لأن الرسل - صلوات الله عليهم - مضطرون إلى الظهور والدعوة، لأجل التشريع والتبليغ، والأولياء ليس لهم ذلك، ألا ترى أنه - سبحانه - لما أكمل الدين وأتم نعمته على الناس بالقرآن العظيم، كيف أمر رسوله الأمين، في السورة التي نعاه فيها إلى نفسه، بالاستغفار والانقطاع إليه - تعالى:
إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا .
أي: أشغل نفسك بتنزيه ربك، والثناء عليه بما هو أهله، فاقتطعه بهذا الأمر الرباني من العالم نفسه، لما أكمل ما أريد منه تبليغ الرسالة، وطالبه بالاستغفار ليستره عن خلقه، في حجاب صونه؛ لينفرد به دون خلقه دائما.
والأولياء الكمل السادة الأصفياء، إذا تركوا وأنفسهم، لم يختر أحد منهم الظهور أصلا؛ لأنهم يعلمون أن الله - تعالى - ما خلقهم لأنفسهم ولا لأحد من خلقه، وإنما خلقهم له - سبحانه؛ فشغلوا أنفسهم بما خلقوا له.
فإن أظهرهم الحق من غير اختيار منهم، بأن يجعل في قلوب الخلق تعظيمهم والالتفاف حولهم للتلقي من علومهم؛ فذلك إليه - سبحانه، وما لهم فيه تعمل ولا قصد، فلا اختيار لهم مع اختيار الحق - سبحانه، فإن خيرهم ولا بد اختاروا الستر عن الخلق والانقطاع إلى الله، كما قيل لأبي اليزيد البسطامي؛ حين خلع عليه بخلعة النيابة، وقيل له: اخرج إلى خلقي، فلم يسعه إلا امتثال أمر ربه فخطا خطوة فغشي عليه، فإذا النداء: ردوا علي حبيبي، فلا صبر له عني.
لقد كان أبو اليزيد فانيا عن كل شيء، مستغرق القلب والحس والروح في النجوى والتفرغ الكامل لعبادة ربه، فلما أخرج إلى الناس، خشي أن يشغل لحظة من زمن عن عبادة ربه، ونجوى خالقه؛ فغشي على نفسه من هذا الخوف ما يشبه الصاعقة، فرد رحمة به إلى مقام الفناء، وهو مقامه، وخلعت عليه خلع الذلة والافتقار والانكسار، وهي أسمى الخلع، في عالم الأنفاس والهبات؛ فطاب عيشه ، وسجد قلبه، ثم دنا واقترب، فظفر بالمشاهدة، فزاد أنسه، واستراح روحه من أعباء الأمانة.
يقول محيي الدين: «ثم إن هذه الطائفة إنما نالوا هذه المرتبة عند الله؛ لأنهم صانوا قلوبهم أن يدخلها غير الله، أو تتعلق بسوى الله؛ فليس لهم جلوس إلا مع الله، ولا حديث إلا مع الله، فهم بالله قائمون، وفي الله ناظرون، وإلى الله راحلون ومنقلبون، وعن الله ناطقون، ومن الله آخذون، وعلى الله متوكلون، وعند الله قاطنون؛ فما لهم معروف سواه ولا مشهود إلا إياه، صانوا نفوسهم عن نفوسهم فلا تعرفهم نفوسهم، فهم ضنائن الحق - سبحانه.»
ومن صفات هذا المقام أيضا عنده: أن صاحبه لا يرى لأحد من الناس ولا لقوة من قوى الخلق عليه سلطان، وإبليس لديهم ذليل ضعيف:
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . يقول محيي الدين: «فكل عبد إلهي توجه لأحد من الخلق، أو يوجد عليه لأحد من الناس حق، فقد نقص من عبوديته لله بقدر ذلك الحق، فإن ذلك المخلوق يطلبه بحقه، وله عليه سلطان به؛ فلا يكون عبدا مخلصا خالصا لله - تعالى، وهذا هو الذي رجح عند المنقطعين إلى الله - تعالى - انقطاعهم عن الخلق ولزومهم السياحات والبراري، والسواحل والمجاهل، والفرار من الناس والانقطاع إليه - تعالى؛ حتى يفوزوا بمقام العبودية الكاملة، وإنه لهو الفوز العظيم.»
رجال الليل
Shafi da ba'a sani ba