نمقتها وشيا بذكرك مذهبا
وفتقتها مسكا بحمدك أذفرا
من ذا ينافحني وذكرك صندل
أوردته من نار فكري محمرا
فلئن وجدت نسيم حمدي عاطرا
فلقد وجدت نسيم برك أعطرا
وإليكها كالروض زارته الصبا
وحنا عليه الطل حتى نورا
وإن في هذه القصيدة أبياتا تظهر في جلاء كيف تمتزج الوحشية بالجمال؛ فالرمح على سنانه الرأس هو - في رأي ابن عمار - غصن مثمر، والسيف خضبه الدم هو الحسن الذي يلبس أحمر، ولعل ابن عمار قصد إلى اجتماع القسوة والجمال في نفس المعتضد أو لعله لم يقصد، ولعله حينما أمات ضميره ومدح جاءت هذه الأبيات في زحمة المديح ورأى نفسه يمدح شخصا لأنه قتل فأراد أن يعتذر عما فعل ويعتذر للممدوح عما قتل فكانت هذه الأبيات، لعله، ولعله لم ... أيا يكن الأمر فقد ألقى ابن عمار قصيدته ثم خرج من الديوان لينتظر ما قد يجود به عليه المعتضد. ولقد انتظر ابن عمار فطال به الانتظار، حتى رأى بقاءه بعد هذا عبثا لا طائل تحته، وحاول أن يصبر نفسه ولكنه أحس أن آماله في جائزة خيال، فقام من جلسته وفي نفسه حسرة لاعجة؛ فقد كان كل مناه أن يقيم بهذه الرحاب غير نازح، وها هو ذا يخرج منها حتى بغير الجائزة التي كان ينالها من الملوك الذين لا يفهمون الشعر ولا يقدرونه. لقد علق مناه بقصيدته وكم يخذل الشعر أصحابه! ليخرج إذن من القصر فلا يقيم، بل ليخرج من غير جائزة وحسبه أنه خرج سالما إن كان في السلامة مع التشرد احتساب لمحتسب. خرج ابن عمار إلى حماره الذي تركه خارج القصر وسار إلى حيث ترك الحمار ولكن يا للمصيبة النازلة! لم يكن الحمار هناك. بحث ابن عمار حول القصر وأطال البحث فلم يهتد إلى حماره الأثير فجلس على سور القصر وفي نفسه ألم وحسرة وأخذ يفكر في حماره الذاهب. لقد صحبه منذ سنين ولقد رأى معه مر الحياة وحلوها، وماذا؟! حلوها؟! أين حلو الحياة هذا الذي ذاقه معه الحمار؟ إنه لم يعرفه، لا بأس لقد كان إذن حمارا صبورا احتمل مر الحياة وحده فلم يطالب بحلوها، ولكن أكان يستطيع أن يطالب؟ لقد كان صامتا لأنه مرغم على الصمت، ثم من أين يدري أنه سرق الآن؟ لعله هو الذي هرب وحده دون سارق، إنه هو هذا الخائن لم تكد بارقة أمل تلوح له في هذه المدينة الضخمة حتى ترك صاحبه أحوج ما يكون إليه ليبحث عن صاحب آخر، لم يكن وفيا ذلك الحمار، ولعله أيضا كان نحسا على صاحبه فإن خيرا ما لم يصب ابن عمار وهو راكبه، أكان نحسا حقا ابن عمار أم إنك تصبر نفسك على ما أصابها؟ فكر ابن عمار فأطال التفكير، وقد انتهى إلى أن هذا الحمار كان نحسا عليه، فمس قلبه طيف من الراحة لم تتركه نفسه دون أن تفسده عليه فحادثت صاحبها هازئة: «أكان الحمار نحسا أيها الشاعر؟ فانظر إذن أي خير سيصيبك من بعد ذهابه، لم تعد لك حجة في فقرك أيها الشاعر إن كان الحمار هو حجتك.» فغضب ابن عمار من نفسه هذه المتشائمة، وهب يريد أن يسير، وهم أن يبحث عما يركب ولكنه تذكر أن حماره قد سرق فعلم أن نفسه على حق في سخريتها وامتطى قدميه وهم بمسير. لم يكد ابن عمار يخطو متباعدا عن القصر حتى لحقه من ينادي به فكذب أذنيه أول أمره ولكن النداء ألح فالتفت إلى من ينادي فإذا هو خادم من القصر يسعى إليه، فانبثق في نفسه وامض أمل غشته سحابة خوف، ولكن صوت الخادم ما لبث أن علا طاغيا على هواجس نفسه طالبا إليه أن يعود إلى القصر.
ورجع ابن عمار إلى القصر الذي ترك فيه رماد أمل ضخم من آماله ولكن ما لبث هناك أن رأى هذا الرماد من الأمل قد تجسم فصار الأمل حقيقة واقعة يكاد لا يصدقها لطول عهده بالآمال المحترقة ولا يستطيع أن يكذبها لأنها قائمة أمامه وهو يقظان غير نائم، وهو مفيق غير مخمور بغير هذه النشوة التي انسابت في إحساسه لأول مرة في حياته، لقد تحقق أمل. أمر المعتضد أن يكافأ ابن عمار فتجزل له المكافأة وأمر له بملبس فخم وبمركب فاخر. جعل ابن عمار يلعن حماره وأيامه النكدة، وكل هذه الأعطيات لا تساوي شيئا في نظر ابن عمار إذا قاسها بالأمر الأخير الذي قضى بأن يكتب اسمه ضمن شعراء القصر.
Shafi da ba'a sani ba