فضل ولكل ثمرة والجماعات محتاجة إلى النوعين من الناس فلولا العلماء الذين يطلبون الحقائق ويغوصون لإدراكها لجمدت الإنسانية على حالها الأولى من البداوة ولبقيت في أدنى معيشة وأدنى لون من ألوان الحياة ولولا الفريق الثاني ما كثر العمران، بل ما توافرت أسباب الحياة لأي إنسان إلا أن يعيش كما يعيش المتأبد في القفار.

٧٥ - وإن ابن حزم قد آتاه الله من الصفات ما يمكنه من فتح نور المعرفة والاستضاءة به والاتجاه معه إلى أن قضى نحبه. وكل مخايله ومواهبه تجعل منه العالم الذي فاضت بحوثه، وتناقلت الأجيال كتبه وكان له لون خاص قائم به في الفكر الإسلامي، قد تميز به ولم يشركه فيه سواه،

وأولى هذه الصفات أو تلك المواهب حافظة قوية مستوعبة جعلته يستولي على أبواب العلم استيلاء، فإن الحافظة القوية هي السبيل الأول الذي يمكن العالم من السيطرة الفكرية على ما يقرأ بحيث يربط أقصاه بأدناه وأوله بآخره وأجزاؤه بعضها ببعض، فيوائم بينها إن كانت متناسقة متلاقية ويبين التنافر فيها إن كانت غير متآخية.

وقد آتى الله سبحانه وتعالى ابن حزم حافظة واعية فقد حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ورتب مصادرها، وارتفع في ذلك إلى مرتبة الحفاظ الكبار، وعلم من آثار التابعين والصحابة ما جعله فريد وحده في المعرفة بفقههم، واستخراج الأحكام، والبناء عليها بما يتسع له منهاجه الفقهي. وكان حافظاً لسير الأولين يربط علومه التي استحفظها، ووعاها بعضها ببعض في تناسق فكري اختص به. من بين معاصريه من العلماء والفقهاء.

ولقد كان معاصروه والمؤرخون له يعجبون من قوة حافظته وعظم إحاطته، وكثرة استيعابه.

٧٦ - وكان له مع ذلك بديهة حاضرة، تجيء فيها أرسال المعاني في وقت الحاجة إليها، وتنثال عليه انثيالا فتسعفه في الجدال، وتنصره في النزال