة في شيء منقسم، فإذا فرضناها في الشيء المنقسم انقساما عرض للصورة أن تنقسم، فحينئذ لا يخلو إما أن يكون الجزءان متشابهين أو غير متشابهين، فإن كانا متشابهين فكيف يجتمع منهما ما ليس إياهما، اللهم إلا أن يكون ذلك الشيء شيئا يحصل فيهما من جهة الزيادة في المقدار أو الزيادة في العدد لا من جهة الصورة، فيكون حينئذ للصورة المعقولة شكل ما أو عدد ما، وليس صورة معقولة بمشكلة، وتصير حينئذ الصورة خيالية، لا عقلية ... وإن كانا غير متشابهين فلننظر كيف يمكن أن يكون للصورة المعقولة أجزاء غير متشابهة ، فإنه ليس يمكن أن تكون الأجزاء الغير المتشابهة إلا أجزاء الحد التي هي الأجناس والفصول، ويلزم من هذا محالات منها أن كل جزء من الجسم يقبل القسمة أيضا في القوة قبولا غير متناه، فيجب أن تكون الأجناس والفصول بالقوة غير متناهية.
وقد صح أن الأجناس والفصول الذاتية للشيء الواحد ليست في القوة غير متناهية، ولأنه ليس يمكن أن يكون توهم القسمة يفيد الجنس والفصل تمييزا بينهما، بل ما لا يشك فيه أنه إذا كان هناك جنس وفصل يستحقان تمييزا في المحل أن ذلك التمييز لا يتوقف على توهم القسمة، فيجب أن تكون الأجناس والفصول بالفعل أيضا غير متناهية. وقد صح أن الأجناس والفصول وأجزاء الحد للشيء الواحد متناهية من كل وجه، ولو كانت غير متناهية بالفعل لما كان يجوز أن يجتمع في الجسم اجتماعا على هذه الصورة، فإن ذلك يوجب أن يكون الجسم الواحد انفصل بأجزاء غير متناهية، وأيضا لتكن القسمة وقعت من جهة، فأفرزت من جانب جنسا ومن جانب فصلا، فلو غيرنا القسمة لكان يقع منها في جانب نصف جنس ونصف فصل، أو كان ينقلب الجنس إلى مكان الفصل والفصل إلى مكان الجنس، فكان فرضنا الوهمي يدور مقام الجنس والفصل فيه، وكان يغير كل واحد منهما إلى جهة ما بحسب إرادة من بدن خارج، على أن ذلك أيضا لا يفنى، فإنه يمكننا أن نرقع قسما في قسم، وأيضا ليس كل معقول يمكن أن يقسم إلى معقولات أبسط منه؛ فإن ها هنا معقولات هي أبسط المعقولات ومبادئ للتركيب في سائر المعقولات، وليس لها أجناس ولا فصول، ولا هي منقسمة في الكم، ولا هي منقسمة في المعنى، فإذن ليس يمكن أن تكون الأجزاء المتوهمة فيه غير متشابهة، كل واحد منها هو في المعنى الكل، وإنما يحصل الكل بالاجتماع، فإذن كان ليس يمكن أن تنقسم الصورة المعقولة، ولا أن تحل طرفا من المقادير غير منقسم ، ولا بد لها من قابل فينا، فبين أن محل المعقولات جوهر ليس بجسم، ولا أيضا قوة في جسم، فيلحقه ما يلحق الجسم من الانقسام، ثم يتبعه سائر المحالات.
Shafi da ba'a sani ba