15
هذه القصة نترك ما فيها كله ويبقى منها ما لا سبيل إلى تركه، وهو استعداد الموحدين للفاطميين بسلاحهم ومقابلتهم بمثل دعواهم، واستبطانهم لأسرار دعوتهم؛ لينهضوا لها بما يجري في مجراها عن اعتقاد منهم، أو عن سياسة وتدبير، وكل شيء يجري تفسيره بعد ذلك على أهون سبيل.
فالعلوم التي كانت مقبولة عند دولة الموحدين قد تتناقض وتتنافر، ولكنها تلتقي في مقصد واحد وهو لزومها في تلك المناجزة وتلك المناظرة.
وبين الغزالي وابن حزم بون بعيد في التفكير ومذاهب النظر والمعرفة، ولكنهما يلتقيان في كراهة الباطنية، فالغزالي يرد عليها ويفند أقوالها في الإمامة، وابن حزم يدين بظاهر النصوص ويحرم التأويل مع وجود النص، والتأويل - كما هو معلوم - أصل من أصول الإسماعيلية، يجيزونه بل يوجبونه ويرجعون به إلى علم الإمام بأسرار الغيب وبواطن الآيات، ويضيف ابن حزم إلى ذلك أنه كان شديد التعصب للأمويين، ولم يكن يظهر هذا التعصب لغير الأخصاء، ولكنه كان يظهر النقمة على الفاطميين الإسماعيليين ويؤلف كتابه عن جمهرة أنساب العرب
16
فينكر انتسابهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، ومن ثم إلى فاطمة الزهراء.
ولا يبعد أن يكون الخلفاء الموحدون مؤمنين بأسرار النجوم، يبحثون عن الأفلاك والعقول التي تديرها لينفذوا منها إلى خفايا تلك الأسرار، ويلفت النظر إلى هذا أول سؤال وجهه الخليفة المنصور إلى ابن رشد، وهو: ماذا يقولون عن السماء؟ •••
كانت دولة الموحدين أول دولة إفريقية تقف أمام الفاطميين موقف المناظرة في السياسة والثقافة، أما قبل ذلك فالدولة الصنهاجية في تونس كانت تتولى الأمر بإذن الفاطميين من القاهرة، ودولة الملثمين أو المرابطين التي نازعتها السلطان في المغرب الأقصى لم تكن تدرس حين نشأتها شيئا من الثقافة أو من الدين، ومضى عليها زمن وهي مشغولة بحرب القبائل البربرية والسودانية التي بقيت على الجاهلية، ولم يكد يستقر بها القرار على عهد يوسف بن تاشفين حتى شغلت بالجزيرة الأندلسية واستقدمها ملوك الطوائف إلى الأندلس لنجدتهم في حربهم مع ألفونس السادس ملك أراجون، وانصرفت جهودهم إلى هذه الناحية، وظلوا كذلك على عهد علي بن يوسف بن تاشفين حتى زالت دولتهم ولما ينقض على وفاة هذا الأمير أكثر من سنتين، وكان منهجهم في شئون الثقافة منهج البداوة في استنكار كل ما يحسبونه من البدع، ومنه علم الكلام وبحوث الفقهاء في الحكمة الدينية؛ ولهذا أحرقوا كتب الغزالي وهي من أفضل ما كتبه المتكلمون!
فالموحدون هم أول من ناظر الفاطميين (أو الإسماعيليين) في إفريقية الشمالية، وأول من تعرف علومهم ومذاهبهم ليغلبهم في ميدانهم ويقابل دعوتهم بمثلها أو بما ينقضها ويبطلها. •••
وما من حركة ثقافية في ذلك العصر يراد تفسيرها بمعزل عن هذا العامل المهم - عامل الدعوة الإسماعيلية - إلا تعذر التفسير أو وقع فيه الخطأ الكثير، ومن هذا القبيل تلك المناقشات الطويلة حول مصدر الثقافة الإغريقية التي انتقلت من الشرق إلى أوروبا، أهو إسرائيلي أم عربي؟ وموضع اللبس هنا أن الفيلسوف اليهودي ابن جبيرول (1021-1070) سبق ابن رشد بمولده وكتابته، ولكن ابن جبيرول لم يكن له مصدر غير المراجع العربية، وفلسفته الأفلاطونية الحديثة مستمدة من هذه المراجع، لم يسلم حتى من أخطائها الظاهرة وهي الخلط بين مذهب أفلوطين ومذهب أرسطو في الربوبية؛ لأن طائفة من تواسيع أفلوطين ترجمت في القرن الثالث للهجرة، ونسبت خطأ إلى أرسطو باسم أثولوجية أرسطوطاليس، وقد التبست آراء ابن جبيرول بالآراء الإسلامية والآراء المسيحية التي نقلت عنها حتى حسبه بعض الأوروبيين من فلاسفة المسلمين، وحسبه بعضهم من فلاسفة المسيحيين، ولم تتضح الحقيقة إلا في القرن التاسع عشر حين كشف المستشرق الإسرائيلي سلمون مونك
Shafi da ba'a sani ba