ولا عجب! فهي كما يقول ابن بسام في «الذخيرة»: «قرارة أهل الفضل والتقى، ووطن أولى العلم والنهى، وقلب الإقليم، وينبوع متفجر العلوم.»
ونعتقد أن ابن بسام لم يبالغ فيما وصف به هذه الحاضرة؛ ففي «نفح الطيب» وغيره من المراجع الأصيلة التي أرخت الأندلس وعظمتها وأهلها على ذلك دليل، وأي دليل!
هذا المقري يروي عن علي بن سعيد، عن والده، أن أهل قرطبة أشد الناس عناية بالكتب، وأن أعيانها كان من مفاخرهم أن يقال: إن فلانا عنده هذا الكتاب النادر، وإن ذلك الكتاب عنده دون الناس جميعا.
وهذا خبر نأتي به، على طول فيه، يبين لنا كيف يكون الكلف بشراء الكتب وتحصيلها حتى عند الجاهلين، قال الحضرمي: «أقمت مدة بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيها وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط فصيح، وتفسير مليح، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه، فيرجع المنادي بالزيادة علي، إلى أن بلغ فوق حده، فقلت له: يا هذا، أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوى! قال : فأراني شخصا عليه لباس رياسة، فدنوت منه وقلت له: أعز الله سيدنا الفقيه! إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك؛ فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده، فقال لي: لست بفقيه ولا أدري ما فيه، ولكن أقمت خزانة كتب واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب، فلما رأيته حسن الخط، جيد التجليد استحسنته ولم أبال بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير! قال الحضرمي: فأحرجني وحملني على أن قلت له: نعم، لا يكون الرزق كثيرا إلا عند مثلك! يعطى الجوز من لا له أسنان! وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب وأطلب الانتفاع به يكون الرزق عندي قليلا، وتحول قلة ما بيدي بيني وبينه!»
وإذا كان الشيء يذكر بالشيء؛ فإن حديث هذا الحضرمي وسوق قرطبة يذكرنا بمناظرة كانت بين ابن رشد نفسه والرئيس أبي بكر بن زهر في المفاضلة بين قرطبة وإشبيلية، قال فيها فيلسوفنا لزميله: ما أدري ما تقول! غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة لتباع فيها، ونقول: وكفى بذلك فضلا لها عما سواها من مدائن الأندلس وحواضرها!
تلك قرطبة منبت ابن رشد ووطنه الأصغر. أما وطنه الأكبر؛ أي الأندلس عامة، فبلغ من حب أهلها للعلم أن كانوا ينبعثون إلى طلبه بباعث قوي من أنفسهم، وكانوا يعنون بالعلوم كلها إلا الفلسفة والتنجيم، فكانا موضوع عناية الخاصة، ولا يتظاهر بهما مخافة العامة، كما يروي المقري، اللهم إلا إن كان أميرا أو خليفة يحب النظر الحر ويدعو إليه.
تلك كلمة عن قرطبة والأندلس عامة: أمرائها وأهلها، وعن العصر الذي عاش فيه ابن رشد وكان سجلا وعى ما ترك من علم وفلسفة، ومنها عرفنا أن تلك البيئة وذلك العصر كانا يدفعان إلى العلم - بصفة عامة - دفعا شديدا، ويشجعان على النظر الحر والفلسفة أحيانا.
ولنتكلم الآن عن ابن رشد في بيته قبل أن نتكلم عنه في نفسه وفلسفته .
نشأته
ابن رشد الجد أو الفقيه
Shafi da ba'a sani ba