ثم يقول: «لقد نمت في إسبانيا ما بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر، أجمل الحضارات وأغناها، وفي الوقت الذي كانت فيه أمم الشمال فريسة للفتن الدينية والمعارك الهمجية، كان سكان إسبانيا العرب يزدادون؛ فيزيدون على ثلاثين مليونا، تنسجم بينهم جميع العناصر البشرية، والعقائد الدينية، وخفق قلب الحياة الاجتماعية بأقوى نبضاته التي عرفها التاريخ؛ فلا ترى لها قرينا تقابله به غير ما نجده في الولايات المتحدة الأمريكية، من تنوع الأجناس، واتصال الحركة والنشاط؛ فعاشت في الأندلس تحت ظلال العرب طوائف من النصارى وأهل الجزيرة ويهود إسبانيا والمشرق، فكان منهم ذلك المزيج العجيب، وعاشت - بفضل ذلك التفاعل بين العناصر والعروق - جميع الآراء والعادات، وتمت الكشوف العلمية والأنظمة الفنية، وانبعثت - من تجاوب هذه القوى - مواهب الإبداع والتجديد.»
تلك شهادة كاتب أوروبي معاصر متعصب، تنطق في حرارة عميقة بعظمة تلك الحضارة الإسلامية، التي أشرقت في الأندلس، وهي حضارة لم يجد لها الكاتب مثيلا من حيث العظمة، والضخامة، والسرعة، والإنتاج، والمعارف العلمية إلا حضارة الولايات المتحدة الحديثة.
وأي حضارة تسابق تلك الحضارة الأندلسية؟ وأي أيام تضارع أيام الحكم الثاني؛ أحد ملوكها الذي أسس في قرطبة وحدها سبعا وعشرين مدرسة للتعليم المجاني؟ كما أنشأ في قصر مروان مكتبة، ضمت أكثر من ستمائة ألف مجلد، وجعلها بين الحدائق والرياض للعلماء والأدباء والشعراء، كما أصدر أمرا ملكيا لا يزال إلى يومنا عجبا من أعاجيب التقدم الإنساني، بل حلما من أحلام رجال الإصلاح الاجتماعي، فقد خصص في هذا الأمر لكل أعمى مرشد يقوده، ولكل مريض طبيب يعالجه، ولكل أمي هاد يرشده ويثقفه.
يقول المستشرق دوزي في كتابه «تاريخ المسلمين بإسبانيا»: «لقد كان كل فرد في الأندلس يعرف القراءة والكتابة، بينما كان نبلاء أوروبا لا يعرفون حتى التوقيع بأسمائهم، وكانت جامعة قرطبة منارة للعلم، لا تزاحمها منارة تماثلها في العالم، تدرس فيها العلوم الطبية والرياضية والفلكية والكيميائية دراسة ورثتها أوروبا؛ فأضاءت لها الطريق إلى هذا الملك العريض.»
ويقول الأستاذ «ح. ب. نرند» في مجموعة تراث الإسلام؛ واصفا قرطبة في القرن الرابع الهجري: «وكان الرحالة القادمون من الشمال - من أوروبا - يتسامعون بين الخشوع والرهبة بأخبار المدينة التي كان بها سبعون دار للكتب، وتسعمائة حمام للجمهور.»
ذلك هو الأفق الأندلسي، الذي حلق فيه المسلمون بأجنحتهم الجبارة؛ فنظرت إليهم الأمم بعين الخشوع والرهبة، ثم هرعت إليهم؛ لتنهل من العلم، وتقتات من الإيمان، وتتزود بالهدى.
كانت الأندلس هي المنارة التي ترسل شعاعها كالشمس تنير جنبات الأرض، وتضيف إلى أمجاد الإنسان فنونا من العلوم، وألوانا من الآداب، وفيوضا من الكشوف العلمية، والفكرية والدينية.
وتجلت الأندلس، وتحلت بأجمل حلاها في القرن الخامس الهجري، حتى ليشبهها دوزي بالممر العالمي، والجسر الذي تلاقت عنده ثقافات أوروبا القديمة بتلك الثقافة المحمدية المقدسة المنتصرة، كما تدفقت إليها معارف الشرق الإسلامي؛ فنمت وزكت حتى غدت مجمعا أعلى للفكر الإنساني العالمي.
ولقد درج التصوف مع الفكر الإسلامي منذ يومه الأول، يصعد بصعوده ويهبط بهبوطه؛ كما تدرجت المعارف الصوفية تدرجا طبيعيا، من الزهد والعزلة والذكر والتصفية القلبية، وما يلهمه صفاء القلب من فهم في كتاب الله، وإدراك لأسرار كلام رسوله، كما نشاهد في صوفية القرن الأول إلى سمات امتاز بها القرن الثاني؛ إذ انتقل التصوف إلى آفاق أرحب وأشمل، إلى معارف الروح وإلهاماتها، ومعاني المحبة وأقباسها، وحنين القلوب وأشواقها، وتعددت مدارس التصوف، وتعددت ألوانه وطرائقه ومذاهبه، تعددا ظهرت آثاره واضحة مشرقة في صوفية القرن الثالث والقرون التالية.
فمدرسة سعيد بن المسيب، وهي مدرسة التصوف الممزوج بالفقه والتوحيد، بلغت ذروتها في الأعلام الهداة: الغزالي، والرفاعي، والجيلاني.
Shafi da ba'a sani ba