هذه السعادة يشاهد من وصل إليها، كما يقول ابن طفيل، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أو كما يقول حجة الإسلام - في كتابه «المنقذ من الضلال» - بأن من وصل إلى هذه الحال يترقى إلى درجات يضيق عنها النطق، ويخطئ من يحاول التعبير عنها، ثم ينتهي به الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول، وطائفة الاتحاد، وطائفة الوصول! (2)
والآن، بم يكون الاتصال بالعقل الفعال؟ وكيف يكون في رأي ابن رشد؟ إننا ننتظر منه، إذا كانت رسالته حقا الانتصاف للتفكير الفلسفي ورد اعتبار الفلسفة إليها، أن يعالج هذه المسألة علاجا يبين فيه الارتكاز على العقل والعلم والتفكير، وأن يبعد من وسائل الاتصال ما أدخله أسلافه في الشرق والغرب «من الفارابي إلى ابن طفيل»، مما يقوم على الزهد والتصوف، وإصلاح الجزء العملي من النفس بالأخلاق الفاضلة والرياضات الصوفية، حتى يصير المرء كلما زاد من الارتياض - كما يقول ابن سينا في «الإشارات» - زاد نصيبه من هذا الإشراق الإلهي.
هذا ما يجب أن نترقبه من ابن رشد إذا كان مجدا في العمل على تحقيق رسالته، فهل حقق ما ترقبناه؟ نعم! وإلى القارئ في شيء من الإيجاز.
لقد عني بهذه المسألة عناية كبيرة، فخصص لها ثلاث رسائل من مؤلفاته، وكلها تدور حول النفس وسعادتها، والعقل الإنساني وإمكان اتحاده أو اتصاله بالعقل الفعال. وهذه الرسائل توجد بالعبرية، وقد أفاد منها مونك ورينان، المستشرقان الفرنسيان المعروفان. هذا فضلا عن تناولها استطرادا في مناسبات عديدة في شرحه للمقالة الثالثة من رسالة النفس التي خصصها المعلم الأول لهذا الموضوع.
إلا أنه مما يملأ النفس ألما أن لم يبق لنا شيء من هذه الكتابات باللغة العبرية، بل ليس لدي ساعة كتابة هذه السطور إلا التلخيص الذي أعطانا إياه مونك لإحدى هذه الرسائل، وإلا ما ذكره استطرادا في شرحه للمقالة الثالثة من رسالة النفس - كما ذكرنا - حسب ما جاء في مونك ورينان. (3)
ورأي فيلسوف قرطبة في هذه المسألة أو المشكلة يتلخص في نقطتين؛ الأولى: الطريق الذي يتم به اتصال العقل الإنساني بالعقل الفعال، والثانية: بم يتم الاتصال؟
ففي النقطة الأولى؛ يرى أن المرء - بما فيه من عقل - يتشوف حتما للاتصال بالعقل الفعال، وهذا يعمل من ناحيته على جذب العقل الإنساني فيرتفع إليه، وذلك يكون بالانتقال من القوة إلى الفعل، وإدراك ما يمكن إدراكه من الحقائق المختلفة، وبهذا التفكير يمرن العقل على الفهم، ويكون أكثر استعدادا وأهلية للاتصال والأخذ مباشرة بطريق الفيض العلوي عن العقل الفعال.
أما الاتصال وبماذا يكون، وتلك هي النقطة الثانية من المسألة؛ أي أيكون بالزهد والتصوف ورياضة النفس؟ أم بالدرس والتفكير والعلم وحده؟ أم بوسائل تجمع هذا كله؟ يجيب فيلسوفنا عن ذلك بأن وصول العقل الإنساني إلى الدرجة العليا من الكمال، نعني إلى الاتحاد أو الاتصال بالعقل الفعال أو الله تعالى ذاته، ليست وسائله واحدة للناس جميعا، على أنه لا بد من توفر ثلاثة أمور فيمن يسعد بهذه النعمة؛ أي نعمة الوصول. هذه الأمور هي: قوة العقل الأصلية، وكمال العقل بالفكر أو التفكير السليم، وعون وإلهام غير طبيعي من الله. (4)
بذلك ابتعد ابن رشد عن مجاهدات الصوفية التي يرونها شرطا ضروريا للكشف والوصول، فهو لهذا أقل الفلاسفة الأندلسيين، بل المسلمين تصوفا، إنه يقول - فيما نقل عنه: «إنه لا يصل الإنسان إلى الكمال العقلي النهائي إلا بالدرس والتفكير النظري .» كما يذكر مونك في كتابه «أمشاج من الفلسفات العبرية والعربية»، كما يقول: «إن المرء يصل إلى الله تعالى حينما يقدر بالتأمل والتفكير أن يخترق الحجب، ويجد نفسه وجها لوجه أمام الحقيقة العليا.» كما ذكر عنه رينان في كتابه «ابن رشد ومذهبه».
وحقيقة، إن الحفيد لم ينس أن يطلب ممن يتشوف إلى الوصول أن يهجر الشهوات، إلا أنه لم يجعل هذا كافيا وحده فيما يريد من الوصول، كما هو رأي جمهرة الصوفية، وكذلك لم ينس دور الأخلاق - لتطهير النفس - في هذه الناحية، إلا أنه جعله دورا ثانويا جدا؛ ما دام يصرح بصوت عال بأنه بالعلم نستطيع أن نصل إلى ما نرجو من الكشف والاتصال والسعادة القصوى بعون الله وإلهامه.
Shafi da ba'a sani ba