173

Ibn Hanbal: His Life and Era – His Opinions and Jurisprudence

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

على ألا يقول في دين الله برأيه، وحرصه على ألا يتحمل تبعات الفتوى التي يفتيها للضرورة على أن يعلن رجوعه عن مسائل اشتهرت عنه، تورعًا وزهدًا، ولقد جاء إليه الكوسج الذي أعلن الرجوع عن المسائل التي رواها، وأخذ إقرارًا بها، وعرضها عليه ثانيًا (١).

٥٦ - بقيت مسألتان نجليهما دفعًا للريب عن الفقه الحنبلي، وهما كثرة فتاويه، مع تورعه عن نقل فقهه وذيوعه، وكون بعض أصحابه نقل عنه عددًا كبيرًا من فتاويه قبل أن يلقاه

والحق أن الإمام أحمد بعد محنته، وما تحمله في سبيلها قد ذاع اسمه في كل البقاع الإسلامية مقرونًا بعلم الدين بفروعه كلها، سواء أكان يتصل بالعقيدة، أم بالحديث والفقه. وقد عمر بعد المحنة أكثر من عشرين سنة، فاعتبره الناس إمامهم يرجعون إليه في الأمور التي يبتلون بها، ويريدون أن يعرفوا حكمها، وما كان ليترك الفتوى لبشر المريسي وإخوانه الذين خاضوا في مسألة القرآن، واعتبر خوضهم فيها فسقًا، بل المعقول أن يفت بما علم من أثر، وأن ينشر ما لديه من علم، وإن لم يجد حديثًا، ولو كان ضعيفًا أفتى برأيه، ومنبعه السنة، فهي صدره وورده، ومبتدؤه، ومنتهاه، ومقدمته، وغايته. ولقد أفتى كثيرًا، وكلما كثر الاستفتاء كثرت مسائل الفقه، وقد كان بعد المحنة العلم الأشم المقصود من كل البقاع الإسلامية. يجيئون إليه من كل فج عميق، ليتبركوا به، ويأخذوا من حديثه، ويستفتوه، فالكثرة في المسائل ليست غريبة، بل قلة الفتوى هي التي تكون غريبة، لأن أحدًا من الأئمة لم ينفرد بالشهرة في عصره، كما انفرد بها أحمد أو غلب، فأبو حنيفة كان يعاصره مالك والليث والأوزاعي، وكل أولئك لهم مقام في الفقه، والشافعي كان يعاصره أبو يوسف ومحمد، وأحمد، أما أحمد بعد المحنة، فلم يكن في عصره من يقاربه شهرة، وكثرة الفتوى تابعة لذيوع الاسم، واتساع الشهرة.

وإذا ذاع فقه أحمد في حياته، أو المسائل كما كان يسميه هو وأصحابه، فلا بد أن تشتهر تبعًا لشهرته، وإذا اشتهرت وذاعت، فيجوز أن ينقلها بعض من لم يلق الإمام من سمعها منه، ثم قد يدفعه الحرص والشوق إلى مشاهدة الإمام وإلى الرحلة إليه بعد أن

(١) راجع نبذة رقم ٣٨.

172