والحياة خاصة بالنفس، وهي غير خاصة بالأجسام التي هي زائلة، والنفس مكانها في العقل، وفي العقل العام جميع العقول وجميع الحيوات. وكما أن جميع الموجودات التي هي دون العقل العام - أي الكل خلا الواحد الساكن - هي ضمن العقل العام، تكون جميع الطبيعات الحية في الحي العام الذي هو النفس، وتشتمل كل حياة على حيوات كثيرة، ولكن كلا منها أقل من التي تقدمتها وأضعف، ولا تنفك الحياة تسيل، حتى تصل إلى أصغر ما يكون من طبيعة وأضعف، وتهبط القوة العامة فيها، وهذا هو الفرد الحي، وهكذا فإن جميع الأشياء المتباعدة مرتبة مجتمعة عن حب. ويجمع الحب الحقيقي - الذي هو العقل - جميع الموجودات المعقولة الحية ، ويجعلها واحدة، وهي لا تنفصل مطلقا لما لا يوجد شيء يعلو هذا الحب، فالعالم الأعلى هو حب خالص.
هذه هي الأفكار التي كان عرب القرن الرابع من الهجرة يعزونها إلى أرسطو، والآن يدرك كيف أن الفلسفة استطاعت أن تعلمهم كواحد كل مركب متباين على شكل موافق يدرك إدراكا مزجيا. أجل، كانت الفلسفة واحدة، ولكن مع وجود ألف وجه لها، وقد كانت تمتد من الاختبارية الأكثر وضعية إلى الصوفية الأكثر حمية. وكان الفيلسوف الكامل هو الذي يدرك انسجام وحدة هذه الوجوه المختلفة أحسن من غيره. وكانت المعضلة الفلسفية توضع في ذلك الزمن على هذا الوجه كما هو مجمل القول. ومهما يكن من إمكان محاولة عدها غير معقولة، فإنه إذا ما أريد إعمال الخيال وتمثل الشرق، الذي هو بلد المزج والتركيب والتأليف اعترف - بعد فحص الأمر من جميع وجوهه - بأنها لم تعوزها شاعرية ولا عظمة، تحت هذا الشكل.
الفصل الرابع
الفلاسفة والموسوعيون
معنى الفيلسوف وظهور بعض الفلاسفة قبل ابن سينا - الكندي والفارابي - أبو زيد بن سهل البلخي - كتب الفارابي وأثره العلمي والفلسفي - ما بعد الطبيعة عند الفارابي - المدينة الفاضلة - نظرية المعرفة - جماعة إخوان الصفا. ***
ليس لاسم الفيلسوف في الأدب العربي ما له في لغتنا من معنى عام مبهم، ولم يكن أولئك الذين سماهم العرب «فلاسفة» نسخا عن اليونانية جميع الباحثين عن الحقيقة، ولا جميع مديري الفكر والعقلاء والنظريين، فقد دعوا هؤلاء بالحكماء. وأما الفلاسفة - بحصر المعنى - فقد كانوا مواصلي العنعنات الفلسفية اليونانية المعدودة واحدة على الخصوص؛ فعند هؤلاء كانت الفلسفة اليونانية صحيحة صحة الوحي، وكانوا يرون أنه يوجد - على البداهة - اتفاق بين الفلسفة والعقيدة، كما بين العلم والدين في نظر المؤمنين في أيامنا.
بيد أن الفلسفة اليونانية كانت تشتمل بالحقيقة، على جملة من الأفكار المركبة المتباينة، وأنه ليس من السهل - دائما - أن يرى، أول وهلة، كيف يمكن هذه النظريات أن تلائم علم الكلام الإسلامي؛ ولذا يجب أن تكون إحدى النتائج المهمة لعملنا قائمة على الإشعار بالمدى الذي حقق فيه هؤلاء العلماء ما بين الفلسفة اليونانية والأرتدكسية الإسلامية من الانسجام، وما الحد الذي أخفقوا فيه.
ويقدم الشهرستاني
1
قائمة بأسماء عشرين رجلا استحقوا - في الأدب العربي - لقب «الفيلسوف» قبل ظهور ابن سينا، وتعرف في هذه القائمة أسماء رأيناها في فصل المترجمين؛ أي أسماء حنين بن إسحاق، وثابت بن قرة، ويحيى بن عدي. ولم يكن هؤلاء الحكماء مسلمين، وأشهر المسلمين الذين ذكرهم الشهرستاني مع أولئك اثنان، وهما: يعقوب بن إسحاق الكندي، ومحمد أبو نصر الفارابي. والكندي والفارابي هما العميدان الكبيران اللذان يهيمن اسماهما على الدور التدريجي للفلسفة العربية الممتد مدى القرنين السابقين لابن سينا.
Shafi da ba'a sani ba