وأما الخير والشر، والموافق والمخالف، وما أشبه ذلك فهي أمور في أنفسها غير مادية؛ (لأنها من المعقولات)، وقد يعرض لها أن تكون في مادة ... والوهم إنما ينال ويدرك أمثال هذه الأمور ... فهذا النزع أشد استقصاء وأقرب إلى البساطة من النزعين الأولين، إلا أنه - مع ذلك - لا يجرد هذه الصورة عن لواحق المادة.» والعقل وحده هو الذي يدرك الصورة المجردة عن المادة وعن جميع لواحقها. •••
وقد قدمنا نظرية العقل عند الكلام عن الفارابي، فإذا عدنا إليه هنا بإيجاز؛ فلكيلا نقطع وحدة عرضنا، وذلك فضلا عن ملاحظتنا أن هذا المذهب هو من أهم جميع ما في هذه الفلسفة، وأبرز ما تنطوي عليه وأجمل، وأن الوجه الذي يعرضه به ابن سينا يختلف به بعض الاختلاف عن سلفه.
قال ابن سينا نقلا عن الفارابي، ولكن من غير أن يذكره: «الحس هو عالم الخلق، والعقل هو عالم البدء، وأما الذي هو فرق الاثنين فلا يدركه الحس ولا العقل.» ويقسم العقل أو النفس الناطقة (العاقلة) إلى عقل عملي، وعقل نظري، كما كنا قد أشرنا إليه؛ فأما الأول فهو القوة المحركة التي تسيطر على الفعل، وهو على اتصال بما هو تحته؛ أي بالعالم الحيواني الذي يجب أن يهيمن عليه. وأما الثاني فهو القوة المدركة، التي نطلق عليها اسم العقل حصرا، وهو على اتصال بما هو فوقه؛ أي بالمبادئ العليا التي يجب أن يخضع لها. وليعلم - دائما - ما وجهنا إليه نظر قرائنا من ترتيب مدرج.
ويقسم العقل النظري بدوره إلى سلسلة مرتبة من العقول الخاصة، نظمت وظائفها وفق مفهوم ما بعد الطبيعة في القوة والفعل، وذلك وفق ما كان الفارابي قد علمنا إياه سابقا، فموضوع المذهب يقوم على تناول العقل في حال القوة، وجعله ينتقل إلى الفعل. وكان الفارابي قد اتخذ في هذا السبيل ثلاث مراق موضوعة في نفس الإنسان، أقام فوقها العقل الفعال خارج النفس. وأما ابن سينا فقد قال بأربع مراق، لحم بها من عل عقلا خفيا كان سلفه قد تركه خارج هذه النظرية قليلا، وهو لم يغفل عن إضافة العقل الفعال إلى هذه العقول الخمسة.
وإليك كيف ينبثق فيلسوفنا:
19
توجد للقوة ثلاثة أنواع؛ فالأول هو قوة للاستعداد المطلق الذي لا يخرج منه شيء إلى الفعل، وهذه كقوة الصبي على الكتابة، وهذه هي القوة المادية، ثم تكون القوة استعدادا قريبا من الفعل، ولكن من غير أن يتحقق هذا الفعل لعدم وجود الواسطة أو المعرفة، وذلك كقوة الصبي على الكتابة، إذا كان لا يعرف شيئا، أو كان القلم غير موجود ، وتسمى هذه القوة قوة «ممكنة»، ويسميها آخرون «ملكة»، ثم يكون الاستعداد تاما، ولا يعوزه غير الإرادة، وذلك كالقدرة على الكتابة لدى الكاتب عندما تكون عنده وسائطه، ويسمي ابن سينا هذه القوة «ملكة»، ويسميها آخرون «كمال قوة».
والواقع أنه كما يوجد ثلاث أحوال للقوة يوجد للعقل ثلاث أحوال، والعقل ما قلنا إنه خاصية أو قوة في الأساس؛ فالأولى هي العقل الهيولاني الذي ليس سوى إمكان مطلق للعلم، ويصرح الفيلسوف بأنها سميت هيولانية تشبيها بالهيولي الأولى، التي ليست سوى إمكان مطلق لتقبل الصور، وهي من علم النفس على أساس ما بعد الطبيعة، والحال الثانية هي العقل الممكن أو «العقل بالملكة» الذي يكون بالفعل بالنسبة إلى السابق؛ وذلك لأنه يحصل على أشياء كالحقائق الأولية الضرورية، مثل كون الكل أعظم من الجزء، وكون الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، ولا تجد هاتين الدرجتين في الفارابي، والدرجة الثالثة هي درجة العقل الذي يكون في حال الاستعداد التام، والذي يمكن أن تحصل فيه في كل وقت صور المعقولات المكتسبة بعد الحقائق الأولية، وتسمى هذه الدرجة «العقل بالفعل»، وإن كان لا يزال بالحقيقة درجة «العقل بالقوة» العليا.
وبما أن العقل يكون مستعدا على هذا الوجه، فإن قوة إدراك الصور تتحقق فيه، ويتحول هذا العقل إلى ما يجب أن يسمى «العقل بالفعل» ضبطا، ولكن الاصطلاح الناقص يطلق عليه اسم «العقل المستفاد».
ويضع ابن سينا فوق هذه الدرجة من العقل حالا ثالثة، مشتركة بين عدد قليل من الناس، وهي ما يسميها «العقل القدسي»، فهذا العقل يعرف الأشياء مباشرة، وبه يدخل في التصوف.
Shafi da ba'a sani ba