عهد الملوك
لم يمكث ابن عمار في شلب فقد أصبحت في عينيه مثل سائر البلدان التي مر بها في تطوافه وإن تكن في نفسه مهد طفولة ومدرج صبا ومعهد ذكريات.
كان لا بد لابن عمار أن يأكل، وكان لا بد لحماره أن يأكل معه، ولم يكن في مقدور ابن عمار أن يقصر شعره على التجار، وما كل تاجر مثل ذلك الرجل الكريم الذي وصله، وإن تكن آمال ابن عمار تضاءلت إلا أنها في البعيد البعيد من نفسه ما زالت وهي هي، وما زالت تلقي به إلى كل متجه يرجى فيه خير.
وكانت الأندلس في ذلك الحين مقسمة إلى دويلات على كل منها حاكم وقد أصر هؤلاء الحكام أن يسموا دويلاتهم ممالك حتى يتسنى لهم أن يسموا أنفسهم ملوكا، ولقد كثر بينهم التنازع ولكنهم لم يتنازعوا في هذه التسمية قط؛ فقد اعترف كل منهم للآخر بها حتى يضمن اعتراف هذا الآخر لنفسه، ولكن التاريخ أبى أن يعترف باعترافاتهم هذه ولم يقبل أن يطلق عليهم ملوكا، ثم يسكت عنهم، وإنما أطلق عليهم اسم «ملوك الطوائف»، فكانت هذه التسمية من التاريخ دليلا على أن هذا التاريخ قد يصدق في بعض الأحايين.
كان بنو عباد هم أقوى أسرة حكمت في عهد ملوك الطوائف هؤلاء، وقد كانت إشبيلية هي مقر حكمهم، وقد تحدر الملك في بني عباد حتى وصل إلى «أبي عمرو عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد». وقد ولي الحكم بعد أبيه وأطلق على نفسه اسم المعتضد، وكان أبوه القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل من خيرة الملوك الذين حكموا في هذا الزمان. وقد سار المعتضد في طريق أبيه قليلا فكان يستشير ويعدل، ثم مال عن هذا الطريق فاستبد بالحكم وحده، ولم يكن عهده كله شرا فإن التاريخ ليقول عنه كثيرا من الخير، ولكنه كان سفاكا باطشا. ولعل النقائض لم تجتمع في شخص كما تجمعت في المعتضد؛ فهو قاس غليظ القلب، ولكنه في مجالسه رقيق الحاشية، حسن الذوق، شاعر محب للشعر، وقد كان مستمعا للشعر خيرا منه ناظما له.
سمع ابن عمار عن المعتضد وعن حبه للشعر، فشد إليه الحمار عساه أن يجد لنفسه متسعا في الزحام، ووقف ابن عمار إلى المعتضد وقد جلس إلى جانبه ابنه المعتمد وقد كان من أحسن شعراء عصره. وقف ابن عمار وألقى قصيدته التي أضنى ذهنه في إعدادها؛ فقد كان يعلم أن آمال المستقبل أجمع رهينة بأبياته هذه؛ قال ابن عمار:
أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى
والنجم قد صرف العنان عن السرى
والصبح قد أهدى لنا كافورة
لما استرد الليل منا العنبرا
Shafi da ba'a sani ba