ثم يصف العلاج، فإذا هو يذكر فيه التغذية الصالحة، والمنومات التي لا ضرر فيها مع العوامل النفسية على اختلافها.
وقد ذكر أحمد بن عمر بن علي النظامي، في مقالاته الأربع طريقة نفسية حسنة اتبعها ابن سينا في علاج فتى من آل بويه خولط في عقله، وتوهم أنه بقرة سائمة، فصار يمشي على أربع ويخور خوار الأبقار ويصيح بمن حوله: اقتلوني، اقتلوني، واطبخوا أكلة لذيذة من لحمي! فأوصى ابن سينا تلميذا له أن يقف على مسمع من الفتى المريض فينادي: ها هو ذا الجزار مقبل إليك، ثم دخل ابن سينا، وفي يده مدية كبيرة، وهو يقول: أين هذه البقرة لأذبحها؟ ثم أمر بالفتى فألقي على الأرض وأوثق بالحبال ووضعت المدية على عنقه ، ثم نهض الطبيب ، وهو يقول: كلا، إنها بقرة عجفاء، لا تساوي مؤونة الذبح حتى تعلف وتسمن ... وكان هذا هو العلاج المطلوب؛ لأن الفتى المخبول كان قد صدف عن الطعام وأهمل نفسه، فزاده نقص التغذية هزالا على هزال وخبالا على خبال. فلما أكل ما ينفعه ويغذيه عاد إليه العقل مع الصحة والاعتدال. •••
ومن هذه الأمثلة: نعرف بعض الشيء عن منهج ابن سينا في طبه وعلاجه. فلا نستعظم تلك المكانة العالمية على طبيب يباشر الطب على أنه علم طبيعي، بعيد من الأوهام والخرافات، ويستعين في علاجه بذلك النظر الصائب وتلك الفطنة الوحية ويحيط بعوارض الأعضاء، ولا ينسى مداخل النفس في تصحيح الأجسام.
قال الأستاذ كمستون
Cumston
في كتابه (تاريخ الطب من عهد الفراعنة إلى القرن الثاني عشر):
ما على الإنسان إلا أن يقرأ جالينوس، ثم ينتقل منه إلى ابن سينا ليرى الفارق بينهما. فالأول غامض، والثاني واضح كل الوضوح، والتنسيق والمنهج المنتظم سائدان في كتابة ابن سينا ونحن نبحث عنهما عبثا في كتابة جالينوس.
ثم تناول الأستاذ جملة من التصحيحات التي أدخلها ابن سينا على طب الأقدمين: في عوارض الجنون، والفالج، وأمراض الكبد، والصدر، والجراحات، وعلاقة بعض الأمراض بالخمر، فإذا هي خطوات أجيال خطاها رجل واحد قليل النظير ... فلا جرم يقول الأستاذ كمستون: «لعله لم يظهر قبله ولا بعده نظير لهذا النضج الباكر، وهذه السهولة الممتنعة، وهذه الفطنة الواسعة، مقرونة بمثل هذه المثابرة في مثل هذا الأفق الفسيح.»
الأديب
قال الجوزجاني تلميذ الشيخ الرئيس: ... كان الشيخ جالسا يوما من الأيام بين يدي الأمير علاء الدولة، وأبو منصور الجبائي حاضر، فجرى في اللغة مسألة تكلم الشيخ فيها بما حضره، فالتفت أبو منصور إلى الشيخ، يقول: إنك فيلسوف وحكيم، ولكن لم تقرأ من اللغة ما يرضينا بكلامك فيها. فاستنكف الشيخ من هذا الكلام، وتوفر على درس كتب اللغة ثلاث سنين، واستهدى كتاب تهذيب اللغة من خراسان: من تصنيف أبي منصور الأزهري، فبلغ الشيخ في اللغة طبقة قلما يتفق مثلها، وأنشأ ثلاث قصائد ضمنها ألفاظا غريبة من اللغة، وكتب ثلاثة كتب: أحدها على طريقة ابن العميد، والآخر على طريقة الصابي، والآخر على طريقة الصاحب، وأمر بتجليدها وإخلاق جلدها. ثم أوعز إلى الأمير فعرض تلك المجلدة على أبي منصور الجبائي، وذكر أنا ظفرنا بهذه المجلدة في الصحراء وقت الصيد، فيجب أن تتفقدها وتقول لنا ما فيها، فنظر فيها أبو منصور وأشكل عليه كثير مما فيها، فقال له الشيخ: إن ما تجهله من هذا الكتاب فهو مذكور في الموضع الفلاني من كتب اللغة. وذكر له كثيرا من الكتب المعروفة في اللغة كان الشيخ حفظ تلك الألفاظ منها. وكان أبو منصور مجزفا فيما يورده من اللغة غير ثقة فيها، ففطن أبو منصور: أن تلك الرسائل من تصنيف الشيخ، وأن الذي حمله عليه ما جبهه به في ذلك اليوم، فتنصل واعتذر إليه، ثم صنف الشيخ كتابا في اللغة سماه: (لسان العرب)، لم يصنف في اللغة مثله، ولم ينقله إلى البياض حتى توفي، فبقي على مسودته لا يهتدي أحد إلى ترتيبه.
Shafi da ba'a sani ba