انقسام الشرع إلى ظاهر وباطن
ولم هذه الظاهرة؛ وهي وجود آيات وأحاديث لا بد من صرفها عن ظاهرها وتأويلها لنتعرف المعاني الخفية المرادة منها؟ سبب هذه الظاهرة، أو بعبارة أخرى سبب انقسام الشرع إلى ظاهر وباطن لكل منهما أهله،
2
هو أن الناس مختلفون في الفطر والعقول.
إنهم لهذا تختلف حالاتهم في فهم النصوص وإدراك ما يراد بها، كما تختلف وسائلهم في التصديق بما يجب التصديق به من أمور هذا العالم الحاضر والعالم الآخر، ومن وجود الله وما يتصل به من سائر ما جاء به الدين من معتقدات.
ومن أجل ذلك، يقسم فيلسوف قرطبة الناس إلى ثلاث طوائف: الخطابيون، وهم الكثرة الغالبة السهلة الاقتناع التي تصدق بالأدلة الخطابية؛ وأهل الجدل - ومنهم المتكلمون - الذين ارتفعوا حقا عن العامة، ولكنهم لم يصلوا لمرتبة أهل البرهان الحقيقي؛ والبرهانيون بطبائعهم المواتية وبالحكمة التي راضوا عقولهم عليها، وأخذوا أنفسهم بها.
ولما كان الله خلق الناس على هذا التفاوت الملحوظ في الفطر والعقول، وكان من الحكمة أن يكون هذا التفاوت لدواع نقر بها جميعا، وكان من الواجب أن يجد كل في الدين المشرب الذي يناسبه، لما كان الأمر كذلك، كان لا بد أن تختلف التعاليم الدينية التي يؤخذ بها كل فريق؛ فللجمهور وأمثاله من الجدليين الإيمان بظواهر النصوص الدينية وما ضرب الله ورسوله لهم من رموز وأمثال، ما داموا لا يقدرون على الوصول إلى التآويل الصحيحة، وللعلماء أهل البرهان الإيمان بما خفي من المعاني التي ضربت لها تلك الرموز والأمثال لتقربها للعقول، وذلك بتأويل هذه النصوص.
ولكي لا يكون ضرر من هذا التقسيم الذي أريد به الخير، يجب أن نحافظ على أن يكون كل ضرب من هذه التعاليم لطائفته الخاصة لا يعدوها إلى غيرها، وألا يختلط أحدهما بالآخر؛ ولذلك يقول الرسول: «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، ونخاطبهم على قدر عقولهم.» لأن جعل الناس جميعا ضربا واحدا في التعليم خلاف المحسوس والمعقول.
3
وقد كان فيلسوفنا عمليا فيما رأى؛ فهو يتبع ما يقرر من مبادئ؛ ولهذا نراه في كلامه على إثبات العلم لله - على النحو الذي يراه الفلاسفة - يحرم أن يتكلم مع الجمهور على هذا النحو، وإلا كان ذلك - كما يذكر في تهافت التهافت - بمنزلة إعطائهم طعاما هو سم لهم، وإن كان غذاء لآخرين.
Shafi da ba'a sani ba