وفي اللغة والأدب كان - كما حكى عنه أبو القاسم بن الطيلسان - يحفظ ما أثر من شعر أبي تمام والمتنبي، ويكثر التمثل به في مجلسه، ويورد ذلك أحسن إيراد.
ولم يكتف فتانا أو رجلنا بعلوم الدين واللغة التي حذقها، بل سمت به همته، ودفعه عقله الطلعة إلى دراسة التعاليم «الرياضيات»، والطب، وغير ذلك من علوم الحكمة على أبي جعفر بن هارون الترجاني. وأبو جعفر هذا كان «محققا للعلوم الحكمية، متقنا لها، معتنيا بكتب أرسطوطاليس وغيره من الحكماء المتقدمين، فاضلا في صناعة الطب متميزا فيها.» كما يذكر صاحب «عيون الأنباء في طبقات الأطباء».
وهكذا درس أبو الوليد أو الحفيد العلم من معينه، وأخذه عن أعلامه، وابتدأ في العناية به منذ حداثته، واستمر على هذه العناية به، حتى ليروي ابن الأبار عنه «أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة بنائه على أهله، وأنه سود فيما صنف وقيد وألف وهذب نحوا من عشرة آلاف ورقة.» ولعمر الحق، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء!
علمه وفضله وخلقه
وقد أعانته تلك الدراسة الجادة العالمة على أن صار علما من أعلام عصره البارزين، حتى صار «يفزع إلى فتواه في الطب كما يفزع إلى فتواه في الفقه.» وحتى كان في علوم الأوائل «الفلسفة» «له الإمامة فيها دون أهل عصره.» مع الحظ الموفور من الإعراب والآداب، ومع صحة النظر، وجودة التأليف، والبصر الدقيق الألمعي بالأصول والفروع. وقصارى القول: فإن الذين ترجموا له من العلماء المعاصرين، أو الذين تأخر بهم الزمن عنه، يكادون يجمعون على أنه لم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا.
كذلك يصور لنا هؤلاء المؤرخون الثقات ابن رشد الحفيد في دراساته وعلمه.
أما في صفاته النفسية وخلاله وأخلاقه، فيكفينا أن نورد حكم ابن الأبار؛ إذ يقول: «وكان على شرفه أشد الناس تواضعا، وأخفضهم جناحا»، وأنه «تأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة، فلم يصرفها في ترفيع حال ولا جمع مال، إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصة، ومنافع أهل الأندلس عامة». •••
وهنا مواضع يصح أن نقف فيها وقفات قصيرة.
لقد كان ابن رشد إمام عصره في الفقه وعلوم الفلسفة، وكان مع ذلك أشد الناس تواضعا، وأخفضهم جناحا، فهل هذا علة لذاك، أو الأمر بالعكس؟ أي إنه كان كبيرا في علمه فكان كبيرا في تواضعه! نعتقد أن هذا هو الصحيح المعقول الذي يتفق مع طبائع الأمور والأشياء.
إن الجاهل إذا عرف مسألة من مسائل العلم ولو كانت هينة؛ تاه بها، وانتفخت أوداجه، وظن أنه أوتي ما لم يؤت غيره، مثله في هذا مثل المحروم، المحدود الأفق، والمضيق عليه في الرزق، يمشي مصعرا خده للناس إن كسب في يده أكثر مما كان يرجو، وأكثر مما يحتاجه ليومه.
Shafi da ba'a sani ba