ويستتبع هذا القول أن الحياة بعد الموت عامة غير شخصية، ويفنى كل شيء في الإنسان إلا عقله الذي ليس هو بجوهر مستقل، بل هو عقل النوع البشري كله، عام في جميع آحاده.
وكثير من آراء ابن رشد يخالف المعتقدات الإسلامية، والواقع أنه نبذ لأن الخليفة اتهمه بانحلال العقيدة ... على أنه لم يكن جاحدا منكرا للدين، بل عنده أن الدين يصور الحقائق الفلسفية على أسلوب المجاز، وهو يميز بين التفسير الحرفي لنصوص القرآن وبين معانيها التي يدركها الحكماء ويرتفعون بها وحدها إلى الحقائق العليا، ومن واجب الفلسفة أن تنظر فيما هو من تقليد الدين، وما هو من القضايا التي تحتمل التفسير، وعلى أي وجه يكون تفسيرها. وقد تسنى لابن رشد على هذه القاعدة أن يوفق بين القول بحدوث العالم على مذهب الغزالي، والقول بقدمه على مذهب المشائين، وله رسالة خاصة يحاول بها هذا التوفيق، وفيها أول إيحاء بمذهب الحقيقة المزدوجة التي توسع فيها الرشديون اللاتين فأفرطوا في تطبيقه. •••
وهذا تلخيص أمين لفلسفة ابن رشد كما فهمها الأوروبيون في القرون الوسطى، لخصه عالم بالمصادر من المخطوطات والمطبوعات، وجاء فيه بما شغل القوم من تلك الفلسفة عدة قرون، ولم يهمل فيه إلا مسألتين، هما: مسألة علم الله بالجزئيات، ومسألة صفات الله. أما مسألة علم الله بالجزئيات فلعله أهملها لأنها لم تكن أصيلة في فلسفة ابن رشد، وأما مسألة صفات الله، فلعل الأوروبيين في القرون الوسطى أهملوها لأن إيمان العالم المسيحي بالأقانيم الثلاثة في إله واحد لم يجعل تعدد الصفات مشكلة لاهوتية لها من الشأن ما كان لهذه المسألة عند المتكلمين والمعتزلة من المسلمين، وابن رشد لم يطلع على كتب المعتزلة كما قال في كتابه عن منهاج الأدلة، فمن ثم لم يتوسع في هذا الموضوع.
وأصاب مؤلف تاريخ الفلسفة في القرون الوسطى حين قال: إن فلسفة ابن رشد كانت تخالف في بعض مسائلها ما عليه جمهرة الفقهاء من المسلمين، وقد حصر الإمام الغزالي في آخر كتابه «تهافت الفلاسفة» أهم المسائل التي دار عليها الخلاف بين الفقهاء والفلاسفة وقيل فيها بتكفير هؤلاء، وهي ثلاث مسائل: إحداها مسألة قدم العالم وأن الجواهر كلها قديمة، وقولهم إن الله لا يحيط علما بالجزئيات الحادثة من الأشخاص، والثالثة إنكارهم بعث الأجساد وحشرها.
وقبل تلخيص مذهب ابن رشد في كل مسألة من هذه المسائل الثلاث نجمل آراء الفلاسفة الإلهيين فيها، ونعني بهم الفلاسفة الذين يؤمنون بوجود الإله تمييزا لهم من الفلاسفة الماديين من الأقدمين والمحدثين.
فالفلاسفة الإلهيون الذين قالوا بقدم العالم - وعلى رأسهم أرسطو - لم يكن منهم أحد قط يقول بقدم العالم ويعني بذلك أن وجود العالم مساو لوجود الله، وإنما يقولون إن وجود العالم متعلق بإرادة الله، وإرادة الله قديمة لا تراخي لما تريده، وإن العالم لم يسبقه زمان؛ لأن الزمان من حركته.
أما علم الله بالجزئيات، فلم يوجد فيلسوف إلهي قط ينكر إحاطة الله - سبحانه وتعالى - بالجزئيات أو الكليات، وإنما ينزهون علم الله أن يكون كعلم الإنسان؛ فإن علم الإنسان تابع للأشياء التي يعلمها، وهو يعلمها جزءا جزءا ثم يحكم عليها جملة، ويستخرج من علم الجزئيات علمه بالكليات.
والفلاسفة ينزهون علم الله أن يكون كهذا العلم، ويقولون إن الله محيط بالجزئيات قبل وقوعها، على نحو أشرف وأكمل من العلم الذي يتاح للإنسان ويكون في كل حال تابعا لما يعلمه متوقفا عليه.
أما البعث، فإن الفلاسفة الماديين لا يؤمنون ببعث الأجساد ولا ببعث النفوس، وليس من الفلاسفة الإلهيين من ينكر بعث الأجساد إنكارا منه لقدرة الله على بعثها، ولكنهم يقولون إن الأرواح المفارقة أشبه بالعالم الأعلى، ومن آمن بالله وآمن بقدرة الله وآمن بالبعث فما هو من الملحدين.
وأما مسألة الصفات التي لم يذكرها الغزالي مع تلك المسائل الثلاث، فلم تكن موضوع بحث عند الفلاسفة الإغريق، ولم يكن لها شأن كبير عند فلاسفة الأوروبيين في القرون الوسطى، ولكنها أثارت الجدل الطويل بين علماء الكلام والمعتزلة والفلاسفة من المسلمين، ومثار الجدل فيها أن بعض الفلاسفة يقولون: إن صفات الله هي غير ذاته، وإن الصفات ليست بزائدة على ذات الله؛ لأن ذاته - سبحانه وتعالى - كاملة لا تتعدد، وغير هؤلاء الفلاسفة يردون عليهم ليوافقوا بين تعدد الصفات ووحدانية الله.
Shafi da ba'a sani ba