ونعتقد أن الأمر خطير، وأن اللحظة حاسمة بالنسبة إلى فيلسوف قرطبة الأرسطوطاليسي العقل؛ الفيلسوف الذي نعرف اعتداده بالنظر إلى درجة أن يجيز أن يخالف في نتائجه الإجماع في الأمور النظرية، وأن يقطع بوجوب تأويل ما يخالف نتائج النظر المنطقي الصحيح من ظواهر النصوص.
نعم! الأمر جد خطير، واللحظة حاسمة، ولكن فيلسوفنا أخذ يسوس المشكلة سياسة لبقة حكيمة، ويعالج الأمر بتسامح وبعد نظر، حتى نجح أو صار قريبا من النجاح الذي أراد.
ها هو ذا، ونحن نعلم كم أشاد بالنظر العقلي، وكم أشار به، نراه يصرح بأن هناك أمورا يعجز العقل عن معرفتها، وإذن فلا مناص من الرجوع فيها إلى الوحي. ولا عجب؛ فقد جاء الوحي - كما يقول - متمما لعلوم العقل؛ لأن «كل ما عجز عنه العقل أفاده الله تعالى الإنسان من قبل الوحي».
وهذه الأمور التي يعجز العقل عن إدراكها سيجيء عما قريب بيانها وذكر مثل لها، ولكنا نذكر الآن أنها - كما يقول في كتابه «تهافت التهافت» - أمور من «الضروري علمها لحياة الإنسان ووجوده» وسعادته. وقد كرر هذه الحقيقة وأكدها في موضع آخر، حين رأى أن الفلسفة تعنى بفحص ما يجيء به الشرع؛ فإن أدركته كان ذلك أتم في المعرفة، وإلا «نادت بقصور العقل الإنساني، وأن ذلك مما يدركه الشرع وحده».
هذه الأمور التي يحتاج فيها إلى الشريعة، ولا يكفي العقل في معرفتها، تتلخص - كما يرى ابن رشد - في معرفة الله معرفة تامة بالقدر الممكن في هذه الحياة، وفي السعادة والشقاء الإنساني في هذه الحياة الدنيا وما بعدها، وفي وسائل هذه السعادة وأسباب هذا الشقاء.
ذلك بأن الفلاسفة يرون أن الإنسان لا تقوم حياته وسعادته إلا بالفضائل النظرية والخلقية. وهذه تعتمد معرفة الله وتعظيمه بالعبادات المشروعة وفق الملل المختلفة، مثل القرابين والأدعية والصلوات ونحو ذلك مما لا يعرف إلا من الشرع الموحى به، كما يذكر في «تهافت التهافت»، أو على الأقل - كما يذكر في «كشف الأدلة» - هذه الأمور «لا تعرف كلها أو معظمها إلا بوحي، أو يكون معرفتها بوحي أفضل».
ولا عجب في هذا؛ فإن «الفلسفة - كما يذكر في التهافت - تنحو نحو تعريف بعض الناس سعادتهم، وهم من عندهم استعداد لتعلمها، أما الشرائع فتقصد تعليم الجمهور عامة.» ولذلك كان العلم الذي يأتي به الوحي رحمة لجميع الناس.
وهذا الرأي الذي ذهب إليه ابن رشد في الوحي، وأنه ضروري، وتحديد الصلة بينه وبين العقل بجعله لكل منهما مكانا عليا على ما يؤخذ من نصوص الكشف والتهافت. هذا الرأي قد يظن متعارضا وما جاء في كتابه الآخر «فصل المقال» خاصا بعلو النظر العقلي، وأن العقل قادر على الوصول لكل ما تجيء به الشريعة من حقائق وتعاليم، وأن قصارى الوحي أن يبين للجمهور - في صور ورموز - الحقائق التي يكشفها عقل الفيلسوف خالصة مما يكسوها في الوحي من تلك الرموز والأمثال، وأنه من أجل ذلك قد «انقسم الشرع إلى ظاهر: هو تلك الأمثال المضروبة لتلك الحقائق والمعاني الخفية، وباطن: وهو هذه الحقائق والمعاني التي لا يصل إليها إلا ذوو البرهان.» كما يقول في «فصل المقال».
قد يظن التعارض بين ما ذهب إليه هنا وما ذهب إليه هناك كما قلنا؛ ولهذا أساء بعض مؤرخي الفلسفة الإسلامية فهم موقفه، فبعضهم معتمدا على نصوص الكشف والتهافت وحدهما جعله «غير عقلي
Antirationalirte »، وبعضهم معتمدا على نصوص فصل المقال وحده جعله عقليا، بإطلاق، لا يتردد في تأويل ما لا يتفق والعقل من نصوص الدين.
Shafi da ba'a sani ba