Ibn Rumi: Rayuwarsa Ta Wajen Waƙoƙinsa
ابن الرومي: حياته من شعره
Nau'ikan
هذا هو عصر الثورة الفرنسية، وهكذا استهل وصفه الكاتب الإنجليزي «شارلس دكنز» في بداية قصة المدينتين، إلا أنك قد تنقل هذا الوصف إلى أمة غير الأمة الفرنسية، وعصر غير القرن الثامن عشر للميلاد، وأنت لا تخرج به عن زمانه ومكانه وفحواه؛ إذ هو وصف صادق لكل عصر من العصور في تواريخ الانتقال والاضطراب، ومن تلك العصور القرن الثالث للهجرة في دولة الإسلام الشرقية، وهو القرن الذي لا يوصف في جملته إلا بمثل هذا الوصف الغامض الجلي الذي كأنما يصف لك عصرين مختلفين، لا عصرا واحدا متناسق الأوضاع والأحوال؛ لأنه في الحقيقة عصران مختلفان، أو عدة عصور مختلفات، وإن اجتمعت في نطاق واحد من الزمان.
إن كان لكل دولة أوان للبذر، وأوان للنماء، وأوان للحصاد، فالقرن الثالث للهجرة كان أوان النماء للدولة العباسية، جاء بعيد التمهيد، وقبيل النضج والذبول، ففيه نما وأزهر كل ما بذره مؤسسو الدولة من جراثيم الخير والشر، وعناصر الصلاح والفساد، وكانت الدولة في إبانه أشبه شيء بالمرج الأخضر الذي ينمو فيه الحب والفاكهة والشوك والعشب المسموم: خضرة زاهية نضرة، ولكنها وسيمة شائهة، ومصلحة مهلكة، ومرجوة مخشية، ومختلط فيها الغذاء والسم اختلاطا لا سبيل فيه إلى التنقية والتمييز؛ فهو العصر الذي بلغ كل شيء فيه أقصاه، وأثمر كل عمل فيه نتاجه المحتوم، أثمر فيه الخطأ كما أثمر فيه التوفيق، وظهر فيه ما قدموا صالحا أو طالحا على السواء، فبدأ التمام وبدأ النقص في حين واحد، واجتمع الخليط من حضارات العرب والفرس والروم إلى الخليط من عوامل القوة والضعف والبشارة والإنذار، فكان نسيجا من ألوان الزمان لا تشبع منه عين الفنان ولا رؤية الحكيم .
وليس بنا أن نسهب في وصف هذا القرن واستقصاء تاريخه، فإنما يعنينا منه ما يحيط بفرد واحد هو الشاعر الذي نترجم لحياته، فحسبنا من تاريخ ذلك العصر ما نوضح به نواحي تلك الحياة، والقليل الوجيز من ذلك التاريخ كاف لتوضيح ما نريده في هذا المقام.
حالة الحكومة والسياسة
ولد ابن الرومي في سنة إحدى وعشرين ومائتين، وتوفي في سنة أربع وثمانين، على قول بعض الرواة، فهو قد أدرك في طياته ثمانية خلفاء؛ هم: الواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد، والمعتضد الذي توفي بعد ابن الرومي ببضع سنوات، فإذا أردنا أن نحيط بالحالة التي كانت عليها الحكومة وسياسة الدولة يومذاك؛ فلعلنا لا نستطيع أن نعرض لذلك ببيان هو أوجز من الإلمام بالمصير الذي صار إليه بعض أولئك الخلفاء؛ فمنهم واحد قتل، وهو المتوكل، وثلاثة خلعوا وقتلوا بعد خلعهم؛ وهم: المستعين والمعتز والمهتدي، وقيل: إن من الآخرين من مات مسموما، والبقية الذين ماتوا على سرير الملك لم يخل عصر أحدهم من فتنة، أو انتفاض، أو غارة خارجية، ولم يكن حظ ولاة العهود والأمراء والوزراء بخير من حظ الخلفاء، ولا مصير أكثرهم بأسلم من هذا المصير، فقل بين هؤلاء من نجا من الخلع والسجن والتعذيب واستصفاء الأموال.
وكان الخلفاء عرضة للغضب والكيد من الجند والوزراء ونساء القصور، أما الأمراء والوزراء فكانوا عرضة للغضب والكيد من جميع هؤلاء، ويزيد عليهم الخلفاء كلما قدروا على البطش، وأمنوا على أنفسهم دسائس المشاغبين والمنافسين.
إن اطراد البطش بالخلفاء والوزراء لا يدل على أمان أو انتظام في سير الأمور، ولكن هذا كله لا يزال ضعيف الدلالة على ما كانت عليه حقيقة الحال في حكومة تلك الأيام، فقد يعوزنا أن نعلم كيف كان المقتولون يقتلون، والمخلوعون يخلعون؛ لنعلم كيف كان الفساد يجري في خلائق النفوس كما كان يجري في سياسة الدولة وأعمال الدواوين، فقصارى ما يدل عليه اطراد العدوان أن شريعة الحكم لا ترعى، وأن الحكام لا تتقى، إلا أن الحكومة قد تهزل هيبتها، وتبطل شريعتها، ثم تبقى للناس بعد ذلك حرمات أخرى يتقونها، وآداب أخرى يحرصون عليها.
تبقى لهم حرمات المروءة وآداب العرف والدين، أما في ذلك العهد فقد بلغ التنكيل والتبشيع في بعض حوادث الفتك مبلغا لا حرمة معه لشرع ولا لدين ولا لمروءة.
فمن أمثلة ما كان يصيب الخلفاء ما حدث للمعتز حين طالبه الجند الأتراك بأرزاقهم، فلم يجدوا عنده ولا عند كتابه ووزرائه مالا، قال الطبري في أخبار سنة خمس وخمسين ومائتين: «فلم يرعه إلا صياح القوم من أهل الكرخ والدور، وإذا صالح بن وصيف وبايكباك ومحمد بن بغا، المعروف بأبي نصر، قد دخلوا في السلاح، فجلسوا على باب المنزل ... ثم بعثوا إليه أن اخرج إلينا، فبعث إليهم: إني أخذت الدواء أمس، وقد أجفلني اثنتي عشرة مرة، ولا أقدر على الكلام من الضعف، فإن كان أمر لا بد منه فليدخل إلي بعضكم. فدخل إليه جماعة من أهل الكرخ والدور من خلفاء القواد، فجروا برجله إلى باب الحجرة، قال: وأحسبهم كانوا قد تناولوه بالضرب بالدبابيس، فخرج وقميصه مخرق في مواضع وآثار الدم على منكبه، فأقاموه في الشمس ... فجعلت أنظر إليه يرفع قدمه ساعة بعد ساعة من حرارة الموضع الذي قد أقيم فيه ... ورأيت بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده ... فذكر أنه لما خلع دفع إلى من يعذبه، ومنع الطعام والشراب ثلاثة أيام، فطلب حسوة من ماء البئر فمنعوه، ثم جصصوا سردابا بالجص السخين، ثم أدخلوه فيه وأطبقوا عليه بابه فأصبح ميتا، وكانت وفاته لليلتين خلتا من شعبان في هذه السنة، فلما مات أشهد على موته بنو هاشم والقواد، وأنه صحيح لا أثر فيه ...»
ومن أمثلة ما كان يصيب الوزراء ما حدث لمحمد بن عبد الملك الزيات في أيام المتوكل، وذكره الطبري في أخبار سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، قال بعد أن ذكر مصادرة الأموال، ونهب الدور، وضم الضياع: «لم يزل أياما في حبسه مطلقا، ثم أمر بتقييده فقيد، وامتنع من الطعام، وكان لا يذوق شيئا، وكان شديد الجزع في حبسه، كثير البكاء، قليل الكلام، كثير التفكر، فمكث أياما ثم سوهر ومنع من النوم: يساهر وينخس بمسلة، ثم ترك يوما وليلة فنام وانتبه فاشتهى فاكهة وعنبا، فأتي به فأكل ثم أعيد إلى المساهرة، ثم أتي بتنور من خشب فيه مسامير حديد ... وكان هو أول من عمل ذلك، فعذب به ابن أسباط المصري حتى استخرج منه جميع ما عنده، ثم ابتلي به فعذب به أياما.
Shafi da ba'a sani ba