وتذهب روميكا إلى القصر ويشتريها المعتمد من صاحبها ويتزوجها ويبدأ حب في قصر المعتمد هو حبه الأول والأخير؛ فقد عرف النساء من قبل جواري ولكنه لم يعرفهن حبيبات ولا شاعرات.
ويغير المعتمد اسم روميكا فيصير «إعتماد». وابن عمار يرى هذا فيفرح به؛ فقد سقط عن كاهله تدبير المجالس والنساء وفرغ للإمارة وحدها لا يشغله عنها إلا أن يجلس أحيانا إلى المعتمد، فلا يسمع من المعتمد إلا عن إعتماد إن كان شعرا فشعر أو يكن حديثا فحديث، وابن عمار في الحالين يشجع المعتمد أن يسير في حبه فما الشباب إلا حب وما الشعر إلا خفقة القلب صيغت، والمعتمد يقبل على هذا الحديث إقباله على حب إعتماد، والإمارة بين حديث ابن عمار وفراش إعتماد ضائعة لا تعرف أميرا غير وزيرها، فالوزير منفرد بالأمر، ولم يكن الوزير ذا ضمير مرهف، ولم يكن ذا مال، ولا هو بذي قناعة، وقد عرفت يده كيف تمتد بعد شعر المديح يقوله لسانه فهي اليوم تعرف كيف تمتد بعد شعر المديح تسمعه أذنه، وإن لم يكن لهذا سعى إلى الوزارة، فلماذا؟ فما هو بالوطني الصادق الوطنية لوجه الشرف، ولا هو بالوفي الخالص الوفاء لآل عباد، إن ابن عمار لم يكن صادق الوفاء ولا خالص السعي إلا لابن عمار وحده، وبهذا المبدأ الواقعي سار ابن عمار في وزارته وسارت به الأيام حتى إذا فاض المال لديه علا رنينه، وللمال الحرام رنين ضخم لو أن آذان المعتمد خلت لحظة لصكها، ولكن من أين لها وهي تمتلئ بحديث الحب في المساء وبالحديث عن الحب في الصباح؟ ولكن الرنين يعلو وتتواكب أصداؤه حتى تبلغ آذان المعتضد ذاته في إشبيلية فيثور.
ويصبح المعتمد ذات صباح فيقصد إلى الإيوان ويرسل في طلب ابن عمار، ولكن الحاجب يستأنيه حتى يرى رسول أبيه، ويدخل الرسول فإذا هو يحمل ورقة يأمره أبوه فيها أن ينفي ابن عمار من شلب، ويسأل الرسول تفسيرا لما يحمل فما يحير الرسول بجواب؛ فهو لا يعرف ماذا يحمل، ويعود الأمير إلى الورقة فيجد الأمر قاطعا أبكم لا يبين بغير الأمر وحده، فتدمع عين المعتمد، ويعود إلى طلب ابن عمار فيأتي الوزير ويهم بأن يفسح للحديث ما كان يفسح ولكن المعتمد مقطب الوجه مغرورق العينين مكروب النفس، فلا يسأله ابن عمار عما به فقد تعود أن تتهدى إليه نفس المعتمد دون أن يسعى إليها، ولا يطول الصمت بالمعتمد بل هو يفضي لابن عمار بما حمله الرسول، فيخفف ابن عمار عن المعتمد وإن يكن الخبر قد أكربه إلا أنه يعلم من أين يلج إلى النفوس، ويعلم أنه لو أثار المعتمد على أبيه فإنه قد يثور لحظة ثم تمسك به بنوة ويهبط به إيثار لسلامة، فهو إذن يحاور المعتمد ويسوق إليه أن أباه لم يرد إلا خيره، وأنه إنما أمر ليتيح للمعتمد أن يقوم بأمر الإمارة وحده بغير معين حتى يمرن على الحكم ويحسن الدربة. ويصل هذا الحديث إلى نفس المعتمد فيخفف مما يحس ثم هو يلتفت إلى ابن عمار ليقول له: أنا أعلم أنك احتملت عبء الوزارة فلم تصب منه مالا فحتى تجهز أمرك أكون قد دبرت لك ما يعينك في غربتك، وإني سأظل على وصلك ما دمت بعيدا حتى يقضي الله أمرا وألقى أبي فأترضاه وتعود الأيام صافيات كما كن.
وقد استطاع ابن عمار وهو يسمع هذا الحديث أن يحدر دمعتين بدتا نابعتين من القلب وإن يكن ابن عمار نفسه قد عجب كيف بدرتا من العين.
وخرج ابن عمار يستهدف أقاصي الأندلس وحاول من تركهم في «شلب» أن يفضحوا أمره للمعتمد فراحوا يتحسسون نفس المعتمد ليروا أي اللونين تقبل، أهو مديح ابن عمار أم هجاؤه، فرأوا المعتمد باكي النفس على فراقه دامع القلب لهذا الأمر الأصم الذي صكه من أبيه، فإذا هم يحيدون بما كانوا ينتوونه من ذم واغل إلى مديح مفرط لابن عمار يتقربون به إلى المعتمد، فتنفتح آذان المعتمد لهذا المديح ويزيد حبه له إن كان ثمة مكان لزيادة، وهكذا يظل ابن عمار في نفسه هو الصديق المخلص وهو الوزير الأمين وهو كل شيء في حياته ما خلا إعتماد.
إلى الطريق
إلى الطريق عاد صديقه، ولكن أي عودة؟ لقد تركه على حمار متهالك لا يجد قوته ثم عاد إليه يمتطي صهوة حصان صافن أصيل أجرد شبعان، وقد تركه وهو أشعث أغبر لا يستر جسده إلا أخلاق بالية مركبة عليه تركيبا وهو يعود إليه أنيقا وضيئا ملبسه من ثمين الخز ورقيق الحرير وقد فصل عليه تفصيلا، وقد تركه وهو شاعر خامل لا يكاد يحس به حماره الذي يحتمله وعاد إليه الوزير الفذ والشاعر الضخم صديق الملوك ورفيق المعتمد، ابن عمار.
عودة ميمونة تلك التي يعودها ابن عمار إلى الطريق؛ فهو اليوم مليء الجيب آمن عوادي الطريق والتواءات الملوك وارتفاع الأنوف؛ فلقد أصبح هو نفسه ممن يسمعون شعر المديح فيلوون رءوسهم من الكبر، وترتفع أنوفهم من العظمة، فليعد إذن ولكن وزيرا يعود.
ذهب ابن عمار إلى أقصى الأندلس ومن هناك أرسل شعره إلى المعتمد ليصل مستقبله بمستقبل أمير اليوم وملك الغد، وليعرف المعتمد أين استقر بشاعره المقام فيصله إن أراد وصله أو يطلبه إن عفا عنه أبوه، أرسل إليه قصيدة من خير قصائده يقول فيها:
علي وإلا ما بكاء الغمائم؟
Shafi da ba'a sani ba