عاد المنطق لا يكون مكينا في ذوق زماننا، ويا للخسارة في ذلك على ما نرى! كان المنطق - فيما مضى - علما مليحا ومن أتم ما شاد ذهن الإنسان، ثم سقطت مكانته بسبب ما أدخل من سوء استعمال في القياسات، ولكن ليعلم أنه كان من السهل إصلاح هذا السوء وتنقية الأسلوب من القياس، وأن القياس لم يكن جميع المنطق، وأنه لم يكن غير قسم منه فقط، لا أمتع ما فيه،
1
فالمنطق في مجموعه كان يؤلف منذ الزمن القديم علما واسعا حيا، قائما في أساس جميع أقسام الفلسفة الأخرى؛ من علم نفس، وطبيعيات، وإلهيات، وأخلاق، ومن سياسة أيضا.
والحق أن المنطق كان آلة العلوم وجهازها، والمنهاج الذي يعد تقدمها، والقانون الذي يصونها من الخطأ. وكان المنطق نفسه يتصل ببعض هذه العلوم إلى حد ما، ويرتبط فيها، ولا سيما علم النفس وما بعد الطبيعة. وكان هذا الاتصال المتبادل لا يؤلف حلقة مفرغة بالحقيقة، بل يؤلف توفيقا مع الإيضاح بين الأداة وموضوعها، وملاءمة تتحقق الوحدة الفلسفية بها ما دامت مبادئ المنطق تعد نتائج العلوم، وما دامت العلوم ترقب المنطق.
وإذا كانت هذه أهمية هذا العلم في المناهج القديمة، فإن من الواجب أن نشغل بالنا به. فعلى القارئ - عند رغبته في اتباعنا - أن يحتمل سماع قول عنه مهما كان الرأي الذي يحمل حوله في الوقت الحاضر. ومع ذلك فإننا لا نتورط في وحل من التمحكات، والتمحكات مما لم يأت به ابن سينا أيضا، فمنطقه واضح صريح عظيم الأسلوب، ولا غرو، فهذا المنطق نسيج عصر صالح، وهو خال من الأشكال المعقدة الجافية التي أظهرها هذا العلم في القرون الوسطى السفلى؛ ولهذا فلا احتياج إلى تجريد فكر ابن سينا من كل زخرف حشوي، ينم على فساد ذوق ما دام هذا الحشو غير موجود في أثر فيلسوفنا.
وإنا سنقتصر - بعد هذا التنبيه - على إيضاحنا في هذا الفصل ماذا كان غرض المنطق في ذهن ابن سينا، وماذا كانت أقسام هذا العلم المهمة في مدرسته، وماذا كانت الفكرة التي كونها لنفسه عن العلم على العموم.
وإليك كيف يوضح ابن سينا غرض المنطق في «النجاة»:
2 «كل معرفة وعلم فإما تصور وإما تصديق، والتصور هو العلم الأول، ويكتسب بالحد وما يجري مجراه، مثل تصورنا ماهية الإنسان، والتصديق إنما يكتسب بالقياس أو ما يجري مجراه، مثل تصديقنا بأن للكل مبدأ، فالحد والقياس آلتان بهما تكتسب المعلومات، التي تكون مجهولة، فتصير معلومة بالروية، وكل واحد منهما منه ما هو حقيقي، ومنه ما هو دون الحقيقي ، ولكنه نافع منفعة بحسبه، ومنه ما هو باطل مشبه بالحقيقي، والفطرة الإنسانية في الأكثر غير كافية في التمييز بين هذه الأصناف، ولولا ذلك لما وقع بين العقلاء اختلاف، ولا وقع لواحد منهم في رأيه تناقض.
وكل واحد من القياس والحد، فإنه معمول ومؤلف من معان معقولة بتأليف محدود، فيكون لكل واحد منهما مادة منها ألف، وصورة بها يتم التأليف. وكما أنه ليس عن أي مادة اتفقت يصلح أن يتخذ بيت أو كرسي، ولا بأي صورة اتفقت يمكن أن يتم من مادة البيت بيت، ومن مادة الكرسي كرسي، بل لكل شيء مادة تخصه وصورة بعينها تخصه، كذلك لكل معلوم يعلم بالروية مادة تخصه، وصورة تخصه منهما يصار إلى تحققه.
وكما أن الفساد في اتخاذ البيت قد يقع من جهة المادة وإن كانت الصورة صحيحة، وقد يقع من جهة الصورة وإن كانت المادة صالحة، وقد يقع من جهتيهما جميعا، كذلك الفساد في الروية قد يقع من جهة المادة وإن كانت الصورة صحيحة، وقد يقع من جهة الصورة وإن كانت المادة صالحة، وقد يقع من جهتيهما جميعا.
Shafi da ba'a sani ba