إلى القارئ
القسم الأول
المطلب الأول
المطلب الثاني
المطلب الثالث
القسم الثاني
اقتراح اتخاذ الحروف اللاتينية لرسم الكتابة العربية
ملاحق
إلى القارئ
القسم الأول
المطلب الأول
المطلب الثاني
المطلب الثالث
القسم الثاني
اقتراح اتخاذ الحروف اللاتينية لرسم الكتابة العربية
ملاحق
الحروف اللاتينية لكتابة العربية
الحروف اللاتينية لكتابة العربية
تأليف
عبد العزيز فهمي
إلى القارئ
هذا الكتيب قسمان، في أولهما ثلاثة مطالب؛ في المطلب الأول أقدم لك بيانا لما جرى بالمجمع اللغوي في مسألة رسم الكتابة، وكيف اقترحت لها الحروف اللاتينية، وكيف أني في كلامي على صعوبات العربية ونسبتها إلى غيرها من اللغات ونسبة أهلها إلى غيرهم من الأمم، قد نهجت طريقة الوصف الواقعي الصادق القاسي، دون الوصف العاطفي الكاذب الرقيق. وأقدم لك في المطلب الثاني تفصيلا لجميع ما وصل لعلمي من الاعتراضات على اقتراحي، ثم ردي على كل منها. وفي المطلب الثالث أضع تحت نظرك نماذج لخير الطرق التي اقترحت لتعديل الرسم مع استبقاء الحروف العربية.
وقد جعلت المطلب الأول إحدى عشرة فقرة متتابعة بحسب ما به من الفكرات الرئيسية المختلفة. أما المطلب الثاني فيقع في فقرة واحدة؛ هي فقرة 12، تحتها أدرجت الاعتراضات بالترتيب العددي من الأول إلى الثالث والعشرين. وجعلت المطلب الثالث فقرة واحدة أيضا هي رقم 13. وكل أرقام الفقرات الثلاث عشرة المذكورة مطبوعة في هذا الكتيب بالحجم الكبير.
أما القسم الثاني فإنه صورة حرفية لبيان اقتراحي الذي قدمته لمؤتمر المجمع، وكان قد طبع بالمطبعة الأميرية ونفدت نسخه. فأنا أعيد طبعه الآن كما هو مع ما كان يتلوه من النماذج، ولم أزد عليه إلا بضعة بيانات وضعتها عند تمثيل هذا الكتيب للطبع، وقد جعلتها هوامش في ذيل صحائف المتن حتى لا تختلط بأصله.
وترى فيما بعد فهرسا حاويا لرءوس مسائل القسم الأول بمطالبه الثلاثة على الترتيب المتقدم.
وأسترعي نظرك:
أولا:
إلى أن هذا الكتيب تم إعداده للطبع، وقدم للمطبعة فعلا في أواخر يونيو سنة 1944، وأخذت هي في عملها في غضون شهر يوليو. وحينئذ كانت الاعتراضات اثنين وعشرين فقط، غير أني وجدت مجلة «الثقافة» نشرت تباعا في أعدادها الصادرة في 18 و25 يوليو وأول أغسطس سنة 1944 اعتراضا آخر لحضرة الأستاذ يوسف العش من دمشق، فرأيت الرد عليه هو أيضا. وبما أن المطبعة كانت قد أتمت نهائيا تهيئة جميع الاعتراضات المدرجة بالمطلب الثاني من القسم الأول للطبع، وتجاوزتها فعلا إلى المطلب الثالث فهيأت بعضه تهيئة ابتدائية؛ فقد وجهت نظرها كيما تحتاط لإدراج ردي على اعتراض حضرة الأستاذ المومأ إليه عقب الاعتراضات الأخرى، وقد فعلت. فتكون الاعتراضات ثلاثة وعشرين لا اثنين وعشرين فقط، كما أشير إليه في صلب الكتيب في صدر المطلب الثاني المذكور.
ثانيا:
إلى أني لم يكن من نيتي أن أطبع - بهذا الكتيب - سوى الاعتراض الثاني والعشرين الذي نشرته «المجلة» البغدادية، أما سائر الاعتراضات الأخرى فكنت معولا على إيداعها - هي وتعقيباتي عليها - إدارة المجمع ليطلع عليها حضرات أعضائه ومن يريدون من حضرات المعترضين؛ لأني بطبعي أكره مساجلة الناس والأخذ والرد معهم بطريق النشر العلني. لكن بعض المهتمين بهذه المشكلة ألحوا في وجوب طبع جميع الاعتراضات والتعقيبات؛ لما في هذا من تجلية الأمر للجمهور وتمكينه من تقدير الآراء وإبداء ما قد يكون لديه من أسباب الموافقة أو المخالفة، مما هو مدعاة للتمحيص الذي قد يؤدي إلى الاستقرار على شيء بعينه. وقد توارد علي هذا الإلحاح من كل جانب، فقبلت وقدمت الكتيب للطبع مع كل تلك الاعتراضات والردود كما تقدم. على أني حرصت على عدم ذكر اسم أحد من المعترضين سوى حضرتي الفاضلين صاحبي الاعتراضين الأخيرين؛ وأولهما من العراق والثاني من دمشق. وقد رميت بهذا التجهيل إلى التهوين من وقع ما يكون في ردودي من بعض العبارات القاسية.
ثالثا:
إلى أني في الفهرس لم أشر إلا إلى ما في الاعتراضات من النقط الأساسية، وأما تعقيباتي فلم ألخص شيئا من نقاطها، بل تركت للقارئ أن يطلع على أصلها ذاته إن أراد.
هذا، ومن الناس من يتساءلون كيف يمر بخاطري - وأنا ممن يعتزون بقوميتهم وبلغتهم العربية - أن أستبدل الحروف اللاتينية بالحروف العربية لرسم الكتابة؟ لهؤلاء المتسائلين كل العذر، لكني أعرف أيضا كيف أفهم واجبي وأؤديه في أي وضع أكون. تركت العمل وعولت على قضاء ما بقي من زمني بقريتي، هادئا بعيدا عن المغامرات والمساجلات والمناصبات في أي منحى من مناحي الحياة العامة، لكن لشقوتي لم يذرني القدر أهدأ، بل فوجئت في عزلتي - فيما فوجئت به - بتعييني عضوا بمجمعنا اللغوي. ترددت بين القبول والرفض، في القبول مشقة، وفي رفض المقدور عليه في ظن الناس ما يشبه فرار الجبان، وفكرة الجبن شر ما تضيق به نفسي. قبلت على مضة معللا النفس بأن الأمر خدمة للعربية بمعهد هادئ بين نخبة من خيرة علمائنا وأدبائنا الأفاضل، إن قصرت في مجاراتهم كان لي من رجاحة عقولهم ورحابة صدورهم وكرم أخلاقهم ما يسع قصوري أو تقصيري، ولا يشعرني بشيء من قلة غنائي. وأول ما عنيت به بداهة معرفة واجب عضو هذا المجمع اللغوي. قرأت في مرسوم تأليفه أن من لب مهمته المحافظة على سلامة العربية، وأن يحقق ما يصدره وزير المعارف لهذا الغرض من القرارات، ثم قرأت في لائحته أن عليه النظر في تيسير الكتابة العربية. وفي قرار لوزير المعارف: أن عليه أن يبحث أمر تيسير هذه الكتابة تيسيرا يقي ألسنة قرائها من اللحن والخطأ، فواجب المجمع في هذا الصدد معين بالنصوص الصريحة، وأنا من ضمن أعضاء لجنة الأصول المكلفة تأدية هذا الواجب ضمن ما عليها من التكليفات. واجبي إذن بين؛ هو المحافظة على الفصحى، وجعل قارئ ما هو مكتوب بها لا يلحن في قراءته ولا يخطئ. وإذ قبلت عضوية المجمع فإما أن أؤدي هذا الواجب بحسب ما أراه، وإما أن أفارق. ولا سبيل في رأيي لتأديته حق التأدية إلا باتخاذ الحروف اللاتينية وفيها حروف الحركات، لا إطلاقا، بل على وجه خاص رأيته. أما «الشكل» الكلي أو الجزئي أو حروف أو ذنبات توضع للحركات في غضون الرسم العربي، فقد فكرت فيها كثيرا ولم أجد شيئا منها صالحا.
فتأدية الواجب هي التي أمرت بخاطري اتخاذ الحروف اللاتينية ودفعتني إلى اقتراحها، فليعلمه المتسائلون . ثم ليعلموا أن الكتابة الراهنة إنما تصلح لتصوير العامية فقط، فإن استطاعوا أن يجعلوا أولي الأمر يقررون اتخاذ هذه العامية لغة رسمية للبلاد، ويعدلون اختصاص المجمع اللغوي، فعندها أستبصر لنفسي، وهيهات أن يستطيعوا شيئا من هذا، هيهات!
ولا يفوتني هنا التنويه بذكر رجلين من ذوي الجد والرأي الناضج؛ الأستاذ شوقي أمين من موظفي المجمع، ومحمود عمر رئيس الكتاب بمحكمة النقض والإبرام. أمليت ثانيهما ما وضعته من المسودات، وتكفل بتبييضه وإعداده للطبع، ولقد نبهني - في بعض المواضع - إلى قصور العبارة عن أداء المعنى المقصود، فأصلحت ما نبهني إليه مغتبطا بسلامة نظره كل الاغتباط. أما أولهما الأستاذ شوقي، فقد تولى عني تصحيح تجارب (بروفات) المطبعة، ولقد وجدته من المتحرجين، بل المتحنثين
المتأثمين في مفردات اللغة، لا يطيق أن يرى لفظا لم تجمع كل المعاجم عليه أو على وجه استعماله. وإليك ما استعملت من الألفاظ فلم يرضه: «احتاس، يساوي (بحذف المفعول)، غبآء، تندر، نضوج، عديدون (بمعنى متعددين)، نبوءة، تأكد الرجل من كذا، مران، معدن (بمعنى منجم) كشارة.» لم يرض، بل رأى أن أستبدل بها على الترتيب: «انحاس، يساوي كذا (بذكر المفعول)، غباوة، تنادر، نضاج أو نضج، متعددون، تكهن، تأكد للرجل كذا، مرانة، منجم، قطوب.» ومع اعتقادي بأن ما استعملته من الألفاظ سائغ لا تأباه أقيسة العربية ولا ذوق كتابها، غير أني - إعجابا بتحرجه - قبلت تغيير بعضها بما أشار به أو بغير ما أشار. إنما هناك مسألة لم أستطع زحزحته فيها عن رأيه: في الجمل الاقترانية؛ وهي ما يكون حدث إحداها واقعا في الزمن نفسه الواقع فيه حدث الأخرى؛ مثل: «زيد كان يقرأ في الوقت الذي فيه عمرو كان يأكل.» لا أرى أي مانع في العربية من أن يقال: «كان زيد يقرأ بينما كان عمرو يأكل.» كما يقال: «بينما كان عمرو يأكل كان زيد يقرأ.»
غاية الأمر أن استعمال إحدى العبارتين يكون تبعا لما يهتم بالإخبار عنه من فاعليهما، لكن سيدنا شوقي يمنع التعبير الأول بتاتا، ويرى أن «بينما» لها الصدارة كحروف الاستفهام وأسمائه ، وأن التعبير الثاني هو وحده الصحيح، ويقول: إن هذا منبه عليه في كتب النحاة، وإن من يريد استعمال التعبير الأول فعليه أن يستبدل بكلمة «بينما» كلمتي «على حين» أو «في حين» مثلا؛ فيقول: «كان زيد يقرأ في حين عمرو كان يأكل.» ولقد حاولت إقناعه بأن في العبارة جملتين، وأن «بينما» لها الصدارة في الجملة الثانية التي هي فيها، وأني لم أنزلها عن صدارتها، وأن هذا لا تأباه أساليب العربية على الرغم مما يحتج به من أقوال النحاة. ولكنه توقف وتأبى وكاد يغوث، فاحتراما لفضيلة ثباته على ما يعتقده الصواب المتعين، وإشفاقا عليه من التغويث، قد حرمت على نفسي استعمال «بينما» واستعضت عنها بكلمتي «على حين» أو «في حين»، وهما على كل حال عربيتان صحيحتان كل الصحة، ومطروقتان في الاستعمال، فلحضرته كل إعجاب به وكل شكر له واحترام.
عبد العزيز فهمي
15 أغسطس سنة 1944
القسم الأول
المطلب الأول
1
آمنت بالعقل ورضيت منه بالحاصل، وجريت وأجريت في السبيل التي هدى، والحلبة التي اختار. وفيما أنا آخذ بسنته إذا به يرطمني في تلك المسألة الوحلة؛ مسألة رسم الكتابة العربية، التي شقي بها الأوائل واحتاس فيها الأواخر. أدليت فيها برأيي الذي كونته على هدى هذا العقل، وهو حاضري ومجري قلمي ومحرك لساني، فإذا هو كان يخدعني، وإذا هو ختال!
ألم تر كيف أني ما كدت أنطق بهذا الرأي حتى هبت من صفوف الخاصة والعامة، ممن يساوي ومن لا يساوي، جماهير هائجة هيجان جماعات الدبر وأرجال الجراد، تعول وتولول صاخبة مستصرخة من يعديها على مرتكب هذا الحنث العظيم؟
بل إن سيدا من أغزر الناس علما، وأكثرهم عملا، وأقومهم تدينا، بل حتى هذا السيد المتزن الكريم قد انساق مع التيار فظن الظنون فجمح قلمه، فأباتني، من رحمة له وإشفاق عليه، غير موسد.
ماذا عساني إذن أن أقول أمام تلك الهبات والصيحات والمرازءات؟ أقول ... أقول ... أظن أني مخطئ!
أما سمعت ووعيت منذ الصغر قولهم: «ألسنة الخلق أقلام الحق»؟
هاك ألسنة الجماهير من مخاليق الله تقول إني مخطئ.
إذن أنا مخطئ حقا، بهذا يقضي القياس الذي شرعه أرستطاليس، عابد النجوم اللعين.
لكن أظن أني غير مخطئ!
ألم يبلغك أن الجماهير لا عقل لها؟ أولم تقرأ عن «بيكون» فيلسوف الإنجليز أنه قال: «أخس ضروب الرياء مصانعة الدهماء»؟ أولم تقرأ ما أثر عن ذلك البطل الخطيب اليوناني من أنه إذا صفق له الجمهور وهو يخطب، التفت إلى من حوله قائلا: «ترى أي خطأ فرط مني؟» بل ما لي وللماضي البعيد؟ أولم تسمع من بعض الأحياء أن رجلا من خيرة أساتذة العربية هوسته السياسة فكلف بالمظاهرات، وبينما جمهور أرباب الحناجر يزفه عالي الهتاف، إذا بأحد الظرفاء يندس صائحا بكلمة حسنة الرنين قبيحة المدلول، فاستطاب الجمهور رنينها وطفق يرددها، وامتثل المزفوف الذي يفهم معناها، بعد أن لم يغن عنه صوته الذي بح من المعارضة ولكن أذابته حماسة الغوغاء؟
وإذن فأظنني لم أخطئ ما دامت تلك الجماهير من مخلوقات الله لم تصفق، بل تلقتني بالصفير، بهذا يقضى أيضا قياسا لمولانا أرستطاليس العظيم.
مخطئ؟ غير مخطئ؟ «
That is the question
هذه هي المسألة.»
وإنها لأحجية أعقد من ذنب الضب، ومشكلة غبراء عسراء بالغة في الاعتياص! فمن لي بحلها وإنقاذي مما يساورني، في صحة رأيي أو فساده، من الشك الأليم؟ رحماك اللهم! إذا كنت تدرك الأبصار فإنك سبحانك لا تدركك الأبصار، وقد حكمت بانقطاع وحيك بعد نبيك الكريم، فإلى من تكلني؟ إنه ليس أمامي في هذه الدنيا من أهل العلم الذين نصبوا أنفسهم للفتوى في مثل هذه البلوى إلا اثنان لا ثالث لهما؛ العقل والهوى. أما العقل فقد استضعفني واستوطأ حائطي فتسورها علي، ثم دلف نحوي وتزلف وداهن وألقى في روعي أنك خلقته من نور، فأنست به واصطفيته لنفسي، ثم هش وبش وتطامن وهز ذنبه متملقا، وأوهمني أنك أمرت الشيطان فقبض قبضة من حمأة آسنة منتنة، فخلقت منها الهوى والزئبق والحرباء، وأنك أودعت فيها خصائصها فاستبد الهوى بأخويه فكان جماع تلك الخصائص، فهو أثير طيار طياش، همزة لمزة، هراج هباج، لا حد لأفاعيله في الزمان ولا في المكان. وهو إذا تجسم كان زئبقا زلجا زلقا لا تمسكه اليد ولا تضبطه البنان، ولو أبصره مبصر لما ظفرت عيناه بطائل؛ لأنه حرباءة خنثى مشكل هلوك، تقلبت عبثا بين البعولة، ولما استيأست ارتدت عن مذهب أمها، وصبأت إلى عبادة الشمس، فعوقبت بالتهاويل في إهابها، فيها كل لون وليس لها لون.
هذا الكلام المعسول الطريف الظريف كره إلي الهوى، فلن أستفتيه أبدا ما حييت.
لم يبق لي بعد من أهل الفتيا إلا العقل، وها أنا ذا أرى أن ما قسمت لي منه فركنت إليه وصحبني كريما راضيا مرضيا، قد غرر بي في الساعة الأخيرة من صحبته التي امتد أجلها.
أرى هذا، وأرى ما أودعته منه في الناس قد أفلس، وقلت قيمته وكسد سومه، وأن التقول والتأفك والزور والبهتان، وهي من بنات الهوى، أصبحت هي الصائح المحكي، وليس لغيرها صوت ولا همس ولا صدى.
عفوك اللهم! أإلى هذا العقل المفلس الذي أضحى هو والهوى سيين في قرن، بل الذي طعنه الهوى في النوادي والمجتمعات فأسال دمه، وأقصاه عن مقعده ذات اليمين إلى مزجرة مستوبلة مستحقرة ذات الشمال، بل الذي تبلد واستخذى وسفه نفسه فحجر عليه المحتسب، وقتر عليه رزقه فهزل وبدت من هزاله كلاه، فسامه من شكوله كل مفلس؟ أإلى مثله تشاء إرادتك أن تكلني لحل معمى تلك الأحجية، وتقرير خطئي من صوابي؟! لا. لا. لا! إنك لأعدل من أن تريد بي هذا الشر المستطير، وأحكم من أن تكلفني توجيه وجهي في الاستفتاء والاستقدار والاستبصار إلى الجامدين من مفلسة العقول. •••
رب إنه لا عصمة إلا لك وحدك، وأما مثلي من بني الإنسان فقد كتبت عليه النسيان، والحوادث تنسي، والموقف كيوم الساعة، ترى الناس سكارى وما هم بسكارى. إني نسيت، لكني ذكرت الآن! ذكرت أني ظلمت نفسي بما أثمت عقلي، فأستغفرك مما رميته به من تهمة التغرير بي في هذا الرأي الذي أقام قيامة الفارغين. أشهدك أنه لم يأل جهدا من قبل في تبصيري بهذه القيامة الهوجاء، فاغفر لي ما فرطت في جنبه، فإنك أنت العفو الغفور . •••
ها إني أشعر باستجابة استغفاري، وها قد صرح المحض عن الزبد، وبان الصبح لذي عينين - كما قال بعض المتقولين - وانجاب عن البصر الغطاء، وانقشعت سحابة ذلك الشك الأليم، واطمأننت إلى أني لم أخطئ، بل إني بفضل الله جد مصيب.
فإليك عني ودعني من عبدة الأوهام، واستمع لما أقص عليك من نبأ المشكلة القائمة، مشكلة رسم الكتابة العربية التي يدور عليها الكلام، ويكثر فيها الملام، وتطيش الأحلام.
2
إني رجل من أهل العربية، نشأت في حجرها ومارستها إلى الشيخوخة، وسأمارسها ما دام في الأجل انفساح. وليست ممارسة العربية بالأمر الهين؛ فقد شقيت أنا وغيري بها شقاء مرا: (1)
لأن
كان هؤلاء الأولون يتفاهمون بها وينطقون عباراتها نطقا صحيحا بالسجية، والسجية لا كلفة فيها ولا عناء ولا استكراه؛ لأنها عادة ينطبع عليها اللسان، كسجيتك في النطق بلهجتك العامية سواء بسواء. لو كنت شاهدهم - عصر النبوة، ومن قبل عصر النبوة - لرأيت الفصحى تتدفق من أفواههم زاكية زاهرة باهرة، معتدلة القوام، سليمة من الآفات، لا يجدون في أنفسهم ضيقا بها ولا حرجا، ولا يحتاجون في تقويمها لمتون ولا لشروح وحواش وحواشي حواش، ولا يلجئون لابن من أبناء مالك أو عقيل، ولا لأشموني، ولا صبان. (2)
ولأن قواعد نحو الفصحى وصرفها بالغة في الصعوبة والتعقد والعسر والارتباك، ترغمك الآن على الرجوع إلى تلك المتون والشروح، والتعرف إلى أولئك العلماء الأجلاء. (3)
ولأنها - كما وصلت إلينا - ليست لغة واحدة يخف حملها، بل هي جملة لهجات جمعها أوائل المسلمين وكدسوا في المعاجم مفرداتها جميعا، وشواهدها جميعا، فألقوا على كواهلنا في المدارسة والاصطناع أضعافا مضاعفة من الأوقار والأوزار والأحمال الثقال، وزادونا في الدرس والتحصيل عناء وشقاء وبلاء، وبغوا علينا، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وظلمونا ظلما عظيما، وجعلوا من بالعدوة القصوى من النظارة والمراقبين يتفرجون بنا ويبتسمون لقوة صبرنا على احتمال تلك المكاره والأوزار؛ إذ يرون أنفسهم قد خفت عليهم مئونة لغاتهم، فهم يحلقون فوق رءوسنا في جو السماء ، ويروننا كالبراذين الدبرة المجرحة نجر حمل لغتنا ومن ورائنا سائق غليظ يسومنا صعود الجبل، وليس لنا من منجد ولا مغيث. (4)
ولأن خير متعلميها - من شبان وشيوخ بلا استثناء - يتعذر على الواحد منهم أن يقرأ أمامك صحيفة واحدة من أي كتاب، أو نهرا واحدا من أية جريدة؛ قراءة متتابعة متصلة الأجزاء، من غير أن يلحن لحنا فاحشا أو غير فاحش، أو على الأقل من غير أن يتوقف ويقطع أوصال العبارات. وهو في قراءته مشغول أبدا بتحديد البصر وإعمال الفكر تحسسا لمعنى ما يقرأ، قبل أن يقرأ؛ حتى يستطيع أن يقرأ. وتراه في تلك الحال كالمجذوب المتوجد، أو المكروب المتجلد، جاحظ العينين تارة، أخزرهما أو أحوصهما تارة أخرى، مضروب اللسان باللعثمة والغمغمة والفأفأة وغيرها من ضروب الارتتاج.
إن كنت من الذين يقتنعون بالدليل وينصاعون لموجبه؛ فالدليل في متناول يدك، إنك تعرفه من نفسك في قراءتك حين تتعمد النطق العربي الصحيح، وتعرفه في قراءة غيرك من خريج جامعة، أو أستاذ في جامعة، أو عضو في مجمع لغوي، وتعرفه على الأخص فيما تسمع من الخطب الارتجالية أو من الخطب المتلوة أو المذاعة، ما لم يكن صاحبها قد شكلها أو شكلوها له وكررها في خلوته مرارا من قبل؛ حتى لا يلحن فيها لحنا شائنا يزري بمكانته لدى جمهور السامعين.
أما إن كنت من الذين لا ينصاعون للدليل، فأنت متعنت مدع فارغ، ونفسي على الرغم منك كبيرة، وهي أكرم علي من أن أجشمها خطاب المدعين الفارغين.
3
لكن هذه اللغة العربية على ما بها من الصعوبات الجسام، هي في جوهر حقيقتها من أقوم اللغات، بل لا أبعد إذا قلت إنها - من كثير من الوجوه - أقوم اللغات.
ولا تصدق أن المجمع اللغوي أو غير المجمع اللغوي يستطيع أن يمس شيئا ذا قيمة من مفرداتها أو من أصول قواعدها في نحوها وصرفها. ولو فرض - ما لم يقع للآن - أنه عالج شيئا من هذا - كما هو مكلف به في أمر تشكيله - فلن يكون ذلك إلا علاجا في القشر دون اللب ، وتهذيبا في الظاهر دون الباطن، وتشذيبا في الشوى دون مساس بجوهر الهيكل. ومن تراوده نفسه بالنفوذ إلى اللب فليس منا؛ لأنه يفسد ذاتية اللغة، ويحرمنا من تفهم ما تركه الأولون في المناحي الأدبية من التحف والآثار.
4
إنما لهذه اللغة الجميلة آفة خبيثة هي رسم كتابتها. إن هذا الرسم، على ما في مظهره الآن من جمال، لهو علة العلل، وأس الداء، ورأس البلاء. إنه سرطان أزمن فشوه منظر العربية وغشى جمالها، ونفر منها الولي القريب والخاطب الغريب. وإذ أقول «سرطان» فإني أعني ما أقول؛ لأنه كالسرطان حسا ومعنى. اصرف النظر عما هو معروف للجميع، وما أشرت إليه في أصل بياني من مساوئ هذا الرسم، وانظر هل تجد في رسم أية لغة من لغات أمم الحضارة أن هيكلا واحدا يحوي في تجاويفه أربع كلمات أو ثلاثا أو حتى اثنتين، كما يحوي - في الرسم العربي - هيكل «علمتنيه» أربع كلمات، وهيكل «علمته» ثلاثا، وهيكل «علمت» اثنتين؟ ألا ترى أن تلك الهياكل العربية هي أشكال سرطانية، وأن فعلها في من يريد قراءتها غير مشكولة بدقة هو فعل السرطان المخيف؟
5
لقد لاحظ المسلمون في الصدر الأول ما نلاحظه الآن من أن هذا الرسم مصيبة على العربية؛ لأنه مضلل لا يشخصها ولا يقي من تصحيفها وتغيير أصل المراد بعباراتها، فعالجوا الأمر أولا بالنقط، ولما وجدوا النقط وحده لا يغني عمدوا إلى تكملة العلاج «بالشكل»، وجعلوا الشكلات مجرد نقطات بمداد أحمر، كما جعلوا الهمزات نقطات بمداد أصفر، فكان الكاتب مضطرا إلى استعمال ثلاثة ألوان من المداد، أسود وأحمر وأصفر. ثم خرجوا من هذا التكلف المضني إلى اتخاذ الشكلات بحسب ما هي عليه اليوم، مرسومة بالمداد المرسومة به الكلمات. كما جعلوا للهمزة علامتها الخاصة ورسموها بهذا المداد. ولا زال أهل العربية إلى اليوم - بعد ألف وثلاثمائة وثلاث وستين سنة من الهجرة - يختلفون في كتابة الهمزة وفي كتابة الألف المقصورة وغيرها، ولا زال بين رسم القرآن وبين رسم غيره من المكتوبات بون غير قريب، ولا زالت مصيبة الرسم قائمة لم يحلها «الشكل» الذي أفلس بإجماع العارفين، ولا زالت هذه المصيبة مانعة من إمكان قراءة العربية قراءة صحيحة موحدة الأداء لدى جميع القارئين.
6
ولقد اهتم المجمع اللغوي من زيادة عن خمس سنوات بأمر هذا الرسم القاصر المضلل، كما اهتمت به الحكومة، واشتغلت ببحث مشكلته لجنة عمادها حضرة الأستاذ الكبير والمربي القدير علي الجارم بك، وقد انتهى حضرته أول مرة بأن قدم للجنة الأصول بالمجمع (بجلسة 24 أبريل سنة 1941) مشروعه الخاص بتيسير الكتابة، مصحوبا بتقرير قال فيه عن مساوئ الرسم الحالي ما يأتي حرفيا بغباره:
وبقي علينا أن ننقذ قراء العربية من اللحن الشائن والخطأ المعيب، وأن نجعل لغتنا الشريفة في صف مع جميع اللغات الحية التي لا تحتاج في قراءتها صحيحة إلا أن تترجم الأصوات عن رسوم الحروف.
وفي الحق، إن القراءة أصبحت عندنا عملا علميا دقيقا كثير التعقيد والتركيب، وصارت فنا من الفنون أو عبئا من الأعباء، وإن شئت أن تقول إنها أصبحت لغزا من الألغاز فقل. إنك لا تستطيع القراءة العربية على وجهها إلا إذا كنت لغويا صرفيا نحويا معا، فإن لم تكن كل هؤلاء جميعا عجزت عن أن تكون قارئا أو شبه قارئ.
فإن قالوا إن الشكل يسد هذه الحاجة ويذلل تلك الصعوبة. قلنا إن الشكل لا ينقذ من الخطأ، بل إنه قد يكون مدعاة للخطأ! وكيف تستطيع العين أن تدرك الحروف وما تحتها وما فوقها في آن واحد مع الضبط والدقة، ثم تنقله إلى أعصاب المخ فتنقله هذه إلى أعصاب اللسان سليما صحيحا؟ لقد جربنا في مدارسنا أن التلاميذ يخطئون في قراءة المشكول خطأهم في قراءة غير المشكول. جربنا أن الطالب المثقف لا يستطيع قراءة القرآن الكريم وهو مشكول على أدق ما يكون الشكل وأحكم ما يكون الضبط. ثم إن الشكل كثيرا ما ينقل عن مواضعه عند الطبع، فتنقل حركة المفتوح إلى المضموم، وتنقل الحركة من حرف يجب شكله إلى حرف لا يتطلب لضبطه شكلا. وأخرى أن الشكل عمل شاق جدا في الطباعة يحتاج إلى دقة وإلى زمن وإلى أجر مضاعف؛ لذلك قل من الكتب المشكول، ورأى أصحاب الصحف والمجلات أن الشكل صعوبة مادية لا تذلل.
تلك شهادة خبير تعدل ألف شهادة من غيره. كان من كبار مفتشي اللغة العربية، وكان وكيل دار العلوم ومربي كثير فيها وفي غيرها من أساتذة العربية. هاكه يقول - وصاحب الدار أدرى بما فيها: إن قراءة العربية برسمها الحالي أصبحت لغزا من الألغاز، وإن قارئها إن لم يكن لغويا نحويا صرفيا في آن لعجز أن يكون قارئا أو شبه قارئ. وإن الشكل مجلبة للخطأ لا تستطيع الأعضاء الموكلة بالنطق الاهتداء به. وإن تلاميذ المدارس يخطئون في قراءة المشكول خطأهم في قراءة غير المشكول، وإن الطالب المثقف لا يستطيع قراءة القرآن وهو مشكول على أدق ما يكون. وليس بعد شهادة هذا الخبير قول لقائل، إلا من كانوا يحلون الأمر عاما ويحرمونه عاما، ومثل هؤلاء لا قيمة لهم بين الرجال.
على أن حضرة الجارم بك قد لبث من بعد يكد ويستعين بالاختصاصيين في فني الخط والطباعة؛ رجاء تحسين مشروعه هذا الذي قال إنه ييسر الرسم ويقي من اللحن في القراءة. ولما عدت للعمل بالمجمع بعد غيبة طويلة بسبب المرض، وجدت هذا المشروع قد أعيد عرضه في صيغته النهائية على لجنة الأصول التي أنا من أعضائها، وكان ذلك في منتصف شهر نوفمبر سنة 1943. فلم أوافق أنا ولا غيري عليه، بل نقدته نقدا قاسيا، ثم أخذت أفكر في هذه المصيبة التي حيرت الأولين والآخرين، وفي طريقة لإطلاق العربية من عقالها حرة كريمة كما ولدتها أمها وكما نشأها آباؤها الأولون، أولئك الذين يلوح أن فقدانهم الدربة والمرانة أقعدهم عن اصطناع ثوب لها مقيس على قدها، فحشروها في قماط ومخنقة مما لا يتخذ إلا للرضع من الأطفال، فجنوا عليها جناية كبرى؛ إذ ضغطوا أعضاءها وكبتوها عن النمو وبلوغ ما هي ميسرة له من الكمال.
7
فكرت جديا في الأمر، وقلبته على كل وجوهه، فاتجه فكري إلى النظر في اتخاذ الحروف اللاتينية لرسم العربية، فنظرت واستيقنت أن لا محيص من هذا الاتخاذ، إنقاذا للعربية من مساوئ رسمها التي نعرفها جميعا والتي أشار إليها حضرة الجارم بك بكل صراحة وجلاء في تقريره المذكور آنفا.
وفي الجلسة الثانية أو الثالثة من جلسات مؤتمر المجمع الذي افتتح في 15 يناير سنة 1944 تكلمت في هذه المسألة الأساسية التي لا يدانيها في أهميتها شيء مما يشتغل به المجمع ومؤتمره، فاقترحت لحلها ما انتهى إليه رأيي من وجوب اتخاذ تلك الحروف اللاتينية، حتى تضبط كلمات اللغة وتسهل قراءتها على الكافة - مثقفين وغير مثقفين، شيوخا أو شبانا أو أطفالا، عربا أو عجما - قراءة صحيحة موحدة الأداء في ألسن الجميع. فطلب إلي المؤتمر تقديم اقتراحي هذا بالكتابة، فكتبته وتلوته بجلستي 24 و31 من يناير المذكور، فرأى المؤتمر طبعه وتوزيعه على حضرات الأعضاء كيما يستطيعوا المناقشة فيه. وقد كان.
8
كان لا بد لي في تفصيل هذا الاقتراح من وصف حال العربية وبيان صعوباتها، ونسبتها، من حيث تلك الصعوبات إلى اللغات الأخرى، وبيان حال أهلها المتحملين بها، ونسبتهم في الرقي أو التأخر إلى غيرهم من الأمم. وكان لا بد في هذا الوصف والبيان من تقرير الواقع فعلا، وكان لا بد في تقريره تقريرا صادقا من أن أجرد نفسي تجريدا تاما من التأثر بشيء من الميول والعواطف، تلك الصوارف والمشوشات التي أشار الحكماء - معلمو الإنسانية - بوجوب التجرد منها كلما أريد تقرير الواقع في أي شأن من الشئون، أو الأخذ في تعرف حقيقة من الحقائق المقدورة معرفتها للإنسان. جردت نفسي فعلا من كل مؤثر عاطفي، وتناولت الأمر كما لو كنت أجنبيا عن العربية وأهلها لا حق لها ولا لهم عندي ولا مجاملة بيننا ولا ولاء. فخرج الوصف في الفقرات الثماني الأولى - التي ستقرؤها - وصفا بالغا في التصوير الواقعي
Trés réaliste ، لا يماري في صدقه أقل مثقف يعرف الفرق بين الوصف الواقعي الواجب في مثل هذا البحث وبين الوصف العاطفي
Idéaliste
الذي يرفضه أئمة الإنسانية؛ لأنه هذر لا غناء فيه. كما خرج ذلك الوصف من أقسى ما يكون في النعي على حال العربية وحال أهلها من خياليين وغير خياليين.
فمما أوردت فيه من الحقائق الواقعية الأربع الآتية التي يغض بعض قومنا بصرهم دون رؤيتها كما تخفي النعامة رأسها بين رجليها، حاسبة في غباوتها أنها بهذا التواري المضحك تحمي نفسها من سهام الصائدين:
أولا:
قلت: «إن المستشرقين من الأمم المختلفة ليعجبون منا، نحن الضعاف الذين يطأطئون كواهلهم أمام تمثال اللغة لحمل أوزار ألف وخمسمائة سنة مضت.»
وهذا تقرير صادق لا يحتمل المماراة؛ فإن المعروف عن اللغة العربية أنها مضى عليها - على أقل تقدير - ألف وخمسمائة سنة وهي على حالها في مفرداتها ونحوها وصرفها. وقل أن توجد لغة بقيت على حال واحدة مثل هذا الزمن الطويل؛ إذ اللغات في تطور مستمر يعرفه من ألقى البال وهو شهيد. وكلما تقادم العهد ازداد التطور وأصبح قديم اللغة عبئا ووزرا ينقض ظهر المحدثين؛ لبعد ما بينها وبين ما نشأ فيهم واعتادوه من مختلف اللهجات. ومن يقل عن الأوزار والأثقال إنها أوزار وأثقال فقوله حق لا ريب فيه، ومن يراقب إبهاظ هذه الأوزار كواهل حامليها وير صبرهم عليها وتعبدهم لصنمها صاغرين، فهو إن يعجب فعجبه طبيعي لا تصنع فيه.
ثانيا:
قلت: «إن العربية قد سرى قانون التطور في مفاصلها وحتتها في عدة بلاد بآسية وأفريقية إلى لهجات يخطئها الحصر، وإنه لم يخطر ببال أي بلد من تلك البلاد المنفصلة سياسيا أن يتخذ من لهجة أهله لغة قائمة بذاتها لها نحوها وصرفها كيما يسهل عليهم أمور الحياة.»
والواقع الذي لا شك فيه هو هو الذي قررت، مهما يهرف الفارغون الذين لا يميزون بين تقرير الواقع وبين إرادة شيء مما لهذا التقرير من المفهومات.
ثالثا:
قلت: «إن أهل العربية مستكرهون على تعرف فصحاها؛ كيما تصح كتابتهم وقراءتهم.» وهذا الاستكراه صحيح مطابق للواقع المحسوس، وهو كما قلت وأقول: «ظلم وبغي؛ لأنه تكليف للناس بما لا يطيقون.»
ومن أظرف الأشياء أن أستاذا كبيرا من أساتذة العربية، ممن يبتغون الإعلان عن أنفسهم أنهم من حماة العربية - كما أعلن موسوليني وغير موسوليني أنهم حماة الإسلام - هذا الأستاذ العظيم قابلني مصادفة فسألني: «كيف تقول إننا مستكرهون على تعرف الفصحى؟» سألني متصورا أني كبعض من يعرفهم ممن يكتمون الحق وهم يعلمون. فقلت لغبطته ببساطة تفك قطوب تزمته: «يا سيدي، إنها ليست لغة الحارة، وإنك لو لم تكن أكرهت عليها وتعلمتها بعرك أذنيك وبالنبوت لما وصلت إلى مركزك. ولو أن تلاميذك لا يتعلمونها طوعا أو كرها فإنهم لا يظفرون بالشهادات ولا يجدون لهم مرتزقا في الحياة، بل يقضونها أذلاء متعطلين.»
رابعا:
قلت: «إن اللغة العربية ليست لغة واحدة لقوم بعينهم، بل هي مجموع لهجات أهل جزيرة العرب، أودعت المعاجم لتكون كلها هي العربية، ويكون مجموعها حجة على من ينتسب للعربية. وإن هذه اللهجات قد ماج بعضها في بعض فانعجنت واختلطت، وإن أية منها لو أمكن فصلها لكانت دراستها أشق على دارسها من تعلم جملة لغات حية تيسر عليه سبيل الحياة. وإن من الظلم إلزام المصريين وغير المصريين بتعرف كل تلك اللهجات كيما تصح كتابتهم وقراءتهم.»
قلت هذا وهو الحق الواقع؛ فإن العربية - كما يدرك كل خبير بها - خضم يحتشد في عبابه جملة بحور، وراكبه لا يأمن فيه الغرق. وإذا ادعى العكس أحد من القصار المتطاولين فليتقدم للامتحان، وعنده يكرم أو يهان. وواضح أن من تلزمه ركوب هذا الخضم الطامي فقد ظلمته ظلما مبينا. •••
بهذه الصراحة الواجبة على المتصدي للبحث وللوصف الواقعي الصحيح، ممن تقتضيه مهمته نبذ الشعر والخيال، وأن يسمي الوردة وردة والشوكة المدمية المؤلمة شوكة، بهذه الصراحة وتلك القسوة التي لا محاباة فيها لعاطفة ولا مجاملة لآصرة ولا لولاء مكسوب أو موروث، نقدت العربية وبينت أن الطرق إليها متشعبة وكلها أشواك وعقبات، وأن تعلم أية لغة من اللغات الحية، بل تعلم عدة منها، أيسر وأهون من تعلم أية لهجة من تلك اللهجات العربية الأولى.
9
على أني إذ رأيت مما يلائم طبعي ويعلي نفسي أمام نفسي، ويرضي نفسي عن نفسي أن أجهر بالحق في مواطن الحق غير هياب ولا وكل، وقد صدعت به فعلا عريان مكشوفا لاشية عليه ولا قترة تغشيه دون متوسميه ؛ إذ رأيت وصدعت، فإنه لم يغب عني أن كثيرا من قومنا خياليون سطحيون لا يفرقون - عند التقدير - بين ما في الواقع وما في الخيال، بل يخلطون بينهما ويقيسون ما يسمعون وما يشهدون من الأقوال والأفعال بقياس عقليتهم هم وما في أدمغتهم هم من ألوان التوهمات والتخيلات. ولقد خفت فعلا من ضلالات هذه العقلية على الحق وعلى أربابها، خشيت أن بعضهم إذ يرون هذه الصراحة في الوصف والقسوة فيه، والتنويه بسهولة اللغات الأجنبية، بالإضافة إلى ما في العربية من الصعوبات الجسام - والصراحة واد لم يسيموا من قبل فيه حتى يألفوه - ربما تحكمت فيهم تلك العقلية المختلطة المخلطة وطوحت بهم - خطأ وجهلا - إلى مهاوي التظنن وسوء التأويل، فتوهموا في غباوتهم أني أكره العربية وأبتغي حذفها من الوجود والاستعاضة عنها بغيرها من تلك اللغات.
من أجل هذا سارعت (في الفقرة التاسعة) بالإشارة إلى ما قد يقوم من هذا التظنن الذميم، ووصفت مقترفيه بالبلادة واستنزلت عليهم غضب الله، في عبارة هي أشد ما في العربية من عبارات الزجر والقمع والاستبراء. قلت - كما ستقرؤه - بالحرف الواحد: «لعل البعض يتساءل: ما بال هذا الرجل ينحي هكذا باللائمة على العربية ويصعب من أمرها؟ ألعله يريد نبذها والاستعاضة عنها بلغة أجنبية من اللغات الحية؟» ثم أردفت هذا التساؤل بالإجابة الآتية: «حاش لله! وبعدا لهذا الظن البليد كما بعدت ثمود! وشقحا له وحجرا محجورا!»
ثم استطردت فبينت موقفي من الفصحى وموقفها مني. وأخذت من بعد في تقديم علل جنوحي إلى اتخاذ الحروف اللاتينية، وبينت طريقتي فيها، وفاضلت بينها وبين غيرها، ثم فصلت مزاياها، وأقمت أثناء البحث كل ما قدرت أن يرد من الشبه والاعتراضات ورددت عليها. ولم أحجم عن مجابهة كل بما تحسسته لديه من وجه اعتراض، وكل هذا في عبارات عربية صريحة لا مداورة فيها ولا التواء.
10
وسواء أكنت من النافرين من اتخاذ الحروف اللاتينية أم كنت من غير النافرين، فإني أنصح لك أن تقرأ بيان اقتراحي الذي طبعته لك مع هذا بنصه الحرفي،
1
وأن تجشم نفسك الصبر على القراءة في تؤدة وإمعان، مهما يكن الفارغون قد أوهموك بأنه من الضلالات. إن لك ولي فائدة في الأخذ بنصيحتي. أما فائدتك فإنك قد تكسب منه لعقلك ولخلقك الشيء الكثير، وليس لعاقل أن يأبى الاستفادة لعقله ولخلقه. والمسلم - على الخصوص - مكلف بطلب العلم ولو بالصين، وكل أهلها يوم هذا التكليف وثنيون، بل إن جامعاتنا أصبحت تدرس فيها الفلسفة، وأئمتها من جبابرة العقول المارقين، بل ليست هذه أول شردة للمسلمين؛ فإن كثيرا من رجال الصدر الأول لجئوا من قبل إلى الحكمة والفلسفة يغترفونهما من فيض عقول اليونانيين الملاعين.
وأما فائدتي فأن تتحقق أنت والمتصلون بك أن الناس إزاء هذا الاقتراح ثلاثة أفرقاء؛ فريق من الإمعات سماعون للكذب، لا يقرءون وإنما تصف ألسنتهم السوء تقليدا ورجما بالغيب. وفريق ثان يقرءون ولا يفهمون؛ لأن التفكير في موضوع اقتراحي يسمو على مستوى عقولهم، ولغة البيان أيضا فوق طاقتهم، لكن الواحد منهم إذا سئل عما قرأ حمله سوء خلقه وقلة بضاعته أن يدعي لنفسه ما ليس لها؛ فهو يزعم أنه فهم ما قرأ. ثم إذا سئل عما فهم لجأ إلى ما هو أوجز وأكثر انفهاما وقبولا عند العوام؛ إنه يقول: كل الحاصل من هذه الثرثة واللت والعجن أن صاحبها يريد أن ينبذ لغة القرآن. وإن استحيا شيئا ما قال: إنه يريد تغيير كتابة اللغة العربية، وأن يجعلها ككتابة يني وكرالمبو وكيرياكو من جرسونات قهاوي الأروام. أما الفريق الثالث فإنه يقرأ ويفهم، ولكن صدره يتطاحن فيه عاملان: عامل الإنصاف، وعامل ضرورات العيش أو إرضاء شهوة من شهوات الأمارة بالسوء. ومتى قضت ضرورات العيش أو شهوات النفس خرس عامل الإنصاف قليلا ثم عبس وبسر، ثم ولى مدبرا وتوارى. وهذا الفريق شر الثلاثة؛ لأنه يتناول العبارة فيعمد منها إلى ما ينفعه ويصد عما يضره، فهو ينتقر ويختزل ويمسخ ويشوه، ثم يبني على هذا الانتقار والاختزال والمسخ والتشويه ما شاء من شوامخ الأباطيل ويبيعها للناس. وهو في كل ذلك على بينة من إجرامه وشنيع إصراره، لا شيء يردعه من عقل أو من ضمير؛ إذ عامل الإنصاف حين ولى عنه قد مرض ومات وانقبر. ومهما يكن أهل هذا الفريق قد قرءوا «أن الحرة تجوع ولا تأكل بثدييها.» بل مهما يكن الله أنذرهم بأنه إنما يملي لهم ليزدادوا إثما، فإنهم لا يأبهون لذلك التبكيت ولا لهذا النذير. ألم يقرءوا أن الله إنما «يضع الموازين القسط ليوم القيامة» لا لما قبل يوم القيامة؟ أولم يسمعوا أن الحساب لن يكون إلا في الآخرة، وأن رحمة ربك وسعت كل شيء؟ أولم يحفظوا في كتب الهجاء أن عصفورا في اليد خير من كركي في جو السماء؟ وإذن فلينتهزوا شهود العاجلة وليسعوا لها سعيها وهم مجرمون، وليرفسوا تلك الآجلة التي كلها عليهم هم وغم وبلاء مبين. وكل هذه المحادة لله وللضمير، إنما يأتونها - على ما ترى - اجترارا لغنم حقير، أو إرضاء لشهوة من خسيس الشهوات. ألست معي في أنهم شر الثلاثة؟ ألا إن ابن حواء عيبة أعاجيب!
11
ذكرت في بياني صعوبات العربية، ونعيت على سوء رسمها الحاضر، وعلى زيادة الطريقة الجارمية لهذا السوء. وتعهدت بأن أكافئ جهد استطاعتي من يصل إلى طريقة لكتابة العربية بالحروف العربية ذاتها كتابة فيها يؤدي الحرف بذاته صورته الصوتية أداء صادقا (العبارة الأخيرة من فقرة 58).
2
وبينت (في فقرة 68) أنه يحزنني اطراح الحروف العربية والاستعاضة عنها بالحروف اللاتينية، وأن ضرورة المحافظة على كيان العربية هي التي تضطرني لهذا الاقتراح البغيض.
وعباراتي في تينك الفقرتين مكتوبة بالعربية لا بالصينية ولا بالهيروغليفية، ومفهومها أن الحروف ليست بذاتها محلا للحب ولا للكره، وإنما هي تستحسن إذا وفت بالغرض منها فيحتفظ بها، وتستقبح إذا قصرت عن هذا الوفاء وعجزت كل حيلة عن علاج قصورها فتطرح وترمى في سلة المهملات.
المطلب الثاني
12
قام على رأيي كثير من الاعتراضات وصل إلى علمي منها اثنان وعشرون سأذكرها لك فيما يلي، مردفا كلا منها بردي عليه. وقد صغت هذه الاعتراضات صياغة عربية تحريت فيها دقة التعبير عن مراد بعض المعترضين الذين قصر لسانهم أو قلمهم عن الإبانة بوضوح. وإذا لاحظت في ردودي شيئا من التكرار، فعلته أولا: أن كل اعتراض كنت أدون ردي عليه بمجرد وصوله إلى علمي. وثانيا: أن هذه الاعتراضات متداخل بعضها في البعض، وقد حرصت على أن يكون كل رد مواجها لكل اعتراض، وأن يكون مستقلا برأسه، حتى يسهل على كل معرفة جوابي عليه.
الأول:
قيل إني أريد نبذ العربية ذاتها،
قال هذا من القوم كبار وصغار، وهو كما ترى اختلاق صبياني سخيف.
الثاني:
قيل إن الحروف اللاتينية لا
الحاء هاء، والصاد سينا، والضاد دالا ... إلخ.
وموردو هذا الاعتراض إما أنهم لم يقرءوا بياني ولم يعرفوا كيف لاحظت هذا الذي يعترضون به، وكيف عالجته، فهم معذورون. وما عليهم سوى أن يقرءوا البيان، فإنهم يجدون (في الفقرات من 28 إلى 39) ما يسقط اعتراضهم ويردهم من هذه الناحية مطمئنين. وإما أنهم قرءوا ولكنهم متعنتون، والمتعنت مراء شغاب لا يستأهل الخطاب.
الثالث:
يقولون إن اتخاذ الحروف
الانتفاع بآثار السلف في العلوم والفنون والآداب.
وهذا الاعتراض قد استثرته أنا نفسي في فقرة 25 من البيان، وهو اعتراض جدي وجيه، لكنه كالطبل يطن وجوفه خلاء. إن علاجه مالي بحت، وكل ما كانت ديته المال فهو من الهنات الهينات، مليون من الجنيهات أو مليونان على الأكثر أو ثلاثة ملايين مع شدة الإسراف في التقدير، تصرفها الحكومة لا دفعة واحدة في سنة واحدة، بل على التوالي في بضع سنين، فتطبع لك كل أمهات معاجم اللغة، وكل المهم من كتب الآداب منظومها ومنثورها، وكل المهم من كتب العلوم والفنون إن كان عندنا منها مهم. والإغضاء عن هذا العلاج المالي الميسور، ثم اللجوء إلى تصعيب الأمر والتخويف من عواقبه، لا يراه العاقل إلا ضربا من التعاجز والتباكي لمجرد الإيهام واستبقاء اللغة المسكينة تتكمش في ثوبها الخلق الذي كله تنكير وتبهيم وإضلال.
واجه الحقائق، ولا تصدق الخالين الذين يخيلون إليك الحبة قبة. ارجع إلى كليات العلوم والطب والصيدلة والهندسة والزراعة والحقوق، وهي عندنا معاهد العلم الصحيح الذي عليه الاعتماد في إنهاض البلاد، ثم ارجع إلى مدارس الصنائع والفنون، وإلى معاهد الفنون الجميلة من موسيقى ونقش وتصوير. ارجع إليها وسل أساتذتها المصريين، فإنهم جميعا ينبئونك أن الدراسة في كلياتهم ومعاهدهم قائمة على علم الأوروبيين وفن الأوروبيين وكتب الأوروبيين، وأن خيارهم إنما هم أولئك الذين بعثتهم الحكومة لأوروبا وأمريكا فدرسوا هناك صنوف العلوم والفنون، ثم عادوا يعلمونها المصريين. كما يقولون لك إننا - نحن العرب - إذا كنا في زمن حضارتنا عالجنا شيئا من المسائل العلمية، مما فضلنا فيه معترف به من العدو قبل الصديق، فإن ذلك إنما كان قدرا جزئيا ضئيلا لا يسمن الآن ولا يغني بالإضافة إلى ما وصل إليه الأوروبيون، وإن أي كتاب عربي علمي قديم إذا اقتناه أحدنا الآن، وقلما يقتنيه أحد؛ فإن ذلك لا يكون إلا لمجرد الموازنة بين العلم في طفولته وبينه في دور الاكتمال. هذا ما تسمعه من أولئك الأساتذة العلماء، منه تعرف أننا الآن في العلم والفن عيال على الأوروبيين لا على أسلافنا الأولين. كما تدرك أن بعضهم إذا كان يلذ جمع المشرقيات العربية من قديم الكتب وقطع الفنون، فإن سواد الأمة لا حاجة بهم إلى مثل هذه اللذاذات، بل يكفيهم أن تحفظ لهم في دور الكتب والآثار الحكومية العامة يراجعها منهم من قد تصبوا أنفسهم للاشتغال بتاريخ مسألة من مسائل العلوم والفنون. وإن وجد بينهم من يريدون أن يجهدوا في هذا السبيل كما يجهد الأجانب من المستشرقين، فليجهدوا؛ فالبيئة بيئتهم، واللغة العربية لغتهم، ودور الكتب والآثار أقرب إليهم منها إلى أولئك المستشرقين.
إذن لا تسمع لمن يفتنك بقالة الانقطاع عن آثار السلف في العلوم والفنون؛ فإن تلك الآثار أصبحت - بالقياس إلى ما عند الأوروبيين - سرابا موهما إذا جئته لم تجده شيئا، ووجدت الحقيقة المرة تصدمك وتردك خائرا إلى الصواب.
إن لم يعجبك قولي ولم ترد الرجوع إلى أساتذة الكليات ومعاهد الصنائع والفنون كيما تثق بأننا حقا في العلم والفن عيال على الأجانب، فارجع ولو إلى الصحيفة الأخيرة من ذلك التقرير الجامع الذي وضعه الهلالي باشا وزير المعارف وقدمه للبرلمان. وإن لم ترد فارجع إلى ما قالته اللجنة المالية بمجلس النواب في تقريرها الخاص بميزانية هذا العام، ترها تشير على الحكومة بمواصلة إرسال البعثات إلى أوروبا لتحصيل العلوم التي تنقصنا، وعلى الأخص لتعلم الصنائع والفنون. ولو أن الأمر كان كقالة القائلين لنصحت بإرسال البعوث إلى دور الكتب والآثار بمصر لتلقي العلم والفن فيها عن مؤلفات السلف وما تركوا من مصنوعات، ولكان ذلك أخصر الطرق وأيسرها نفقة، وأكثرها سالكين. فاسمع كلامي أو لا تسمعه، وأعف نفسك أو لا تعفها، لكن أعفني أنا من كلام غير المسئولين.
الرابع:
يقولون كيف لا تحترم رسم القرآن؟
أنا أحترم القرآن لأنه كتاب الله وأساس الدين ومفخرة العربية.
ولكني لست مأمورا ديانة باحترام رسم القرآن: (1) لأن الله لم ينزل به من سلطان، ولم يفرض علينا التعبد له برسم القرآن. و(2) لأنه إذا كان بعض الحمقى تورطوا فادعوا أن رسم كتابة اللغات جميعها - لا رسم العربية فقط ولا رسم القرآن فقط - هو توقيفي علمه الله آدم، فسوى آدم أحرف كل لغة وطبخها كالآجر، ولما هبط إلى الأرض وأتى الطوفان فبعد انحسار مائه وجد أهل كل جهة حروف لغتهم حاضرة لديهم فاستعملوها، إذا كان ذلك البعض تورط في هذا الزعم؛ فإنه - كما ترى - زعم كله بلاهة وتخريف واختلاق، ما كان لعاقل أن يعيره أدنى التفات. و(3) لأنه إذا كان بعض متهوسي الصوفية وبعض المبتدعة قد زعموا أن الحروف والأصوات قديمة، وأنها إذا رسم بها كلام الله أصبحت هي قديمة كقدم كلام الله، فإن عقلاء السنيين قاوموا هذه الفرية ونعوا على أصحابها جهلهم المطبق، وقرروا الحق من أن رسم القرآن، كرسم كل كتابة أخرى، إنما هو من اختراع الإنسان؛ أي إنه حادث لا قديم، ومهما يكتب به القرآن فلن يزال حادثا لا قديما. و(4) لأن صورة هذا الرسم كانت في عهد عثمان بن عفان وكتب مصاحفه بها إنما كانت صورة بدائية سقيمة قاصرة
1
خيف من سخافتها وقصورها أن تضلل المسلمين في قراءة القرآن، فسارع الخليفة عبد الملك بن مروان إلى كشف هذه الغمة، وتولى الحجاج بن يوسف عامله في العراق تنقيط القرآن؛ منعا لالتباس بعض حروف كلماته ببعض، وباشر له التنقيط جماعة من خيرة الحفاظ. ولما لوحظ مع الزمن أن النقط إذا كان يضبط الحروف ويمنع تبديل حرف منها بحرف يماثله في الهيكل، فإنه - كما أسلفت - لا يضبط صورة أداء الحرف من ناحية الحركات والسكون، ولا يمنع التصحيف من هذا الباب، فقد فكر المسلمون في أن كشف هذه الغمة يكون بشكل حروف كلمات القرآن، فشكلوه أولا بالنقط بمداد مخالف، ثم عدلوا إلى شكله بالطريقة الجارية الآن. ولو أن رسم القرآن الذي كتبت به صحف النبي
صلى الله عليه وسلم
والذي نقل بذاته في مصاحف عثمان بن عفان كانت له أدنى قدسية، لما جرأ ابن مروان ولا الحجاج ولا أحد ممن بعدهما - كبر أو صغر - على أن يمس هذا الرسم أدنى مساس. و(5) لأن الكتابة العربية التي اتخذها عثمان بن عفان لرسم القرآن كان جمهور المسلمين يقولون إنها مستمدة من خط الجزم الكوفي، ويظنون أن الكوفي مستمد من المسند الحميري خط أهل اليمن.
2
وما زالوا على هذا الفهم حتى جاء المستشرقون الأوروبيون في القرن التاسع عشر - أي بعد زيادة عن ألف ومائتي سنة من الهجرة - وبحثوا ونقبوا بحثا لا عاطفيا خياليا، بل علميا واقعيا، استنطقوا فيه الجوامد وهي لا تكذب؛ لأنها ليست لها لسان كلسان الإنسان تذبذبه بالإفك والبهتان، استنطقوها ثم بينوا لنا، نحن أهل العربية الساهين، أن النقوش دلتهم على أن كتابتنا أصلها نبطي. كما علمونا - بفضل بحوثهم التاريخية - أن النبط كانوا قوما أشداء من العرب العاربة، منازلهم القسم الشمالي من الجزيرة جنوبي الشام وفلسطين، وأنه كان لهم مملكة قامت من سنة 169 قبل المسيح إلى سنة 106 من بعده، ثم استولى عليها الرومان وأزالوها، وأن عاصمة ملكهم جهة الشمال «سلع» وكان اسمها عند قدماء المؤرخين من الفرنجة «بطرا
»؛ أي
«الحجر»، وهي المعروفة الآن باسم مدائن صالح على خط سكة حديد الحجاز، وأن هؤلاء النبطيين كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وهبل، وأنه للاتصال المستمر بينهم وبين أهل الحجاز نقل الحجازيون عنهم رسم كتابتهم، بل وعبادة آلهتهم. هذا هو الثابت للآن والمأخوذ به في جامعة فؤاد الأول.
3
وسواء كان رسم العربية الذي رسم به القرآن منقولا عن النبطيين من شمال الجزيرة؛ كما قال المستشرقون المتأخرون، أو عن اليمنيين من جنوبها؛ كما قال المتقدمون، فإنه في الحالتين رسم وثني بلا نزاع. بل اللغة العربية نفسها التي نزل بها القرآن لم ينشئها القرآن، بل هي كانت لسان قريش وغيرهم من قبائل العرب، وقد كانوا جميعا وثنيين، إلا عددا نزرا من أهل الكتاب. فهي لغة هؤلاء الوثنيين، وقد نزل بها القرآن، وما كان يمكن أن ينزل إلا بها؛ فإن الله تعالى يقول:
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان
.
إذا كان هذا هو الحق، وكان الله يقول:
والله لا يستحيي
، ويقول:
أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع
، ثم يردف هذا بالنعي على المنصرفين عن حكم العقل فيقول:
فما لكم
، يقول هذا إيذانا لنا بأن الحق وحده هو الواجب الاحترام، وأنه وحده الذي لا يستحى من الجهر به، وبأن الباطل ممقوت وعباده مأفونون سيئو الحكم والتقدير. إذا كان هذا هو الحق فإني، احتراما للحق، واحتراما للقرآن، وعملا بوصايا القرآن، أقرر بأني لست مكلفا باحترام رسم القرآن، ولست ألغي عقلي لمجرد أن بعض الناس أو كلهم يريدون إلغاء عقولهم، ولا يميزون بين القرآن العظيم، كلام الله القديم، وبين رسمه السخيف الذي هو من وضع الوثنيين القاصرين.
افهم عني هذا. وما يهمني أن ترى رأيي أو لا تراه؛ فإن الله يقول:
إنك لا تهدي من أحببت
.
شكل 1: صورة النقش الذي عثر عليه المرحوم حسن أفندي الهواري [منقولة عن كتاب أصل الخط العربي للأستاذ خليل يحيى نامق].
وهذه قراءته مفصولا بين كل سطر وما بعده بخط:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا القبر ---
لعبد الرحمن بن جبير (أو جبر، أو جبار، أو خير) الحجازي (أو الحجري) اللهم اغفر له ---
وأدخله في رحمة منك وآتنا معه ---
استغفر له إذا قرأ(ت) هذا الكتب (الكتاب) ---
وقل آمين وكتب هذا ---
الكتب (الكتاب) في حمدى (جمادى) الأ ---
خر من سنت (سنة) إحدى و ---
ثلثين (ثلاثين).
الخامس:
يقولون كيف تريد أن ترسم القرآن؟ وكيف تخالف الدين بمخالفتك إجماع المسلمين؟ بل إن أحدهم أرسل لي صورة برقية بعث بها لجلالة الملك يطلب إليه حماية الدين من هذا الشر المبين.
أما كيف أريد أن أرسم القرآن، فإنك لا شك علمت أن أسعد يوم في حياتي هو اليوم الذي أرى فيه كتاب الله مرسوما رسما يضبط بذاته كيفية أداء كلماته بلسان العالم والجاهل والمسلم وغير المسلم والعربي والأعجمي، أداء صحيحا لا يحتمل لحنا ولا تصحيفا. علمت هذا وعلمت أن الحروف اللاتينية بما فيها من حروف الحركات وما يضاف إليها من حروفنا العربية ذات النغمات التي لا تؤديها الحروف اللاتينية هي وحدها إلى الآن - في رأيي - التي توصل إلى تحقيق هذه الأمنية. وإذ كان أول ما يهمني هو المحافظة على سلامة أداء القرآن فرأيي بالبداهة إنما هو رسم القرآن بهذه الحروف اللاتينية وما أضيف إليها من العربية، وإني أعالنك بهذا مطمئن الضمير، مراقبا الله وحده فيما أقول وما أعالن به.
يهب الهبابون صائحين قائلين إن هذا حرام؛ لمخالفته إجماع المسلمين الذين تواضعوا من عهد النبي الكريم على رسم القرآن بالحروف العربية. وأقل ما يجاب به هؤلاء الهبابون أن المسلمين في عهد عبد الملك قد خرقوا إجماع من قبلهم إلى عهد النبي؛ فوضعوا النقطات التي لم تكن في صحف النبي ولا في مصاحف عثمان بن عفان. ثم خرقوه بعد عبد الملك بن مروان؛ فوضعوا الشكل بطريقة ثم بأخرى. ولست أعترض عليهم في خرق الإجماع ثلاث مرات؛ فإنهم إنما أرادوا الإصلاح ما استطاعوا. والإجماع الفاسد لا حجة فيه على أحد من المسلمين ، وأنا أيضا أريد الإصلاح ما أستطيع، فأبدل الحروف اللاتينية من الحروف العربية وأكفي المسلمين سوء رسم العربية الذي يشكو منه الناس أجمعون، والذي قال عنه الجارم بك، ما موجزه: «إن هذا الرسم أصبح فنا من الفنون، بل لغزا من الألغاز، وإنك إن لم تكن لغويا نحويا صرفيا معا لما كنت قارئا ولا شبه قارئ، وإن الشكل لا يقي من اللحن والخطأ، وإنه جرب في المدارس أن الطالب المثقف لا يستطيع قراءة القرآن مع أنه مشكول على أدق ما يكون.»
وإذا كانت الحروف العربية وثنية منقولة مباشرة عن الوثنيين فإن اللاتينية إنما أنقلها الآن عن النصارى وهم أهل كتاب أقرب من الوثنيين إلينا نحن المسلمين. بل إن المتفق عليه أن حروف الكتابة عند جميع أمم أوروبا مأخوذة عن اليونانيين الذين أخذوا حروفهم عن الفنيقيين، وأن جميع الكتابات السامية والآرامية وفروعها التي منها العربي النبطي أصلها أيضا مأخوذة من الفنيقيين، فاتخاذ الحروف اللاتينية لرسم العربية ليس فيه إلا مجرد استرداد لعاريتنا نحن الشرقيين بعد أن هذبها العقل اليوناني وأشاعها في بلاد أوروبا.
على أن الاعتراض بمسألة «الإجماع» هو تكأة العاجزين، وهم أناس مقلدون غلف العقول، إذا صرعهم الحق لملموا أشلاءهم وهرولوا لاجئين إلى قدس الدين، بل إلى لفظ الدين، يرمون عن قوسه، ويتخذونه مجنا يتقون به ما للحق من طعنات مصميات. والدين في قداسته - كما يعرف رجاله المحترمون - لا شأن له برسم كتابة العربية، وحروف لفظ الدين (ألف، لام، دال، ياء، نون) أوهى من أن يكون لها أي أثر في هذا السبيل، لكنهم في كل حركة وسكنة هكذا يفعلون، ترهيبا للبسطاء وإيهاما وخداعا باسم الدين، والله يشهد إنهم لكاذبون.
اعلم أن الدليلين؛ أي المصدرين الأساسيين الوحيدين في الشرع الإسلامي، هما كتاب الله والصحيح من سنة نبيه الكريم لا غير. وأن هذين المصدرين لما لم يكونا شاملين بالتفصيل لكل أحكام العبادات ولكل الأحكام الأخرى التي تطبق عند طروء ما يطرأ على المسلمين من الأحداث، وما يقوم بينهم من أقضية المعاملات؛ فقد اضطر المسلمون أن يرجعوا إلى الكتاب وصحيح السنة كيما يستنبطوا منهما تفصيل الأحكام في تلك الشئون. ولما كانت الحوادث دائمة التقلب والتجدد، وكان معظم تقريرات ذينك المصدرين واردا في حوادث وأقضية بخصوصها، اضطر المسلمون أن يقيسوا الحوادث والأقضية بأشباهها ونظائرها مما تناوله الكتاب والسنة، وأن يطبقوا عليها ما قرراه من الأحكام في تلك النظائر والأشباه؛ ومن أجل هذا جعلوا القياس من المصادر المعتبرة في الشريعة. وهذا أمر تدعو إليه الضرورة وتأمر به البداهة العقلية تحقيقا لمصلحة الاجتماع. ثم نظروا فوجدوا أن أحوالا قائمة أو تقوم في الناس - وعلى الأخص فيما فتحه المسلمون من الأمصار - من عادات في آداب السلوك، وفي كيفية تناول وسائل الحياة والاستمتاع بها، ومن اصطلاحات ومواضعات وعرف في المعاملات، لم يأمر بها كتاب ولا سنة، ولم يمنع منها كتاب ولا سنة، فأوجبوا بقاء تلك الأحوال - ما هو قائم منها وما يقوم - على ما هي عليه، واعتبارها أصلا يصار إليه إذا حدث بسبب حال منها نزاع. وسموا علة هذا الاعتبار «الإجماع»، وجعلوه من أدلة التشريع الإسلامي ومصادره. وكان هذا الجعل أمرا لازما تدعو إليه أيضا ضرورات الاجتماع، لكن هذا «الإجماع» الذي عبر العلماء عن قوته بكليات من القول المحكم الوجيز؛ كقاعدة «العادة محكمة»، وقاعدة «المعروف عرفا كالمشروط شرطا»، وقاعدة «القديم على قدمه»، هذا الإجماع لا يجوز ألبتة أن يعطل مصلحة من مصالح المسلمين، بل إنه إذا كشفت ظروف الأحوال عن ضرره بالمجموع، وكان في اطراحه والاستبدال به خير للمسلمين، فإن واجب الحاكم الشرعي أن يأمر باطراحه والاستعاضة عنه من الأنظمة والأحكام بما يحقق مصلحة الاجتماع. وإلى هذا الواجب أشاروا أيضا بقواعد منها «الضروريات تبيح المحظورات»، و«درء المفاسد أولى من جلب المصالح»، و«الضرر يزال».
هذا هو مركز «الإجماع» الذي يقولون عنه عند المسلمين. وإذ كانت طريقتي في رسم العربية ورسم القرآن الكريم تزيل الضرر وتحقق مصلحة المسلمين تمام التحقيق، فأعفني من زيادة الكلام في وهانة هذا الاعتراض.
على أن العربية ستبقى بفضل الله دائما هي العربية، فإذا كان بعض رجال الدين المحترمين يجدون - كما قد يلوح لي - على أنفسهم غضاضة ما أو مشقة ما من ترك القديم، فليبق لهم رسم القرآن وصحيح الحديث على ما هو عليه الآن - كما قلت في بعض المواقف - وليكتبا لجماهير الناس بالرسم الجديد. بهذه المثابة يبقى القرآن وصحيح الحديث مقروءين قراءة صحيحة من جميع الناس، محفوظين عند جميع الناس. وإن لدينا الآن بالمعاهد الدينية كثيرا من العلماء وآلافا من الطلبة، وهؤلاء إذا بقي لهم رسم العربية كما هو، واستمروا في قراءة كتبهم برسمها الحاضر، فإنهم سيكونون أيضا في طليعة قراء العربية بالرسم الجديد؛ إذ يكفيهم معرفة حروف الهجاء الجديدة وحروف الحركات الثلاث حتى يستطيعوا القراءة بلا أدنى عناء. وإذا قدر لمشروعي النجاح، وهو ما أعتقد أن سيكون عاجلا أو آجلا، فلعل لنا فائدة في بقاء حضراتهم على استعمال الرسم الحاضر، هي أن يؤدوا لنا في المستقبل عمل المستشرقين، ويحلوا لنا رموز ما لم يطبع بالرسم الجديد من قديم الكتب والمؤلفات. بل لعل ما نحن فيه يكون فرصة ساقها الله لحضرات علمائنا الأجلاء وهو ينظر إليهم هل يهتبلونها فيشمروا عن ساعد الجد لتنقية كتب الحديث الشريف مما وضعه ودسه علينا الزنادقة والخوارج والقصاصون والسذج من الصالحين وهواة الإسرائيليات والمتزلفون لذوي السلطان؛ وذلك حتى لا يكتب بالرسم الجديد وينشر للجماهير من الأحاديث إلا ما صحته لا شك فيها ولا ارتياب؟ لعلها تكون فرصة هيأتها يد القدر، فهل هم منتهزوها ففاعلون، كيما ينالوا ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، وهو ثواب ضمنه الله للعاملين المحسنين؟
السادس:
كتب بعضهم يقول:
والحديث بالحروف العربية فمن يقرؤهما في المستقبل؟ ألا تكون الكتابة العربية حينئذ بمنزلة الكتابات التي اندرست كالقبطية القديمة (هو يعني كتابة قدماء المصريين) وغيرها؟
كلا يا سيدي، ها أنت ذا ترى فيما أسلفت ما يطمئنك على بقاء القرآن والحديث مكتوبين بالرسم الحالي، فلن يندرس هذا الرسم، بل سيكون له دائما من رجال الدين وطلبة المعاهد الدينية من يقرءونه ويحافظون عليه.
على أنه لا يغيب عن سيدي أن اختراع الطباعة والفوتوغرافيا والفونوجراف كدس في عدد عظيم من دور الكتب بمشارق الأرض ومغاربها أكداسا من الكتب العربية، قديمها وحديثها، مطبوعها ومصورها، كما كدس أقراصا تشخص جرس ما للحروف العربية من النغمات. وليس تكديس ذلك في البلاد الأجنبية لهوا من أهلها ولعبا، بل إن هناك من العلماء من يعكفون على قراءتها للوقوف على ما بها، لا لاستفادة فلسفة أو علم أو فن أو أدب هم في حاجة إليه، بل للوقوف على تاريخ الفلسفة والعلوم والفنون والآداب ومراحلها التي تكون قطعتها من قبل في بلاد العربية، ثم للوقوف على كيفية النطق بالعربية الفصيحة، بل وعلى كيفية النطق بلهجاتها العامية في مختلف البيئات. فإذا كان هؤلاء العلماء المستشرقون يقرءون هذا الرسم ويحددون جرس العربية وهي غير لغتهم، كما قرءوا من قبل لغة قدماء المصريين البائدة وإن لم يصلوا لتحديد جرسها لانقراض الناطقين بها، أفتظن أننا نعدم، واللغة لغتنا، أن يقوم من بيننا الكثيرون يعملون عمل المستشرقين، حتى لو فرضنا أن المعاهد الدينية عندنا لا تحافظ على الرسم القديم؟ إنك يا سيدي جد متشائم، ولكنك تخلق لنفسك هذا التشاؤم بالصناعة لتخلق الاستشكال. أما أنا فجد متفائل. وكل يعمل على شاكلته، وربك أعلم بأينا هو الأقرب للعربية رحما، وأينا هو الأهدى إليها سبيلا. ولو كان في علم الله تعالى أن تشاؤمك حق، وأن تفاؤلي وحسن ظني بقومنا باطل، لوجب أن أواري أنا وكل قومنا انحطاطنا عن أعين الناس، وأن ندفن رءوسنا في الطين.
السابع:
يقولون إن رسم الحروف
وهذا اعتراض غريب. الحق الذي لا ريب فيه أن مشخصات كل أمة في يوم الناس هذا، اثنان لا ثالث لهما: وحدة الوطن الإقليمية والسياسية ووحدة اللغة. أما وحدة رسم الكتابة فلا يقول أحد إنها من مشخصات الأمم، لا هي ولا وحدة الزي، كلا ولا وحدة الدين. إن الفرنسيين والإنجليز والأمريكان والطليان والأسبان والبلج وغيرهم، كلهم يتخذون حروفا واحدة لرسم كتابتهم، وكلهم يتخذون زيا واحدا للباسهم من الرءوس إلى الأقدام، وكلهم نصارى على دين المسيح، ولم يقل أحد إنهم جميعا أولو قومية واحدة، أو إنهم جميعا أمة واحدة يشخصها الزي أو رسم الكتابة أو تشخصها وحدة الدين. وكذلك الإيرانيون والجاويون لا يقول أحد الآن إنهم هم والعرب أمة واحدة لمجرد أنهم يشتركون معهم في رسم الكتابة، وأنهم كسواد العرب يدينون بالإسلام. بل إن كلا من تلك الأمم إنما يشخصها استقلالها سياسيا بأرض وطنها ثم وحدة لغتها فحسب. وها أنت ذا ترى الحرب قائمة على قدم وساق بين أمم كلهم مسيحيون ومتشابهون في رسم الكتابة وفي الأزياء. فلا تسمع لكلام المهوشين الذين يوهمونك بالباطل لمصلحة مزاعمهم التي يناقضها الواقع المحسوس في كل بلاد الله.
الثامن:
من أطرف الاعتراضات
حاصله، بما يقرب من لغته ويبرز فكرته: «أما كفانا أن الساعة بعد ما كانت بالعربي عملوها بالإفرنجي، وأن الأشهر بعد ما كانت بالعربي عملوها بالإفرنجي، ولم يبق لنا إلا الكتابة بالعربي، فحتى هذه البقية الباقية تريد أن تفرنجها؟ يا شيخ فضك من التخريف.»
قد تسخر من هذا الرجل وتقول إنه عامي ساذج، أو إنه من قبيل أولاد النكتة من المصريين الذين قال أحدهم تنادرا باقتراحي: «بقى خرجنا من الفرعونية وقعنا في اللاتينية؟» وقال آخر عند ما بلغه قولي إن اقتراحي من مزاياه أن يعمم العربية: «هو لا يعممها بل يبرنطها.» لا تسخر من مرسل تلك التذكرة المفتوحة؛ فإني أراه خيرا من جميع المعترضين؛ ذلك بأن الساعات إذ اتخذت ابتداء من الزوال وساعته كانت تبتدئ من الغروب، فقد اختلط عليه حساب أذان المغرب، ثم معرفة باقي أوقات الصلاة، ومدفع الزوال لا يفيده علما بها. وإذ كان هو فراشا أو ساعيا أو كاتبا صغيرا في مصلحة يصرف له راتبه بحساب الشهر الإفرنجي، فكثيرا ما يفاجئه أهل منزله بطلعة رجب، وليلة نصف شعبان، وليلة عاشوراء، مما يقتضي نفقات يسهو المسكين عن الاحتياط لها أول الشهر يوم «القبضية»، وفي ذلك حرج عليه. وإذا تغيرت الحروف العربية كان تغيرها عليه مصيبة ثالثة؛ لأنه لا يستطيع أن يقرأ حساب الخباز والخضري والجزار. أقل ما في اعتراض الرجل أن له أسبابا يبينها ليدفع عن نفسه بلوى الحروف اللاتينية. ولكن ما ظنك بمن يعترضون لوجه الشيطان، ويخيلون إليك مع هذا أنهم باعتراضهم إنما يبتغون وجه الله والمحافظة على دين الإسلام؟
التاسع:
يقولون إن رسم الكتابة
«جاوه وسومطره وغيرهما»، فكلها تابعة للعرب في هذا الشأن، وإن المسلمين هناك، وعددهم لا يحصى، يكتبون ويقرءون القرآن والحديث بهذا الرسم العربي، فكيف تريد حرمانهم من هذه المزية وحرمان العرب من هذا الشرف الكبير؟
سبحان الله! لئن كانت لغات تلك البلاد مبتلاة بمثل ما العربية مبتلاة به في حركات كلماتها، فالأخلق بالمعترض أن يقلب سؤاله فيقول: كيف أن العرب - وهم إخوان أهل تلك البلاد في الدين - قد رزءوهم بمصيبة الرسم العربي السخيف، ووضعوا غله في عنق لغاتهم، وجعلوهم عليهم بلسان الحال من الساخطين؟
حقا إن أهل تلك البلاد يكتبون لغتهم بالرسم العربي، ويكتبون به القرآن، ولكن هل تظن أن عامتهم أو خاصتهم يفهمون شيئا من القرآن؟ كلا، بل يلوح لي أنه إذا وجد فيهم من يتعلم العربية ويكتبها ويقرؤها، فكما يوجد من المستشرقين من يتعلمها لا أكثر، وإذا طبعت هناك كتب عربية فكما تطبع في أكسفورد وليدن وليبزج لا أكثر.
قدم لي أحد من عادوا من حج هذا العام كتيبا مطبوعا سنة 1933 في مدينة لاهور بالبنغال، به بعض سور من القرآن وبعض أدعية مكتوبة بالرسم العربي، ولكن كل سطر منها تحته ترجمته بلغة تلك البلاد. مما يدل أولا: على أن القرآن مترجم من العربية إلى لغة هؤلاء المسلمين من عهد بعيد. وثانيا: على أنهم إنما ينطقون بكلمات القرآن كما تنطق الببغاء بدون أن يدركوا لها معنى إلا ما تؤديه لهم الترجمة المكتوبة تحتها. ومن ناحية أخرى إذا تأملت في مقدمة هذا الكتيب، وفي طريقة إشارته إلى بعض سور القرآن، ثم في طريقة كتابته للقرآن نفسه، لعلمت أولا: أنهم في لغتهم يحرفون أسماء السور؛ فيقولون: «سورة فتح. رحمان. واقعة. ملك. مزمل. نبأ. إخلاص» بحذف أل التعريفية. وثانيا: أنهم يكتبون هيكل كلمات القرآن على أصله النبطي القديم، فيكتبون الكلمات الآتية من سورة الرحمن هكذا: «ينتصرن. يكذبن. جنتن. عينن. تجرين. زوجن. قاصرت. مدهامتن. عينن. نضاختن. ذي الجلل» بحذف حرف الألف من موضعها في كل من هذه الكلمات، والاكتفاء بألف صغيرة فوق الحرف الممدود. وفي هذا دلالة حسية على أن واضعي رسم المصاحف المتداولة بيننا الآن، إذا وضعوا الألفات مواضعها في كل تلك الكلمات فقد خالفوا رسم الهنود المطابق هيكله للرسم العربي الأصلي، وأنهم هم والهنود كانوا من قبل خرقوا الإجماع أيضا بوضع الألف الصغيرة فوق الحرف الممدود، مما لم يكن له سابقة في مصاحف عثمان بن عفان. ومن هذه الناحية ترى أن الإجماع على أصل الرسم الذي لم تكن فيه ألف ولا إشارة لألف قد خرقه المسلمون، مرة أولى بإشارة الألف؛ أي تلك الألف الصغيرة التي بقي الهنود ملازمين لها. ومرة ثانية في بلاد العربية التي وضعت في مصاحفها حرف الألف داخل هيكل الكلمات، مستبقية أيضا تلك الألف الصغيرة فوق الحرف الممدود، في بعض الكلمات، وغير مستبقية لها في البعض الآخر. مما يزيدك علما بأن رسم المصحف لا قدسية له، ولا يحتج فيه بأي إجماع.
أما كون اتخاذ الحروف اللاتينية يحرم العرب هذا الشرف العظيم فقلب حال كذلك؛ لأن من يرمي الناس بداهية لا يحوز لنفسه بفعلته شرفا بحال.
العاشر:
يقولون إن تحسين
يكون من طريق تقريب أصولها وقواعدها؛ لأن الاتجاه لتيسير الرسم معناه نقل العبء من القارئ إلى الكاتب. وبيان هذا: أن القارئ إذا تيسر الرسم فهو ينطق بما يقع عليه بصره نطقا مضبوطا في ذاته مطابقا للرسم. وقد تكون العبارة التي يقرؤها غير مضبوطة في ذاتها بحسب أصول اللغة وقواعدها، فيعتاد القارئ قراءة ما هو غير مضبوط عربية من العبارات التي قد تسجل بالطباعة فيستديم ضررها. وأن هذا الضرر لا يمتنع إلا إذا أوجبنا على الكاتب أن يتعلم أصول اللغة وقواعدها، حتى لا يكتب إلا صحيحا، وحتى لا يقرأ الناس إلا الصحيح. وبهذا يئول تيسير الكتابة إلى نقل العبء من القارئ إلى الكاتب.
مهما يكن بياني لهذا الاعتراض معقدا فإنه على كل حال اعتراض خارج عن الموضوع. وما أشبهنا - إزاءه - بالباحثين عن طرفي الحلقة المفرغة، تقوم الساعة علينا قبل أن نهتدي إلى المطلوب! إن مسألة البحث في أصول اللغة وتيسير قواعد نحوها وصرفها، تلك التي يقول المعترضون إنها هي العلاج الشافي لأدواء العربية، هي مسألة أخرى قائمة بذاتها، وهي مطروحة فعلا على المجمع اللغوي، يرود مداخلها ومخارجها، ويحاول ما وسعت قدرته تمهيد ما يقبل منها التمهيد. أما ما نحن بسبيله الآن فهو مسألة تيسير رسم الكتابة العربية، وعلة البحث فيها استقلالا هي ما لاحظه الناضل من محبي العربية والمنضول، والفاضل والمفضول، والرائحون والغادون، والقدماء والمحدثون، وطوب الأرض ونجوم السماء، من أن خليل مطران والجارم والعقاد والأسمر وهيكل وطه حسين وأحمد أمين وأحمد حسن الزيات والمازني ونظراءهم من الشعراء والأدباء، وإلى جانبهم أساتذة العربية بالمدارس، وأنطون الجميل وفكري أباظه وزكي عبد القادر والشناوي والسوادي ورصفاؤهم من رجال الصحف والمجلات، أولاء جميعا يجهدون ويكدون ويخرجون لنا من قصائد الشعر وكتب الأدب وكتب التعليم والمقالات المختلفة في السياسة والاجتماع، ما كله محرر على أدق ما يكون من المطابقة لأصول العربية وقواعد نحوها وصرفها، وما كله مرسوم على خير ما يكون رسم الكتابة العربي الحالي. ومع هذا فإن قراء تلك الأشعار والكتب والمقالات لا يستطيعون قراءتها على الوجه الذي أراده واضعوها المتمكنون في اللغة وقواعدها، بل هم يخطئون في قراءتها خطأ شنيعا يخرج بالعبارات عن أصل معناها المراد؛ وذلك لأن رسم الكتابة في ذاته قابل - بسبب عدم وجود حروف الحركات أو «الشكل» الذي أفلس - لأن ينطق به، رغم أنف أولئك الكاتبين الفحول، على جملة وجوه، منها الصحيح وأكثرها خاطئ معيب. ومن أجل هذا مست الضرورة - قديما وحديثا - لبحث هذا الرسم ذاته. وكل الكلام الآن دائر عليه دون سواه، بقصد معالجته وجعله متمحضا لوجه واحد من الأداء؛ بحيث إذا رسمه الشعراء والأدباء والكتاب المذكورون وغير المذكورين من أساطين العربية، المعصومة أقلامهم من الأغلاط، على صورة يتعمدونها ولا يريدون سواها، قرأه القارئ حتما جزما كما أرادوا. وإذن فما محل هذا الاعتراض؟ وما معنى تسجيل الأغلاط واستدامة الأغلاط؟
لنفرض - هنيهة - أننا جارينا حضرات المعارضين، فأخرسنا ألسنتنا عن الجهر بالشكوى من سوء رسم العربية، وأمسكنا عن البحث في أمر إصلاحه، وصرفنا كل همنا في مسألة تسهيل أصول اللغة وتبسيط قواعد نحوها وصرفها، ثم لنفرض أيضا المستحيل؛ نفرض أن هذا الاتجاه لم يبق أحدا من الناس إلا وقد رفعه إلى صف من ذكرنا من كبار الشعراء والكتاب، أفلا يرى المعارضون أن سوء الأداء وكثرة التصحيفات وشنيع الأغلاط لن تنقطع ما دام رسم الكتابة باقيا كما هو، وأن الضرورة ستلجئنا إلى ما نحن فيه من الصراخ والمطالبة بالبحث فيما نبحث فيه الآن من إصلاحه؟ أفلا يرون حقا أننا بمثل هذا الاعتراض نضيع الوقت في اللف والدوران والبحث عن طرفي الحلقة، واغلين في البعد عن محجة السداد؟
تعمدت الإسهاب في الرد مجاملة لحضرات المعترضين، وإلا فإنهم لو كانوا من أعضاء المجمع اللغوي لعرفوا أن اعتراضهم وردي هذا المسهب كلاهما عبث لا خير فيه. إن لائحة المجمع تجبهما؛ نصها صريح في أن عليه البحث في تيسير رسم الكتابة العربية. ووزير المعارف عهد إليه بهذه المهمة بقرار منه خاص، وهو مكلف نظاميا بتنفيذ قرارات الوزير. ومورد النص لا مساغ للاجتهاد فيه.
الحادي عشر:
يقولون كيف تستعمل
الاتجاهات في النطق، وبعضها - مع أنه هو هو - قد يحرك الحرف حركتين مختلفتين؟
ومن يقرأ في اقتراحي مسألة الحركات العربية والحروف الثلاثة المختارة لها (فقرة 41 إلى 43)، يجد أن هذا الاعتراض مستحيل وروده عليه.
الثاني عشر:
يقولون
ينطق بها. فالإنجليزية - مثلا - فيها جملة من تلك الأفعال الشاذة، وفي كثير من كلماتها حروف مثل
gh
لا ينطق بها، ولم يتأذ الإنجليز برسم لغتهم ولا بما فيها من الشذوذ في تصريف الأفعال.
وهذا كلام لا يصح بحال أن يقال، فإن الأفعال الشاذة في الإنجليزية والكلمات التي فيها حروف لا ينطق بها مثل
gh
في كلمة
night
وما أشبهها، أو ينطق بها
f
كما في
rough
وغيرها، إذا أحصيتها جميعا وجدتها قد لا تتجاوز أربعمائة فعل وكلمة، أو خمسمائة مع المبالغة في التقدير. وكل الطلبة المصريين - دع أهلها الإنجليز - يعرفونها ولا يخطئون في نطق رسمها. لكن تعالى إلى العربية، إن فيها كما يقولون نحو (80000) ثمانين ألف أصل، بخلاف المشتق مما يمكن منه الاشتقاق، فإذا جعلنا لكل من هذه الأصول خمسة مشتقات في المتوسطة أو أربعة أو حتى ثلاثة فقط، لحصل عندنا (240000) مائتان وأربعون ألف كلمة، كلها مركبة من أصوات جوهرية لا تعرف حركات حروفها بذات رسمها. ولشتان ما بين خمسمائة كلمة في الإنجليزية وبين هذه الآلاف المؤلفة في العربية! فأية قيمة إذن لمثل هذا الاعتراض؟
الثالث عشر:
يقولون إن الكتابة
منها إذا كتبت بالحروف اللاتينية ملأت كلماتها صفحتين أو ثلاثا، بل قد سمعت نقلا عن أحد كبار الأذكياء أنه قال: إن بعض الفرنسيين حاول الانتفاع بمثل هذه الميزة الاختزالية، فوجد أن عبارة
Hélène a eu des bébés (هيلانة رزقت أطفالا) يمكن كتابتها هكذا:
hlnaudbb .
فأما فكرة الاختزال والاقتصاد فمردود عليها في بياني (فقرة 23). وأما عبارة «هيلانة» فمن الأحاجي التي كثيرا ما ينشر مثلها في الصحف الإفرنجية لتسلية الناس. ولا شك عندي أن حاكيها أراد بها الإشارة إلى أن رسم لغتنا كرسم تلك الأحاجي المعميات، وهو في إشارته من الصادقين. ويخيل إلي أنه من الحذاق المتصونين الذين يربئون بأنفسهم عن زيادة التصريح وما تسحبه زيادة التصريح على صاحبها من ألسنة حداد. لكنا نحن عن إشارته ساهون.
الرابع عشر:
يقولون إن الفتحة
والياء، يجذب الحرف منها ما قبله فيحركه بحركة تناسبه ، فلا يبقى من بعد في الكلمات سوى الضم والكسر والتشديد والتنوين والسكون، وإن أقل الأقدار من الشكلات يكفي للدلالة على هذا متى خيف اللبس. بل إن للعربية في تصاريفها صيغا قياسية معروفة اعتادها الناس، فهم ينطقون بها نطقا صحيحا مشكولة كانت أو غير مشكولة. ثم يقولون بناء على هذا كله إنه لا لزوم لا لإيصال الشكلات بالحروف، ولا لتغيير الحروف ذاتها بحروف لاتينية توضع في غضونها حروف الحركات.
لكن القائلين بهذا يسهون سهوا تاما عن أن هذه الطريقة لا تفيد البادئين في التعليم ولا أنصاف المتعلمين ولا الأجانب عن العربية، بل ولا المتعلمين تمام التعليم من أهل العربية أنفسهم. إنها تقتضي أن يكون القارئ عارفا من قبل بمفردات اللغة وبعلمي الصرف والنحو. ألم يقل الجارم بك: «إنك إن لم تكن لغويا نحويا صرفيا معا لعجزت عن أن تكون قارئا أو شبه قارئ»؟ أولم يقل: «إن الشاب المثقف يخطئ في قراءة المشكول خطأه في غير المشكول، وإنه يخطئ في قراءة القرآن مع كونه مشكولا على أدق ما يكون الشكل»؟ وإذن فهذا الاعتراض - أو بالأحرى هذا المذهب - غير موصل للغرض الذي نسعى إليه.
الخامس عشر:
وردني بالبريد
هو أني غير مغرم بقراءة الجرائد، وبحسبي جريدة واحدة أقرأ فيها، لا كل الأخبار، بل بعض المفيد من الأخبار. ولسببين آخرين خاصين بها هي، أولهما أني لما فضضت غلافها قرأت أنها جريدة أسبوعية، ولكني وجدت تاريخها ربيع الآخر سنة 1363 بلا تعيين يوم من الشهر ولا أسبوع، فأدركت أنها من الجرائد التي تظهر مرة وتختفي أخرى بحسب التساهيل، وثانيهما ما قرأت فيها من أنها جريدة دينية إسلامية، وأنا مكتف بما يسر الله لي من ديني، وموقن بأن لا مزيد عليه عند كائن من كان من المسلمين. وهو سبب يصرفني عن إضاعة درهم واحد في شراء مثلها حتى لو كانت غير مغمورة بل كانت ذائعة بين المصريين وغير المصريين.
قرأت في تلك الجريدة مقالا أشار إليه مرسلها، فسررت سرورا بالغا لعثوري على إنسان يكتب العربية نقية سليمة من كل عيب، مهما يكن الاسم المجهول الموضوع في ذيل المقال دالا على الذات الكاتبة، أو يكن لفظا مستعارا من أحد المسخرين. وليس يرين على سروري ما رأيت في المقال من بعض العبارات النابية؛ لأني أعرف أن لكل كاتب نبوات قد يندم على فروطها. كما لا يقلل من سروري أن صاحب الجريدة - مع تفضله بإيصالها إلى منزلي - توهم أني لن أقرأ ذلك المقال، فكتب في الفهرس الذي على الغلاف ما يفيد أن المقال هو بحث في فوائد اقتراحي؛ إغراء لي بقراءته، كأنه في سهوه وتكليف نفسه مشقة الاحتيال يريد أن يعلمني ما أعلمه من أن الحيل الشرعية جائزة في عرف بعض المسلمين، وأنه لا مانع من أن يستعملها المسلم، وعلى الأخص متى كان صاحب صحيفة دينية تائها في حب الله، غارقا في بحر الحقيقة مع أهل الباطن من الأقطاب الموكلين بتدبير أمور الكون! أليس مثله يوحى إليه في غيبوبته أن من واجبه ديانة أن يحتال على الناس حتى يبلغهم أن الأخلاق الدينية شيء، وأنه وهو القطب الرباني المكلف بالتبليغ شيء آخر بعيد عنها بعد أهل النار من أهل الجنة؟ أوليس أنه يقذف في قلبه أن يقول للناس إن آية صدقه في هذه الرسالة واضحة للصغير والكبير، والأكمه والبصير، هي أن الأخلاق معنى والقطب الرسول مادة، وأنه شتان ما بين المعاني الذهنية وكتل الماديات المرئيات؟ ولا يقلل أيضا من سروري أنه يطعن في اقتراحي بكل ما وسعه، فيقول إنه سقط مستحيل التنفيذ؛ لأنه يضيع على الموجودين والمستقبلين الانتفاع بثقافة الماضين، ويزيد أعباء الطابعين، ويكلف من النفقات ما يخطئه عد العادين وحساب الحاسبين. ولا يقلل منه أنه يشيد بالرسم الحالي ويخلق من سخافته جلالا، بل يذهب إلى حد الدعوى بأنه سيتحقق فيه تنبؤ بعض المتكهنين من أنه سيكون خط كتابة كل العالمين، إلى ما يزعم وما يوهم به من هذا القبيل. بل ولا ينقص سروري أن تدينه نفخه فزين إليه أن يقول إني استلهمت بعض اقتراحي من فيض مكارمه النورانية، كأن للمغمور الذي يتجر بالدين فضلة علم أو أثارة فهم تسقط من بين أسنانه إلى أيدي اللاقطين. كل هذا لا يذهب بسروري من بلاغة المقال؛ لأني - من ناحية - فاهم أنه لو لم يطعن ولم يسهب ورسالته دينية، لأوهمته نفسه أو لتوهم قارئوه - إن كان له قارئ - أنه لم يؤدها على ما يرام. ولأني - من ناحية أخرى - رأيت أن له غرضا أساسيا يسعى إليه، هو تسويء كل القوانين الوضعية القائمة الآن في البلاد، والرجوع إلى ما بناه الفقهاء الأكرمون من صرح الشريعة الغراء. وهو غرض مهم في ذاته، ومن شأنه أن يدفع إلى الإشادة بما ترك الإمام الليث بن سعد وباقي السلف الصالح من الآثار، كما يدفع إلى النعي على كل حادث يتوهم منه المساس بتلك المخلفات.
وأؤكد أيضا للقطب الرباني طابع المقال أن ما كتبوه له فدونه من أن «مثلي في قصور الأسباب التي عللت بها بعض نقط اقتراحي كمثل الزنجي يخرج من مجاهل إفريقية فيبدي رأيه فيما لا علم له به من شئون المتحضرين.»
4
ثم ما دونه أيضا من أن «النتيجة النهائية للأخذ باقتراحي هي إضعاف الإسلام.» أؤكد للقطب أن كل هذا التورط في التجريح لا يمنع سروري بأسلوب مقاله الرشيق، بل إنه يزيد فيه بما يجعلني أبتسم لسهوه عن أن الوعول لا تئوب من نطح الصخرة إلا بكسر قرونها، وأن جرح العجماء - إن جرحت - جبار. ومن أجل هذا فإني أحلله من كل إثم يجول في خاطره أنه ارتكبه بوصف أنه قطب مسلم يحرر أو يطبع صحيفة تدفع عن دين الإسلام وأخلاق الإسلام، بل أستغفر له الله، بل أقول له استمر أنت ومن يكتب لك هنيئا مريئا غير داء مخامر.
ولكني مع تحليله من إثم ما قال وما قد يقول مما يتعلق بي، لا أملك التجاوز له عما تعدى فيه إلى غيري من كرام الناس تعديا كله صغار واستفال. من هم يا حضرة الطابع أولئك المشايعون الذين يعبثون بمحاضر الجلسات؟ وإلام ترمي بموازنتك بين المتقدمين من أعضاء المجمع وبين المتأخرين؟ وهل أتاك عن المتأخرين أنهم يغمطون فضل المتقدمين الأولين؟ وماذا يقذي بصرك ويرمده من رجال القانون ومن الأطباء والمهندسين؟ اربع على ظلعك، واشتغل ببضاعة أخرى في تجارتك بالدين. واعلم أن كل هذا من جانبك تورط من أشنع التورطات، وأن اسمه بالعربية الدس والفتنة والإيقاع. وهنا فقط أعلمك أن مقالك لا يستأهل إلا الإحراق. وما يهم أحدا أعربي هو أم أعجمي، فاحفظه في مخلاتك إن شئت وكله هنيئا أو غير هنيء، فقد زهدت فيه الناس، كله أنت وحدك، فإن خضراء الدمن لا تخطب، والعسل في محجمة الحجام يعاف.
على أن آثام هذا الطابع لا تصرفني عن واجبي، بل هي تحفزني إلى المضي قدما فيه، إني أريد أن أهمس في أذنه، أو بالأحرى في أذن من كتب له المقال، بملاحظتين بسيطتين خاصتين بالغرض الأساسي الذي يسعى إليه، وإن لم يلق باله إليهما كان عمله عبثا في عبث، وتجارته بالدين خسارا في خسار.
الأولى:
أن
لأن الله حي قيوم أبدي يستحيل عليه التغير. أما ما للإنسان فكالإنسان، يتغير ويتبدل ويحول ويزول بفعل الزمان والمكان والأحداث. وإذا كان أحد لا يستطيع في الإسلام أن يمس العقائد وفرائض العبادات، فإن الحاكم في الإسلام عليه - بهذا القيد - أن يسوس الناس عاملا على ما يحقق مصالحهم بحسب الزمان والمكان ومقتضيات الظروف والأحوال، مؤسسا عمله على الحق، حائطا له بسياج من العدل الذي بدونه لا تنتظم أمور العباد. فهل يرى حضرة الطابع أو الكاتب في القوانين الموجودة الآن، من مدنية وتجارية وجنائية ومالية وإدارية، ومن نظم للهيئات المكلفة بتطبيقها وللهيئات التشريعية العليا المختصة بسنها وإصدارها. هل يرى في تلك النظم والقوانين ما يخالف شيئا من عقائد المسلمين أو يعطل فرضا من فروض الدين؟ أولا ينظر ويسمع هو ومن لف لفه، إن كان لهم أعين يبصرون بها أو آذان يسمعون بها، أن في الدولة المصرية من تلك النظم هيئة اسمها وزارة الأوقاف قائمة بتعمير مساجد الله وإقامة شعائر الدين في بيوت الله؟ وهل يحسب أن فقهاءنا الأكرمين، لو كان الله مد في أجلهم إلى اليوم، كانوا يأخذون في سياستنا بغير الموجود الآن من القوانين التي تتطور بالاستمرار تبعا لأحوال الناس، بل وللظروف العالمية جمعاء، وهي في كل أدوار تطورها تحت ضمانة أهل الشورى والحل والعقد من نواب البلاد، ومن فوق نواب البلاد؟ إني أقرأ ضميرك من بعيد، إنك لا تستطيع الجواب؛ لأنك إن أجبت سلبا كذبت على السلف الصالح علنا. وإن وافقتني فوت على نفسك غرضك من إصدار صحيفتك فأجهزت عليها وقبرتها وضاعت عليك تجارتك بالدين. غاية ما يحملك الوهم على اللجوء إليه لتدعي لنفسك شبهة في مخالفتي، تلك المخبثة التي نبه إليها قبلك كثير من رجالنا المحترمين. أقصى ما عندك أن تشير إلى بعض المسائل الأخلاقية، وأن تقول إنها مخالفة لآداب الدين. أنا معك إن كنت أنت منها بريا. ولكن لبث قليلا! إن قسيسي النصارى لما خرجوا عن حدود دينهم الذي هو في أصله دين الله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لما خرجوا وبطشوا بالعباد وعذبوهم باسم الدين، وأحرقوا بعض العلماء باسم الدين، لا لجريرة سوى أنهم شغلوا عقولهم فاهتدوا إلى بعض قوانين الله وسننه في هذا الوجود، لما طغى القساوسة إلى هذا الحد، ضجت منهم شعوبهم، وما زالت تكافح حتى وصلت إلى الضرب على يدهم، واستصدرت دساتير تقررت فيها حرية الرأي وحرية العقيدة وغيرهما من الحريات؛ وذلك كيلا يكون للقساوسة ولا لغيرهم عليهم من سبيل. ولقد جاء الدستور المصري مقررا تلك المبادئ الديموقراطية السليمة فيما قرر من الأحكام. لبث قليلا لأعلمك أن الحكومة المصرية تعمل ما في وسعها للقضاء على كل ما يدور بخلدك من مسائل البغاء والميسر والخمور والإغراق في نزوات السفور، مما تعتده أنت مروجا لتجارتك، وتتمنى على الله في سرك أن يديمه حتى لا تنهار حيطان متجرك فيخرس لسانك. ولكن ما وسيلة الحكومة لاجتثاث تلك المنكرات، وعلى الأخص ما يرتكب منها في الخفاء مما يعلم الله من هم المرتكبوها أأنا أم أنت أم غيرنا من محترفي الدين وغير المحترفين؟ ما وسيلتها وفي البلد كثير من غير المسلمين من أجانب ومصريين؟ أنت تدرك العوائق كما أدركها، وفيها تلك الحريات التي قررها الدستور، ولكنك تريد تأدية رسالتك ولو بالقول العقيم.
لا معدى لك يا سيدي في كل ما همست به في أذنك الآن عن إحدى اثنتين: إما أن تطلب أنت وأضرابك إلغاء الدستور وما قرره من الحريات، وما وكله من أمور التشريع إلى نواب البلاد، الذين إذا كانوا عارفين بأحوالها وما يلزم لها من القوانين، فإن أغلبهم لم يدرسوا الشريعة الإسلامية لا كالسلف ولا كالخلف من الفقهاء، بل فيهم كثير ممن لا يدينون بالإسلام. إما أن تطلب هذا فأقوم في وجهك أنا وغيري من المصريين المسلمين وغير المسلمين، وإما أن تسكت وتقول ليس في الإمكان خير من الكائن الآن. وأنصحك بأن هذا هو الأجدر بك وبأمثالك في هذا القرن العشرين.
نسيت أن في نفسك تكأة لك أخرى غير تلك المنكرات؛ مسألة التعامل بالفوائد. ولكني أرى صوتك فيها خافتا، إما لأنك تتعامل بها فعلا وأنك إذا استعطيت فمعطيك مسلم تقي ورعه من دن ورعك، لا يعطيك إلا سرا. ثم هو يشفق دائما عليك؛ لأنكما أخوان في الدين، فلا يزيد عن خمس عشرة لكل مائة مما يناولك من القروض، وكلاكما من آخذ ومعط يتقي غضب الله بما يتقن من طرق الاحتيال عليه. إما لهذا خفوت صوتك، وإما لأنك - وأنت سيد الفهماء - قد أدركت أن للمعاملات العالمية تيارا يموج بهذه المسألة وأضرابها، وأنك إن لم تقصر ما تراه حكم الإسلام فيها على خاصة نفسك - إن شئت أن تتوب وأن تكون من المتحرجين - فإن أحدا لن يستمع إليك. ولو أن مصر لم تعمل بقاعدة «الضرورات تبيح المحظورات» بل طاشت فأخذت بما قد تأتي به أنت ومن يكتب لك من هذا القبيل، لقاطعها العالم، ولما استطاعت الاقتراض لشراء محاصيل أهاليها ولتحويل ديون الأجانب التي عليها، ولأغلقت البنوك أبوابها، ولانحطت الزراعة ووقفت الصناعة وتعطلت التجارة، وانهدمت مصلحة الجمارك على رأس من فيها من الموظفين، وكنت أنت ومصر معا من الهالكين. ولعلك تحفظ قوله تعالى:
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ،
بمصر وحكومة مصر وبرلمان مصر، وأن تنعق بهذا المحال لمجرد الإيهام بأنك تخدم الدين.
الثانية:
حط من غلوائك،
العلوم والفنون فحسب، بل كذلك في أمور التشريعات والقوانين. وإن ثقل عليك قولي، فسل رجال كلية الحقوق وكلية التجارة، وأقلام قضايا الحكومة التي تجهز مشروعات القوانين، وسل كل من بالمحاكم الأهلية والمختلطة من القضاة المصريين، ومن يشتغل لديها من المحامين المصريين. سلهم يأتوك جميعا بالخبر اليقين. ومن أجل هذا، مضافا إليه طريقتك العوجاء في خدمة الدين، يؤسفني أني - حتى لو كنت قويا في صحتي - لن أجيب رغبتك في الرجوع لسلفنا الصالح في أمر القوانين.
إنك يا سيدي كما وقفت على أبواب المجمع اللغوي لاستراق السمع، لا بد أنك إذ أقصاك أهل العلم عن محلتهم قد وقفت لهم أيضا على الأبواب ومن وراء الحجرات فالتقطت ذات مرة قولهم: «إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.» وإذا كنت - على ما أظن - لم تتصل، أنت ولا من يكتب لك، بقوانين الأوروبيين، ولم تدرس شيئا من قوانين الأوروبيين، فهل ترى لنفسك حقا في الموازنة بين عمل سلفنا الصالح وعمل الأوروبيين؟ لو سمحت لي بأن أدلك على الحق الواقع لما أحجمت عن إفادتك، بل سماحك ليس في العير عندي ولا في النفير. اعلم معلما، أن العقول التي كشفت لك عن عجائب الكهرباء، وفجرت لجارك ينابيع النور في كل زاوية من أركان بيته العامر، وأغنته عن المسارج والقناديل وهم المسارج والقناديل، وهيأت للناس التلغراف السلكي واللاسلكي، وكشفت لك عن خواص الراديو فجعلت سمعك الضعيف يدرك ما يحدث بأقصى بقعة في الكرة الأرضية من الأصوات، كما كشفت لك عن معجزات الطيران الذي طبق عليك وعلي وعلى جميع الناس أرجاء السماء؛ هذه العقول الجبارة لها أخ من أبويها يشتغل إلى جانبها بمسائل القانون، ويسمو في بيئته إلى ما يسمو إليه إخوته الآخرون، ولكنك لا تراه؛ لأن نظرك قصير، وكلما حاول أن يشخص ليراه ردعته عن التطفل على الناس وعن الاشتغال بما لا يعنيه؛ لأنك متدين غيبوبي، باطني، إذا خرجت من قشرتك وتجسست في غير حيك كشفت عن عجزك وسقطت إلى الحضيض. أرجو أن تحفظ هذا الدرس الذي لن تجد غيري من الصرحاء يقدمه لك مجانا لوجه الله. أرجو أن تحفظه وأن تقول لنفسك: كفي عن التهويل.
ثم لتعلم يا سيدي أن ما أقول لك لا يمس أدنى مساس بقدر سلفنا الصالحين. إني أعرف لهم فضلهم العظيم أكثر مما تعرف أنت وأضرابك، وأعرف أن العقل الإنساني لم يرق في أية بيئة إلا على سنة التدرج، وباستفادة اللاحقين من عمل السابقين.
ارجع إلى عمل الصالحين السابقين يفدك في العبادات والمعتقدات؛ لأنها لا تتغير بمر السنين. أما أحوال الاجتماع وسياسة الاجتماع وقوانين الاجتماع، فاتركنا أنت وغيرك نساير فيها أمم الأرض، ما دام قوامنا فيها - على كره منك - يحترمون الدين ولا يخلون بشيء من أمور الدين.
أنا وأنت مقتنعان بأن عملك وعمل كثير من أضرابك دنيوي واه لا شأن له بالدين؛ لأني أفهم الدين، ولأنك أنت ترى بعيني رأسك أن جهات التشريع عندنا تشتغل في دائرة غير دائرة الدين.
لا تبتئس من الحق المر! وإذا هاجك الحق فأصررت على الادعاء بأن لعملك قيمة أخرى غير الارتزاق من تجارة الدين، واستمررت تزعم أن فيه خدمة للدين، وأن لك به قصرا في الجنة بجوار الصالحين، فابتئس ما شئت، وخادع أنت والكاتب لك ما مد الله لكما في الغي، وحسابي وحسابكما سنلاقيه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ... ويومئذ سأسمعكما مصطرخين ترددان:
ربنا أخرجنا نعمل
فأعرف أي المخلوقات أنتما. وعليك وعلى هذا الكاتب لك السلام، إن اتبعتما الهدى وسلكتما سبيل المؤمنين.
السادس عشر:
يقولون: إن رسم
إعمال الفكر في استبانة الوجه الصحيح من أوجه أدائه. وفي إعمال الفكر ما يشحذ القريحة ويدربها على حل المشكلات.
أرأيت غفلة أشد من هذه؟
إن اللغة وسيلة للتفاهم بين الناس، والتفاهم وسيلة لإدارك المعلومات، وإدراك المعلومات وسيلة لتكييف سلوك المرء في الحياة أو للسير في طريق كشف المجهول من حقائق هذا الوجود، وكشف هذه الحقائق وسيلة لتسخيرها لمصلحة الإنسان. إذا علمت هذا أدركت أن اللغة أولى درجات سلم الوسائل والغايات، وأنها دون ما فوقها وسيلة بحتة لا يقصدها عاقل لذاتها. ولو أنك تعلمت العربية أو الصينية وحبستها في مخك لا تخاطب بها أحدا ولا يخاطبك بها أحد، ولا تكتب بها لأحد ولا يكتب لك بها أحد، لكنت في تعلمها عابثا مسرفا على نفسك بل مختل الشعور. إذا فهمت هذا أيضا فاعلم أن للغة خادمين رابضين تحت رجلي السلم بدون مسعاتهما لا يظهر لها أثر في الوجود، هما اللسان ورسم الكتابة، فإذا انعقد اللسان كان أخرس، وإذا تعقدت الكتابة كانت كمثله خرساء. وخرس اللسان طبيعي أو مرضي، وخرس الرسم صناعي جهلي. فاعتراض حضرتك الذي وقفتك الآن على ما في مطاويه معناه أن مخاطبة الخرس من أجل وسائل التربية والتثقيف، وإضاعة العمر فيها تشحذ القرائح وتمرن على حل المشكلات! أنت يا سيدي في السنة الأولى من الإلزامي، وستستمر راسبا فيها حتى تموت، على حين غيرك جاز المراحل وأصبح أستاذا في كلية العلوم، فاستر وجهك، وصن لسانك عن مثل هذا الهراء.
السابع عشر:
قلت في بيان اقتراحي
أسباب تأخر الشرقيين.» فهب المتحمسون صائحين: كيف تقوله والحال أن تأخر الشرقيين له أسباب أخرى ليس منها صعوبات العربية ومشقاتها؟ كيف تقوله واللغة تابعة لقوة أهلها تزدهر إبان قوتهم وتضعف إبان اضمحلالهم؟ كانت العربية مزدهرة في صدر الإسلام ثم انحطت حين اضمحلت بلاد العربية بما انتابها من الأحداث وبانحراف أهلها من مقررات الدين.
هذا اعتراض «دون كيشوت
Don Quichotte » يضرب بسيفه الخشبي في أطباق الهواء ليمزق الهواء. إني أتكلم عن حال العربية الآن، بعد نيف وألف سنة من صدر الإسلام، وهم يتحدونني بصدر الإسلام! إني أتكلم عن حالها في عصر الناس الحاضر وما تغلغل في بلاد العربية من الأجانب ومن لغات الأجانب، وما قام في مصر وفلسطين ولبنان والشام والعراق وتونس والجزائر وطنجة ومراكش وباقي بلاد العربية من معاهد تنشر فيها الفرنسية والإنجليزية وغيرهما من لغات أمم الحضارة السهلة المأخذ، البعيد رسمها عن التعقد والارتباك. إني أنظر إلى الطبيب والصيدلي والكيمائي وخريج كلية العلوم الذي لا يستطيع أن يتقن الفصحى، وعربيته هو لا تؤاتيه في تعليم الناس ما يجول بخاطره من الأفكار، فيميت فكرته ويحرم منها مواطنيه، وإن نشرها فبلغة أجنبية لا يفهمها سواد المواطنين. وإذا كانت جماهير الأمم إنما تتقدم الآن أو تتأخر بمقدار ما ينشر فيهم وما يفهمونه من مسائل العلوم، فلا شك أن مشقات العربية من أسباب تأخر الشرقيين، بل إني إزاء هذا الاعتراض التهريجي لا أحجم عن القول بأنها أهم أسباب تأخر الشرقيين. تتناحر ألمانيا والروسيا وإنجلترا وأمريكا لتنفذ في العالم إرادة أيتها تستقل بالغلبة، وكل واحدة منها تعتمد في قوتها على العلم دون سواه. وسفير العلم اللغة منطوقة أو مكتوبة، وليس له سواها من سفير، فإذا تعقدت وارتبكت اضمحل العلم في أهلها فاضمحلوا وتأخروا بلا نزاع.
على أني قد أمسك عن مناقشة هؤلاء المتحمسين، فلا أقول لهم إن ازدهار العربية في صدر الإسلام إنما كان لقرب أبنائها من آبائهم الأولين.
5
ولا أقول لهم إن المجمع اللغوي أمامه كثير من الاصطلاحات العلمية يحاول ترجمتها إلى العربية فلا يستطيع؛ لأن مدلولاتها حديثة الوجود، غريبة عن العرب قبل الإسلام وبعد الإسلام، فيضطر إلى تعريبها بلفظها الأجنبي وإخراجها في ثوب من الرسم العربي، فتجيء متنكرة المعالم لا يفهم أصلها ولا فصلها أحد من سواد الجماهير. ولا أقول لهم كفوا عن الاحتجاج بمقررات الدين؛ فإن حالنا اليوم في الدين خير من حال أغلبية من أتى بعد الخلفاء الراشدين من المسلمين الأولين . قد أمسك عن مثل هذا، وآخذ قولهم قضية مسلمة، ثم أسألهم: متى يا ترى تفيء القوة من غيبتها وتتبوأ بلاد العربية حتى يرجع إلى العربية ما كان لها في الصدر الأول من الازدهار؟ أنبئوني عما قرأتموه في النجوم عن هذا الموعد المرقوب. ألعل لكم من الخليج الفارسي إلى مراكش، ومن حضرموت إلى حلب، جيوشا جرارة، ومدافع هدارة، ومراكب بر سيارة، وسفنا مخارة، تقرب لكم يوم القوة ويوم ازدهار اللغة الموعود، ولكنكم تخبئونها تحت جناح القدر، فلا أرى لها أثرا، ولا أحس لها ركزا، ولا أسمع عنها خبرا من الأخبار؟!
واجهوا الحقائق، سهلوا صعاب الفصحى فإنه ليس لنا عنها محيص، سهلوا قبل كل شيء رسم كتابتها المعقد السخيف، حرروها منه، تفهمكم وتفهموها، ووفروا وقتكم لتفتيش مخابئها؛ فلعل فيها ما قد ينفعكم في الحال والمآل. واحتفظوا بقرائحكم تشحذوها في علم نافع وغرض مفيد. واعلموا أن الغيب لله إن شاء استجاب لنا فرفعنا مما نحن فيه، وإن شاء لم يستجب. فاعملوا ليومكم الذي أنتم فيه كما يعمل العقلاء. ادخروا منه لغدكم، فإن قواكم الله - كما هو رجاؤنا - كنتم على استعداد للاستمتاع بقوتكم، وإن كانت الأخرى - لا قدر الله - رحتم مؤدين واجبكم كراما مأجورين. لا تتحككوا كذبا ورياء بمقررات الدين؛ فوقت هذا قد فات. ولا تتطوحوا في الحماسيات الصبيانية باسم الآباء؛ فزمنها قد مات، وشر البرية من تمحك باطلا بالدين، وأكل خبزه خداعا باسم الدين، وأعجز الناس من استنام على ذكرى الآباء ومجادة الأجداد.
الثامن عشر:
يقولون ما حاصله: عد عما
العربية اليوم في دور النهوض، وأن العامية تقترب من الفصحى؛ وذلك بفضل الجرائد ومؤلفات الأدباء، وبفضل الخطباء في المجامع وفي المذياع، وفضل المحامين في دور القضاء، وأنه لن يمضي إلا قليل حتى تزول الأمية ويصبح الناس جميعا يقرءون ويفهمون الكتب والجرائد والمجلات، وحتى لا يكون بين العامية والفصحى إلا قاب قوسين أو أدنى.
هذا الاعتراض خارج أيضا عن الموضوع، ومن الأسف أن أراني مضطرا للتكرير . الموضوع الذي نحن بصدده هو تيسير رسم الكتابة العربية «بحيث يؤدي كل حرف من كل كلمة صورته الصوتية أداء صادقا واقيا من الغلط واللحن الشنيع وغير الشنيع.» فهل زوال الأمية وفهم الكتب والجرائد واقتراب العامية من الفصحى يؤدي هذا المقصود؟ ألم أقل لك إن خريجي الجامعة ومن فوقهم لا يستطيع الواحد منهم أن يقرأ صحيفة من كتاب أو نهرا من جريدة دون أن يخطئ في العربية خطأ فاحشا. وإن رسم الكتابة العربية أصبح - كما قال الجارم بك - لغزا من الألغاز. وهل زوال الأمية وما عطف عليه، فيه قوة سحرية تفك هذا اللغز وتضع على الحروف ما تستحقه من الحركات؟ دعنا إذن من هذا الاعتراض المفارق للموضوع.
التاسع عشر:
يقولون: إذا فرضنا أن ما تنشره
يستطيع ناشروه إخراجه وفق أصول العربية وقواعدها، فما الرأي في الكتابة بالوزارات والمصالح والمحاكم وبمحاضر الجلسات؟ إن ضبطها يستلزم أن يكون محرروها من الموظفين ملمين بتلك القواعد والأصول، وأن يرجعوا إلى المعاجم كلما أشكل عليهم وزن اسم أو وزن فعل من الأفعال، وإلا فإن كتابتهم بالأحرف اللاتينية التي تضبط النطق ولا تحتمل إلا وجها واحدا من الأداء، تخرج كلها خاطئة في العربية مضللة للقارئين. ثم يقولون إن الأولى إذن الاحتفاظ بالرسم الحالي الذي يحتمل الصحيح من الأداء وغير الصحيح؛ تخفيفا على هؤلاء الموظفين.
اعلم يا حضرة المعترض: أولا: أن كتاب الوزارات والمصالح هم الآن ممن قطعوا مراحل التعليم إلى التوجيهي أو إلى الثقافة على الأقل. وكثير من رؤسائهم هم فوقهم في المؤهلات، فغالبا ما تكون الفصحى سهلة عليهم لا يحتاجون فيها لمراجعات. على أنك تعلم أن الكتاب لا يخرج من وزارة أو مصلحة إلا بعد تسويد وتبييض وتدخين لفافة من التبغ وتناول قدح من القهوة، وتقديم واجبات المجاملة أو المداورة أو التجبيه للزائرين، مما يؤذي العمل وقد يؤذيك. فإذا فرض أن الرئيس أو المرءوس كان غير عارف وزن كلمة من الكلمات، فأي تعطيل يضيرك أو يضيره في تعرف وزنها من المعجم ، وهو إن عرفه مرة أغناه إلى آخر الحياة؟ أوليس صرفه دقيقتين في هذا الأمر المفيد أجدى عليه وعليك وعلى العمل من صرفه معظم الوقت في تلك الملهيات والمعوقات؟ ثانيا: إن أقصى ما تلاحظه على كتاب المحاكم أنهم يكتبون محاضرهم بفصحى مشوشة أو بالعامية. ومن الذي قال لك إن واجب كاتب الجلسة أن يصحح ما يسمعه من المرافعات، وأن يفسد عامية المحامي أو الخصم أو الشاهد بردها إلى الفصحى؟ ليستمر كتاب الجلسات وكتاب محاضر البوليس على تدوين ما يسمعون من الفصيحة أو نصف الفصيحة أو العامية الصرفة بلا أدنى تعديل، فإن هذا واجبهم لما فيه من ضبط للمعاني التي أرادها المحامون والخصوم والشهود، والتعديل في ألفاظ هؤلاء غالبا ما يكون إفسادا وتشويشا للمعاني التي يقصدون. ها أنت ذا قد رأيت أن كل تلك الأوراق التي تشير إليها لا يضيق بها كاتبوها ولا يرجعون لمعاجم ولا لاستفتاءات. ثم لتعلم أن جميعها أوراق خاصة لا يقرؤها إلا ذوو الشأن فيها، ولا يطبع منها شيء ولا ينشر في الناس. وإذن فسواء أكانت عباراتها عربية فصيحة أم كانت عامية بحتة، فإن أحدا لا يتعلم منها شيئا ولا يضره من أخطائها العربية شيء. فاعتراضك يا سيدي ضرب في غير مضرب، ونفخ في غير نار.
العشرون:
أخبرني يوما أحد محرري «المصور»
قائلين: «بمخالفته لدين الإسلام.» وسألني رأيي فقلت له: «إني لا أعير مثل هذا الهراء أدنى التفات، فإنه أهون علي من الغبار الذي يصيب ردائي أو حذائي، فما بالك أنت تهتم به؟» ألح المحرر كيما أبين له وجه عدم اكتراثي لمثل هذه الأباطيل، ولكونه إنسانا أديبا ظريفا فقد بينته له في شيء من التفصيل، ووصفت له هؤلاء الفارغين بما يستحقون.
علمت من بعد أن فلانا ابن فلان نشر في بعض المجلات المحترمة اعتراضا على اقتراحي. ولكون الأب كان في بيئته من الرجال المعدودين، فقد استحضرت المجلة واطلعت على الاعتراض، فرأيت الكاتب عمد إلى تلك العبارة من حديثي فرواها وحدها، ثم بنى عليها من التجريح ما شاء، وأهون التجريح أنه يقول لي ما حاصله: «إنا عرفناك قاضيا تسمع كل قول تقصيا للحق وتثبيتا للعدل، فماذا أصابك؟ وما هذه الكبرياء وذلك العجب الذي جعلك اليوم لا تستمع لمن يوجه إليك الكلام؟»
هذا المعترض أحس أن المقام الذي أفضيت فيه بتلك العبارة هو مما يجب على كل مسلم يحترم نفسه ويحترم دينه أن يظهر فيه أقصى ما يمكن من الكبرياء. أحس فهرب من توضيح المقام، كما أغمض بصره عما بينته للمحرر في صلب الحديث من تعليل موقفي إزاء الجاهلين. وكل ما أورده هو قوله إن تلك العبارة نشرت «بالمصور» في حديث لي خاص «بالإسلام والحروف العربية» ولم يزد. إنه اختزل عمدا للتبهيم وليستحل أمام الناس الإسهاب في التجريح؛ لأنه لو اصطنع الأمانة في النقل وذكر موضوع سؤال المحرر على حقيقته، كما هو مذكور أمام حدقتيه في ديباجة الحديث لاستحيا من نفسه؛ لأنه رجل مسلم، ولو أنه لم يكنه بل كان نصرانيا أو يهوديا أو مجوسيا لما أطاق أن يطعن عليه أحد في دينه، ولكان أقل جزاء عنده للطاعنين الأخذ بالتلابيب، فإذا تضاءل هذا الجزء، ونزل إلى مجرد تشبيه وقع الطعن بوقع الغبار على الحذاء، فهذا أقصى درجات التسامح في الاثئار، وهذا التسامح كان هو الأحرى بأن يعاب. على أن حضرة المعترض إذا كان لم يستح من نفسه فهلا استحى من طيف أبيه أو من عقلاء المسلمين الذين يرون من الواجب على المسلم أن يكون كبير النفس مترفعا عن خطاب كل جاهل يزعم أن في تغيير حروف الكتابة على أية صورة مسا بالدين؟ إذ حتى بقطع النظر عما بينته في صلب الحديث، فإن المعترض - وكل مسلم - يعلم علما ضروريا أن رسم الكتابة لو كان له أية علاقة بالدين لكان النبي أول الكاتبين القارئين، ولما وصفه الله بالأمي في القرآن الكريم، ولما لبث هو في مكة سنين عدة بعد الرسالة يتحدى المشركين بقوله تعالى:
وما كنت تتلو من قبله من كتاب
.
تلك شردة من المعترض الذي يلوح لي أنه ككثير من الشباب يشتهي تجريح من هو أكبر منه سنا، حاسبا أن ذاتيته تعلو بهذا التجريح. وقد وجد الباب للتجريح مفتوحا على مصراعيه فولج، وليس له ولشردته عندي إلا تلقيهما بتلك الكبرياء وذلك الترفع والعجب اللذين إليهما أشار. لكني أطمئنه أنها ليست كبرياء حقد، بل كبرياء رثاء، فزمن جواز الاضطغان ولى ولم يبق في الأجل غير ذماء، خير ما ينفق فيه التبسم لما في الناس من شذات وشردات وشطات.
ترك المعترض هذه الناحية وتكلم في الموضوع ولكن: (1)
ليس صحيحا
عبارة حضرته، بل الصحيح أن تلك الحروف خمسة عشر لم أستبق منها إلا خمسة فقط لا نظير لنغماتها في الحروف اللاتينية، وهي «ج، خ، ض، ظ، غ»، والإفرنج يؤدون نغماتها بتراكيب كل منها مكون من حرفين (
dj, ch, dh, dz, gh ) فكنت مترددا بين أمرين: اتخاذ تلك التراكيب مع ما فيها من ضرر مضاعفة الحروف وضرر عدم أداء النغمات العربية بالدقة، أو استبقاء تلك الحروف العربية التي تؤدى نغماتها بكل دقة ولا ضرر فيها سوى كونها منقوطة كل بنقطة واحدة فقط لا بثلاث ولا باثنتين. رجحت فوجدت استبقاء الحروف العربية حرصا على الاختصار ودقة أداء النغمات. (2)
يقول حضرة المعترض ما حاصله: أننا لو عمدنا إلى مادة عربية كفعل ثلاثي مجرد وأردنا تصريفه هو ومزيداته في صور التصريف المختلفة من ماض ومضارع وأمر، واستخرجنا مشتقاته المتعددة وألحقنا به وبمشتقاته في الصور المختلفة ما يضاف إلى الزوائد والضمائر بحسب ضروب الاستعمالات، أو لو عمدنا إلى اسم من الأسماء وقلبناه في أحواله المتعددة من إفراد وتثنية وجمع وإضافة لبعض الضمائر، وأعطيناه في صوره المختلفة ما يستحقه من حركات الإعراب أو ما ينوب منابها، يقول إذا عمدنا إلى ذلك، ثم رسمنا الكلمات بالحروف اللاتينية لتنكرت مادة الفعل ومادة الاسم، ولما عرف لأيتهما أصل. وإنه هو جرب هذا فعلا فاستغلقت عليه أصول الكلمات، بخلاف رسمها العربي؛ فإنه يكشف دائما عن هذا الأصل فلا يضل عن معرفته أحد، ويقول إن هذا ضرر جسيم لا توازنه تلك المنفعة الضئيلة التي قد تستفاد من صحة الأداء بسبب حروف الحركات، وإن الشكل عندنا حاضر لم يفلس، كما هو مزعوم، وإنه يؤدي لنا ما تؤديه حروف الحركات.
كنت أنتظر أن يقول حضرة المعترض إن الحروف اللاتينية، وفيها حروف الحركات، تزيد في رسم الكلمة فتضاعفه، فأقول له هذا حق صحيح، ولكن أحق منه وأصح أن «الشكل» الذي أفلس فعلا بإجماع العارفين المؤيد رأيهم بالواقع المحسوس؛ هذا «الشكل» يضاعف أيضا عملية الرسم العربي ويشوشها، ويوقع فيها الارتباك. كنت أنتظر هذا فأجيبه بما أقول الآن. ولكن الذي ما كنت أنتظره ولا أستطيع أن أفهمه مطلقا ما يدعيه من أن الحروف اللاتينية تعمي أصل الكلمة وتجعله مستغلقا. إن الأمر على عكس ما يقول؛ فإن الكلمة لن يكون فيها شيء زائد على أصل مادتها وما تتصرف إليه أو يلحق بها سوى حروف الحركات الثلاثة، وهي ظاهرة متميزة برسمها الخاص، لا تشتبه بحروف أصل المادة ولا بحروف صيغها التي تتقلب فيها؛ لأنها عبارة عن «الشكل» مدرجا بطريقة منتظمة مأمونة في تجاويف هيكل الكلمات، فمتى أسقطتها من الحساب
6
كانت كل الحروف الباقية في المجردات والمزيدات والمشتقات - على اختلاف صورها - هي نفس الحروف العربية مرسومة بشكل آخر، بلا زيادة في عددها ولا نقصان، ولا تغيير في نغماتها ولا تبديل. وهذا أمر بديهي واضح لا يليق أن يكون موضع جدال؛ لأن الواحد والواحد لا يكونان ثلاثة بحال.
أضف إلى هذا أن الحروف الباقية هي - كمثل حروف الحركات - لا يمكن مطلقا في الرسم اللاتيني أن تضلل القارئ في المطبوعات، ويبعد أن تضلله في غير الرديء جدا من المخطوطات؛ وذلك لأنها - في كل ما عدا هذا الرديء - تلازم هيكلا واحدا لا يتغير، بخلاف الحروف العربية، فإن هياكلها تتغير في جميع المطبوعات والمخطوطات؛ إذ هي في جميعها تكون على عدة أشكال بحسب مواضعها في الكلمات. ففكرة الضلال عن معرفة أصل الكلمة موردها الرسم السرطاني العربي، وفيما عدا ما ذكرت لا ترد على الرسم اللاتيني، وعلى الأخص المطبوع منه، بحال.
وفوق هذا فإني أشرت في اقتراحي إلى وجوب كتابة الأسماء والضمائر والأفعال والحروف منفصلا بعضها عن بعض بقدر الإمكان. وبهذه المثابة متى تخلصت الكلمات من التصاق جملة منها في هيكل واحد، كان ذلك أنفى لفكرة الضلال في معرفة أصولها.
إذن فالاعتراض من هذه الناحية أيضا واه، وأساس وهيه تحكم العادة على ما هو ظاهر. وكل نظر أمه العادة فهو أبدا خداع.
من أعجب ما يكون أن حضرة المعترض يغمض عن أن حروف الحركات اللاتينية لا شأن لها بباقي الحروف في الكلمة من أصل وزوائد صرفية، وعن أن الشكل أفلس إفلاسا ذريعا صرخ منه المختصون وهم أساتذة العربية بالمدارس، وأولهم الجارم بك الذي كان من كبار مفتشي العربية بالمدارس ثم وكيلا لدار العلوم، ويغمض عن أن سوء رسم العربية صرخ منه وزيران للمعارف كاتبان أديبان؛ هما بهي الدين بركات باشا ومحمد حسين هيكل باشا، وعن أنه تقرر رسميا في لائحة المجمع اللغوي أن من مهمته النظر في أمر تيسير الكتابة العربية؛ بحيث يستطيع الناس قراءتها بلا لحن ولا غلط، وعن أن هذا التقرير لم يكن ليقع لو أن «الشكل» أدى وظيفته ولم يفلس، يغمض عن كل هذا ويقصر تشبثه على أمر كان غيره من رجال العربية أخلق منه بالاقتصار عليه. إنه يقول ما حاصله:
العيب لا يرجع إلى رسم الكتابة، بل إلى جهل القارئ بأصول العربية وقواعدها، ولو أنه كان عارفا بهذه الأصول والقواعد لما أخطأ في قراءة الرسم العربي بل لأداه أداء صحيحا.
حضرته بهذا الاعتراض - الذي سبقه به غيره - يذكرنا بما كنا نسمعه من أن أعرابيا من الأقحاح في الزمن الأول أراد مسلم تلقينه سورة تبت يدا أبي لهب وتب فلما قال الملقن: تبت يدا مقطعا الجملة حتى يسهل على الأعرابي تلقنها، أبى الأعرابي إلا أن يقول: «تبت يدان.» فلما وصل الملقن المضاف بالمضاف إليه تابعه الأعرابي قائلا: نعم هكذا يكون الكلام.
حضرة المعترض لم يبلغه أن بيننا وبين أمثال ذلك الأعرابي أكثر من ألف سنة. ولم يبلغه أن الحال تغير لدرجة اضطرت وزارة المعارف وكل رجال التعليم ومنشئ المجمع اللغوي إلى أن يجعلوا من أهم أغراضهم تيسير رسم الكتابة العربية. ليت أهلنا جميعا كانوا كذلك الأعرابي! أو ليت في الاستطاعة تعليمهم أصول العربية وقواعدها حتى يبلغوا درجته، أو على الأقل درجة حضرة المعترض! نذر علي يا سيدي أني في ذلك اليوم أقدم شمعة للسيد البدوي، ومثلها للست الباتعة، وأخرى لسيدنا الحسين! ولكن يظهر أني لن أغرم شيئا لهؤلاء الأولياء؛ فإنهم - رضي الله عنهم وعنك - لا يملكون لي في هذا السبيل نفعا ولا ضرا، ولا تقديما ولا تأخيرا. أنت يا سيدي تحلم، الموضوع الجاري فيه الكلام هذه الأيام، هو موضوع تيسير رسم الكتابة العربية، لا تيسير أصول اللغة وقواعدها، فكل كلامك الذي أجهدت نفسك فيه، وتوهمت أنه مفيد، هو خارج عن الموضوع وذاهبة به الريح.
في غضون الاعتراض شردات ثانوية من لواحق ما لخصته لك قبل ورددت عليه، وإني أسامح حضرة المعترض في تجاوزه الحد فيها، وأرجو له من الله الغفران والتوفيق.
الحادي والعشرون:
أهم ما شغل مؤتمر المجمع
العربي، ولقد تزاحم لديه مذاهب ثلاثة تستبق جميعا لهذه الغاية. أحدها يرى أربابه، وهم كثيرون، سد هذا النقص الطبيعي برداء من جلد القنفد الشائك أو من سلخ الأخطبوط، يلصق بالغراء على بشرة المريض فتبرأ علته بإذن الله. والعقل والحس يقضيان بألا شيء من جلود القنافد ولا سلوخ الأخطبوطات بناجع؛ لأن المرض راجع إلى أصل الخلقة الحسية، فكل لزقة تتصل بها لا تكون إلا من قبيل زيادة التشويه ومعالجة الداء بشر من الداء. والثاني يرى أن العلاج حاضر وهو «الشكل» المعروف الآن، ويقول أربابه إن هذا الشكل إذا كان مشوشا للكلمات عند استيفائه على كل الحروف، فإن القليل منه، الضروري لإزالة اللبس، كاف لشفاء العليل. والثالث مذهب هائج ثائر يغير الخلقة ذاتها، ويتخذ للرسم مثلا أجنبيا بعيدا عن المثال العربي بعدا تاما؛ وذلك في صورة اليأس المطلق من العثور على علاج له من جنسه.
امتعض الناس من المذهب الأول، وسكنوا شيئا من السكون للمذهب الثاني، وثاروا على المذهب الثالث. أما المؤتمر فقد ارفض بدون أن يبت برأي في الموضوع، وفي غضون ذلك حدث ما أوجب اضطراب المتسابقين في الميدان فاختلط الحابل بالنابل.
وعقب ارفضاض المؤتمر تفضلت كلية الآداب بجامعة فؤاد فاحتفلت بأعضائه غير المصريين تقديرا لمساعيهم في خدمة العربية. وبعد الاحتفال بزمن وجيز علمت أن أحد حضرات الأساتذة بالكلية سيلقي محاضرة في الخط العربي وعيوبه ومزاياه. فشاقني الاستماع إليه؛ إيقانا بأن الكلية وأساتذتها خير من يشخصون الداء ويصفون الدواء. وإذ أقعدتني رقة الصحة عن الاستماع للمحاضرة فلقد ألححت على إدارة المجمع في الحصول على صورة منها فلم تظفر، وقيل إنها ستنشر في مجلة الثقافة، فاستبشرت وقلت في نفسي كأن المحاضر لا يريد إخراجها للناس بعبلها وغبارها، بل يريد أن يكمل منها الناقص ويصلح المائل. وإنها ستخرج تحفة من تحف الفن، وآية من آيات التشخيص والعلاج، تحق الحق وتبطل الباطل، وتكون فيصلا يقطع قول كل لدود.
انتظرت بفارغ الصبر إتمام نشر تلك المحاضرة التي استغرق نشرها شهرا كاملا. بيد أني كلما قرأت جزءا قلت لعل فيما بعده ما يغني ويقني. فلما تمت الأجزاء نشرا أردت تحصيل ما فيها فصفرت يدي؛ إذ كل الذي وجدته كلام طويل عريض متصيد من هنا ومن هناك، على غرار ما أقوله أنا وغيري من الاختصاصيين، بل كأني خرجت من التلاوة وفي ذهني أنها تقوم على أساسين راجع كلاهما إلى التقديرات الشخصية التي مبعثها شغف المرء بنفسه وبصناعته وبعادته، وعلى الأخص حبه الإخلاد إلى الراحة ونيل حسن الأحدوثة بمتابعة ميول الجماهير؛ إذ النقط الأساسية ينحرف التعبير فيها يمنة ويسرة بلا مقتض ظاهر سوى ما يحسه القارئ من تلك الدوافع الشخصية. وإليك البيان:
الأجزاء الثلاثة الأولى خاصة:
أولا:
ببيان ما قام منذ القدم من الضرورات الماسة لوضع رسم خارجي لما يقوم بالخواطر من المعاني المختلفة، ثم لتقييد ألفاظ اللغات . آمنا وصدقنا، لا لأن الجاحظ أو غير الجاحظ قاله، بل لأن هذه ضرورة ماسة واقعة يدركها كل إنسان، سواء أرادها الجاحظ وغيره أو لم يريدوها، لاحظوها فدونوها أم لم يلاحظوها ولم يدونوها. وليس هؤلاء المفكرون إلا مجرد مسجلين للواقع المقضي بالضرورة. وهذا التسجيل أستطيعه أنا وأنت وكل عالم متمكن وكل ناقص التعليم. غاية الأمر أن الجاحظ وقليلا غيره من رجال العربية كانوا أدق منا ملاحظة، وأشمل إحصاء، وأكمل استقصاء، وأنور فكرا، وأسلس قلما.
ثانيا:
بتقرير أن الرسم العربي أصله نبطي، وهو تقرير يستطيعه كل إنسان يعرف أية لغة أجنبية فيطلع على معجم من معاجمها المطولة أو على موسوعة من موسوعاتها، ويستطيعه أي قارئ للعربية فقط إذا اطلع على رسالة «أصل الخط العربي» للأستاذ خليل يحيى نامق، من علماء الكلية؛ فقد أورد فيها أن الخط العربي من وضع النبطيين، وبين من هم أولئك النبطيون وما تاريخهم، وذكر بالتفصيل أدلة نسبة الخط العربي إليهم. ولكنه في رسالته هذه التي نشرت في سنة 1935 كان حكيما منصفا، أعطى كل ذي حق حقه، ولم يترك الأمر غفلا سبهللا يضلل القارئ، فيجعله يظن أنه هو أو غيره من أساتذة كلية الآداب بجامعة فؤاد هم الذين كشفوا هذه الحقيقة. كلا بل إنه عزاها لكاشفيها، وهم المستشرقون من الفرنسيين والإنجليز والألمان، وسماهم بأسمائهم.
ثالثا:
بتقرير أن الرسم العربي منتشر في بلاد واسعة من قارتي أفريقية وآسية، وأن العرب والفرس والترك حسنوه وزينوه حتى صار فنا من أروع الفنون الجميلة. وهذا التقرير معروف الموضوع عند الجميع، وقد ردده كثيرون من قبل، فهو هنا مجرد حشو وتزيد لا غناء فيه.
انتقل المحاضر بعد هذا إلى فكرة أخرى قريبة من وادي ما نحن فيه، فقال ما حاصله: «إن الكتابة المثلى هي التي لا تدل بالحرف منها على أكثر من صوت، ولا تضع للصوت الواحد أكثر من حرف.» ثم نقل عن دوائر المعارف البريطانية أن أستاذا كتب فيها يقول: «إن الكتابة المثلى هي التي يكون فيها الحرف الواحد مؤديا صوتا واحدا، والصوت الواحد متأديا بحرف واحد، وإنه لا كتابة تبلغ المثل الذي نطمح إليه، وإن كانت فلا تستمر طويلا؛ لأن أصوات معظم اللغات في تغير مستمر، ولا سيما الحركات، وإنه لهذا لم يستطع ضبط ألفاظ اللغات الميتة ولا الصيغ المهجورة من اللغات الحية.»
ينقل المحاضر تلك العبارة ثم يقول إنها إذا صدقت فيما يتعلق باللغات الأوروبية ونحوها، فإنها تقابل بالريبة فيما يتعلق بالعربية. ثم يترك استدراكه هذا المتعلق بالعربية مجملا صامتا، مع أن هذه النقطة هي لب لباب الموضوع الدائر فيه الكلام.
إن حضرة المحاضر إن كان يعني الكتابة العربية مشكولة بالدقة بالشكل المعروف كتشكيل القرآن، فكلامه حق لا جدال فيه. أما إن كان يعني الكتابة العربية مرسلة من غير شكل أو بشكل ناقص، فكلامه هو الذي يقابل بكل ارتياب؛ ذلك بأن تلك العبارة المروية عن دائرة المعارف البريطانية قد قيدها واضعها بقوله: «ولا سيما الحركات»، فمراده - إذا صدق ظني - أن كل نغمة صوتية يجب أن تكون محركة في الاتجاهات المختلفة من ضم وفتح وكسر وإمالات متنوعة؛ أي إن الكتابة المثلى ما تكون رسومها دالة في آن واحد على نغماتها وعلى اتجاهات نغماتها؛ أي على حركاتها.
والظاهر أن المحاضر إذ وجد استدراكه لا يتمشى على إطلاقه، بل هو استدراك غير صحيح فيما يتعلق بالرسم العربي الخالي عن الشكل أو المشكول شكلا ناقصا؛ لفقدان دليل الحركات فقدانا كليا في الحالة الأولى، ولقصوره في الثانية؛ إذ وجد استدراكه مختلا هذا الاختلال؛ فقد أتى به دعوى مجملة ممسكا عن البيان في هذا الموقف المقتضي للبيان، ومكتفيا في معرض الاعتذار عن التهرب من البيان، بقوله عقب ذلك الاستدراك: «وليس هذا من صميم موضوعنا»! كأن للموضوع صميما آخر غير هذا الصميم. أخشى أن يقال إن حضرته إذ أمسك عن الكلام في هذا الموضوع وطفر إلى الكلام عن اللغات الأجنبية، فإنما يكون أراد الاعتماد في تسويغ عباراته لا على التأثير المنطقي، بل على التأثير الخطابي ليس غير. والأدلة الخطابية ليست هي التي تنتظر من العلماء.
ترك المحاضر البيان - كما ترى، مع شدة الحاجة إلى البيان - ثم طفر في أقل من لمح البصر - كالذي عنده علم من الكتاب - طفر من مصر إلى أوروبة فأخذ يذكر - تهوينا لسوء رسم العربية - أن اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنجليزية فيها كثير من حروف جوهرية تترك غير منطوق بها، وفيها حروف حركات كثيرة توجه الكلمات توجيهات مختلفة، بل فيها حروف جوهرية ينطق بالحرف منها على نغمتين مختلفتين، وضرب لهذا بعض الأمثال. ثم قال إن أولادنا الذين يتعلمون الإنجليزية مضطرون لحفظ الكلمات الشاذة التي لا يجري فيها النطق على أصل القياس.
وكل هذا الذي يقوله حضرة المحاضر قد سبقه غيره من الفضلاء به وبأمثاله من قبل، وقد بينت وجه الخطأ فيه.
7
وهنا أوضح أنا بالإجمال ما لم يرد حضرة المحاضر الإقرار به وإيضاحه لا بالتفصيل ولا بالإجمال. ألفت نظره ونظر غيره:
أولا:
إلى أن الكلام هو في رسم لغتنا العربية الذي ضقنا به وأحسسنا بضرورة إصلاحه، فإذا كان في رسم الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما عيوب يصبر أهلها عليها ولا يتجهون لإصلاحها، فليس لأحد حق في أن يقول لنا كفوا عن إصلاح شأنكم؛ لأن لكم أسوة بأهل تلك اللغات. وهل سمعت أن أناسا تبلغ بهم الجرأة لأن يقولوا للمريض لا تطلب العلاج ومت بدائك ما دام كثير ممن هم مرضى مثلك يموتون بدائهم ولا يطلبون له العلاج؟ لكن حضرة المحاضر يعطي نفسه هذا الحق الجريء الذي لم يمنحه له الله، ولم تخوله إياه بيئة العلم التي يعمل فيها، بل ولا ورقة الدكتوراه التي بيده، بل ولا يسيغه العقل الإنساني الساذج البسيط.
وثانيا:
إلى أن أولادنا إذا استطاعوا حفظ شواذ الإنجليزية أو الفرنسية، فمن المستحيل عليهم حفظ شواذ العربية؛ لأن كل كلماتها طلاسم شواذ؛ لعدم وجود حروف الحركات التي يشير حضرته في صدر عبارته إلى أن الكتابة المثلى هي ما تدل عليها فيما تدل. فكلام حضرة المحاضر متخاذل ينقض أوله آخره.
إن الذي كنت أنا وغيري ننتظره من العلماء، إنما هو دقة العلماء، وألا يلجئوا إلى الأدلة الخطابية التي لا قيمة لها، بل يتركونها لي أنا وغيري من غير العلماء.
ومن أطرف ما رأيته من الأدلة الخطابية أن حضرة المحاضر بعد ما تقدم مما لا فائدة فيه، قال ما حاصله: «ولكن العربية إذا أمليت شيئا منها على إنسان كاتب فإن هذا الإنسان يكتبها تماما بدون أن يخطئ، اللهم إلا فيما يتعلق بالمختلف عليه من رسم الهمزة ووضع الألف بعد واو الجماعة ونحو هذا. بل إذا أمليت هذا الإنسان شيئا من الفارسية أو التركية - المرسومتين بالرسم العربي - فإنه يكاد يكتبه كتابة مضبوطة وإن لم يفهم معنى كلمات تينك اللغتين.» ثم أتبع هذا بقوله: «إننا إذا كنا سمعنا استنكارا للألف بعد واو الجماعة، أو نزاعا في واو عمرو، فإن الرسم الأوروبي بقي مصونا من استنكارنا بالدول والأساطيل والطائرات والهيبة والفتنة اللتين تأخذاننا من كل جانب.»
مرحى! مرحى! هنا خلع العلم ثوبه وارتدى ثوبا سداه الوطنية اللفظية، ولحمته أناشيد أرباب الحناجر.
إن حضرة المحاضر في هذه القطعة ينسى نفسه تماما، إنه لا يكتفي بالمرور مر الكرام، أو مر السحاب الجهام على الموضوع المنتظر منه الكلام فيه، بل هو يقلب هذا الموضوع رأسا على عقب، بل يطرده من الميدان طردا. إن أحدا لم يشك لحضرة المحاضر ولا لغير حضرة المحاضر من أن الكاتب بالعربية لا يستطيع أن يكتب ما يسمعه، ما شكا أحد هذا إليه قط؛ لأن أحدا - حتى ولا «عطية» كاتب الزراعة الجهول - لا يكاد يخطئ في رص حروف النغمات بعضها تلو بعض على الترتيب الذي يسمعه، ما دام هو عارفا من قبل أن نغمات الباء والجيم والحاء والعين مثلا ترسم هكذا «ب، ج، ح، ع»، وأنها في هيكل الكلمات ترسم هكذا ، فمتى سمع بالعربية أو بغير العربية كلمة فيها جملة نغمات متعاقبة كتبها حتما بهذه الحروف متتالية؟ ويستحيل أن يخطئ في رص الحروف بعضها تلو بعض إلا إذا كان في أذنه وقر، أو كان ساهيا أو معتوها. لكن هذا ليس مورد المسألة، بل موردها أن هذا السامع الذي يستحيل أن يخطئ في كتابة ما يسمع، هذا السامع متى كتب كان رسم كتابته رسما مشتركا يؤدي غرض المملي فلا يلاحظ عليه شيئا، ويؤدي في الوقت نفسه أغراضا أخرى بعيدة عن غرض المملي؛ بحيث إذا أتى قارئ من بعد فتناول الكتابة وهو يجهل أصل غرض المملي، ألفى هذه الكتابة مجرد حروف مشخصة لنغمات جوهرية متلاصقة، وألفى كل حرف منها قابلا لثلاث حركات مختلفة وقابلا فوقها للسكون، فلا يدري أية الحركات يعطيها للحرف منها ولا إن كان الواجب هو التسكين، بل إنه يتعثر في هذا ويخلط ويصحف بقدر ما تحتمله الحروف من التصحيف. هذا هو مورد المسألة، وهو المحظور الواقع فيه كل الناس، وهو المشكو منه، وهو الذي تسعى الحكومة ومجمع اللغة ورجال العربية في كل الأصقاع للعثور على دواء له غير «الشكل» الذي اتفق على إفلاسه كل المختصين.
أرأيت إذن كيف أن حضرة المحاضر عمد إلى الموضوع فجرجره وقذف به من حالق، وتصيد موضوعا آخر ما شكا منه أحد إليه وما انتظر أحد منه الكلام فيه؟
أخشى أن يقال إن حضرته إذ نبذ الموضوع الذي عليه الكلام، وأضاع وقته ووقت الناس سدى في موضوع آخر لا يختلف فيه اثنان، فإنه إنما فعل لغرض واحد؛ هو أن يرشح لكلمات: «الدول والأساطيل والطائرات والهيبة والفتنة اللتين تأخذاننا من كل جانب». وهنا ليسمح لي حضرته أن أقول له إن تلك الكلمات الدالة على التحسر القومي هي - كما أسلفت - من أناشيد الوطنية اللفظية، ولها منشدون كثيرون من غير رجال العلم، كما أن لها مواضع أخرى غير هذا الموضع تقال فيه.
بل لعلي واهم فيما أخشاه على الأستاذ من إمكان حمل عباراته على معنى تعمده مسابقة أرباب الحناجر في حلبة الوطنية اللفظية. ولعل كثيرا من الناس لا يرون - فيما أخشى التأول فيه - إلا مجرد عرض عام مشترك بين أقواله وأقوال الجماهير. والعرض العام شعاع منتشر، أو ظل شائع لا دلالة فيه على حقائق الأشياء، ولا قيم القائلين الفاعلين. وهل كل بيضاء من الأشياء شحمة ، وكل أبيض من الآدميين عالم؟ وهل كل سوداء من الأشياء فحمة، وكل أسود من الآدميين جاهل؟ إذن فلعلي واهم حقا. ولعل الصحيح أن الأستاذ قد رأى بنافذ بصيرته أن «التوقر» من أظهر شيم القساوسة وغيرهم من خدمة الدين، وأنه أنفس حلية للعلماء المعلمين، فاستشعره وارتداه وتقنع به. وما رآه وما فعله من هذا كله حق وحسن بلا مراء، غير أن لي في هذا المقام كلمة أعوذ بالله من أن يظن الأستاذ الجليل أني أوجهها إليه، إنها كلمة سنحت، ومن المفيد لي - وأنا نساء - أن أقيدها حتى لا يفر معناها من ذاكرتي. على أن القلم والمداد والقرطاس، كل أولئك ملك يدي، وانتفاع المرء بما يملك حلال في الشرع والقانون، فلأقيد تلك السانحة، وما علي أن يتظنى الأستاذ أنه المعني بها، مغفلا تصريحي بأنها غير موجهة إليه.
إن «التوقر» لفظ مقول بالتشكيك، يتسع مدى اصطناعه، ويضيق بالإرادة. والأستاذ - على ما يبدو - قد عمل على أن يبلغ من اصطناعه الغاية، وقد بلغها فعلا ومرن عليها، فهو عندي وعند غيري رجل متوقر متصون، له في القلوب - على رياضة نفسه في هذه السبيل الوعرة - كل تبجيل واحترام، لكن غير الأستاذ - لا الأستاذ نفسه، أستغفر الله العظيم - يسهو عن أن الإفراط في التوقر يحور إلى ما يسمى «التزمت» في عرف أمثالي من البسطاء، والتزمت - أجارك الله - متى أخذ بخناق الرجل نكر خلقه. إنه يورثه الاقعنساس فيبدو مقعر الظهر، محدب الصدر، منتفخ الأوداج، محتقن الوجه، بارز الحدقتين، في الأوج هامته وفي الحضيض همته. إن لم يكن كالمعلق بحبل المشنقة، فهو على الأقل «ضابط صف معلم بأورطة الأساس»، يمشي متشامخا مدلا بكفايته بين أنفار القرعة المستجدين.
هكذا يفعل التزمت بصاحبه، ثم هو يخرجه في تصرفاته عن المعايير المألوفة بين الناس، يجعله متى أراد إخراج الكلمة من فيه رطلا خرجت على الرغم منه قنطارا، وإذا أرسل صوته يمينا التوى فذهب شمالا، وإذا بصق أمامه على استواء نكص البصاق إلى الوراء، هو يخرجه من فيه فيرتد لمآقيه فيعميه. وفي هذه الآثار المتعاكسات حكمة لله بالغة لا ندرك نحن الآدميين كنهها.
ليس هذا فحسب، إن الله إذا ابتلى العبد بالتزمت كان بلوى لها ما وراءها.
إنه محنة يسلطها الله عليه فتلد الوسوسة، فتئوف عباداته فتعطلها، فيدخله النار. لا تدهش، وارقب قولي تره منطقيا عليه ميسم شركة «أرستطاليس إخوان» لا زيف فيه ولا تزوير.
أليس أن هذا «المتزمت» إذا أراد الوضوء أسرف فاستنشق عشرا، وغسل اليدين إلى الإبطين - لا المرفقين - عشرا، ومسح برأسه عشرا، فنفد الماء قبل أن يتم التطهر، فتعكر دمه فاحتد وسب، ثم طفق يصيح طالبا فضلة ماء، ولكن البئر انكسرت محالتها، أو الدلو انقطع رشاؤها، والنهر بعيد، وفي هرولته نحوه أصابته شوكة في رجله، فاشتغل بإخراجها، ففات وقت الصلاة، فعاد إلى داره عرجان أسفا، ولازمها أسبوعا مستعينا عجائز الحارة على إخراج ما انكسر من الشوكة وسكن في اللحم، وعلى تضميد الجرح الناغر الأليم؟ وفي هذا الأسبوع لا توضأ ولا صلى ولا حيي؟!
على أنه إذا سهل الله عليه فاستعد بالوضوء قبل دخول الوقت، وحضر الجماعة وأهل الإمام بتكبيرة الإحرام، وتبعه الناس في يسر وبساطة، فإنك تراه قد خيل إليه «التزمت» أن كل تكبيرات المصلين ليست كما ينبغي؛ لقصورهم عن درجة الكمال في استشعار النية، وتقصيرهم عن مشاهير الحفاظ في تجويد مخارج حروف التكبير. خيل إليه التزمت هذا النقص، فطفق هو يعالج التكبير كما يراه ينبغي، فعذب نفسه في استشعار النية وفي التجويد، وشوش على المصلين، واستمر في إيذائهم حتى سلم الإمام، وفاتت صلاة الجماعة قبل أن يفرغ مما ينبغي. ثم هو إذ أتعب نفسه وأضناها فيما ينبغي للتكبيرة الأولى، فإن ما أتى بعدها من أوضاع الصلاة يؤديه لا كما ينبغي ولا كما لا ينبغي، بل كما يتفق أن يكون؛ لأن المتعب القلب والعقل لا يطمع منه في تحقيق ولا تدقيق.
ثم إذا دخل رمضان قدم هذا «المتزمت» ساعة جيبه ساعة قبل الإمساك، من باب الاحتياط، ثم أخرها ساعة قبل الغروب، من باب الاحتياط والتمكين. فعذب نفسه في كل يوم من رمضان ساعتين لم يكتب الله الحرمان فيهما عليه.
ثم إذا أراد الزكاة أطف قدح البر استيفاء واحتياطا، واتقى بكفيه سقوط حبة القمة وما وليها، لكن حبة القمة وأخواتها تعصي أمره وتطيع قانون الجذب فتسقط، فيلتقطها ويعيدها للقمة، فيسقط غيرها، فيلتقطها في عجلة ولهفة، فيختل الوضع فتسقط حبات كثيرة، فيزيد في لهفة الالتقاط ويزيد سقوط الحبات. ولا يزال في هذه المشغلة حتى تتألب عليه عصافير الدار وحمامها ودجاجها، فيطردها، فتعاند، فيجري وراءها، فينكفئ القدح ويتبعثر الحب، ولا يلبث حتى يكون كله في حوصلات الطيور والدجاج. فيسب ويلعن الزمان والمكان، وربما شرد الغضب بعقله فلعن الزكاة ويوم الزكاة فكفر بالله عدوا فاستحق النار. وربما حمله الغيظ على خنق بعض الدجاج فمات فطيسا لا يأكله إلا الكلاب والهررة، فكلف زوجته رمي الميتة على الكومة، فتأبت لغيظها منه، فاعتركا، فطلقها، وخرب البيت، فخسر الدنيا كما خسر الآخرة.
ثم هو إذا قدره الله فحج ركبه التزمت عند رمي الجمار، لا يريد أن يرميها إلا إذا رأى الشيطان بعيني رأسه حتى يستيقن أنه مصيبه. لكنه لا يرى الشيطان، فيغضب، وربما اتهم عينيه بأنهما هما اللتان لا تطاوعانه في رؤية الشيطان، فرجم نفسه فانشج رأسه فمات. ولعل موته هناك خير له؛ لأنه نال الاندفان في الأماكن الطاهرة. ولعله خير لأهله؛ لأنه كفاهم مؤنة تلقيه عند القدوم بالطبل والمزمار وهو متزمت لا يفك كشارته لا طبل ولا مزمار.
أرأيت إذن أن المتقعرين المتزمتين يستحقون النار أحياء وهم من أهلها أمواتا؟!
بعد ذلك يورد المحاضر أنه سمع أن عالما اسمه القزويني كان بباريس، وكان عمال البريد يختلفون معه على ما يرد إليه من الرسائل، أله هي أم لغيره؟ (وذلك - كما يبدو - لأن الحروف اللاتينية كانت تتخالف في تعيين اسمه والدلالة عليه). ثم يذكر أنه وردت إلى أحد عمداء كلية الآداب السابقين دعوة من بعض الجماعات لتوحيد الكتابة بين أمم الأرض، فاتفق هو والعميد على إبلاغ الداعين أن يبدءوا هم أنفسهم بتوحيد كتابة لغاتهم، ومن بعد ينظر في الأمر .
فأما حكاية القزويني، فحضرة المحاضر يعلم أن مثل هذا الاسم إذا تخالفت الحروف اللاتينية في ضبط لفظه ولم تدل عليه بحروف بعينها ثابتة لا تتغير من كاتب لكاتب، فإن هذا ليس آتيا من عدم دلالة حروف اللغة الأجنبية على الأصيل من كلماتها، بل مصدره لوكة اللسان التي تختلف من أهل لغة لأهل لغة أخرى. ألم يقل العرب في «ألفونس: الأذفونش» وفي «جريناد: غرناطة» وفي «مدريد: مجريط»؟ وبقطع النظر عن هذا التحريف الآتي من تخالف لوكات اللسان، فإن كلمة «القزويني» هي - عند قراءة العربي لها مكتوبة بالحروف العربية - محل لتخالف أكثر من تخالف أوضاعها إذا كتبت بالحروف اللاتينية. أليس العربي الذي يجهل من قبل أن هناك شيئا اسمه «قزوين»، وأن هذا الاسم منسوب إليه، أليس أنه إذا أراد قراءته صحف القاف فثلث حركتها، ثم فتح الزاي أو سكنها أو شددها، فنتج من هذه التصحيفات عدد عظيم من الأوضاع لا أريد أن أعني نفسي بإحصائها، بل أترك هذا الإحصاء لحضرة المحاضر؟ ومع هذا فإني لا أفهم ما رواه المحاضر من أن هذا الأستاذ القزويني قد اضطر لتسجيل اسمه حتى لا يخطئ عمال البريد في إيصال مراسلاته إليه، لا أفهم على أي وجه كان هذا التسجيل، والكلام في رجل مقيم في باريس لا تأتيه رسائله معنونة بالعربية بل بالأحرف اللاتينية؟ أي شيء يكون هذا القزويني سجله؟ أنا طبعا أصدق حضرة المحاضر. وعدم فهمي لا يقتضي عدم تصديقي، فكم من أمور هي حقيقية في ذاتها وعدم إدراكنا لها لا يمنعنا من أن نصدقها اعتمادا على ما نعرف من صدق المبلغين، فأنا أصدق أن القزويني سجل شيئا وإن كنت لا أدري ما هو.
وأما مسألة الدعوة لتوحيد الكتابة، فإني لو كنت مكانه ومكان حضرة العميد السابق لما فعلت غير ما فعلا؛ لأن الرأي في مثل هذه الجماعات يكون للأغلبية، فلا أدري إلى أي طريق أنا أساق. وعلى فرض استصحاب الحرية مع مثل هذه الجماعات فإني واثق من قبل أن زمني ضائع؛ لأن في لغتي العربية نغمات لا مثيل لها عند غيرنا من الأمم.
وعلى كل حال فالكلام عن القزويني وعن تلك الدعوة كله حشو لا فائدة فيه.
بعد هذا قال إن الخليل بن أحمد هو الذي وضع «الشكل»، وقد اختار له حروفا من حروف الهجاء العربية.
وهذا خبر يجعلنا نترحم على الخليل بن أحمد لغيرته على العربية واجتهاده وسعه في كشف غمة رسمها القاصر. أما فوق هذا فلا أهمية له فيما نحن فيه؛ لأن الكل مجمعون على إفلاس الشكل سواء أكان واضعه الخليل بن أحمد أم كان عفريتا من جن سليمان.
يذكر حضرته من بعد أن الكلمات العربية ثلاثية الأصول تتفجر أصولها بالمشتقات، بخلاف اللغات الأخرى كالفرنسية والتركية، فإن أصولها ثابتة لا تتغير بالاشتقاق منها. ثم يروي عن بعض المستشرقين إعجابهم بهذه الثلاثية وأنها تشبه مثل أفلاطون. ولست أدري ما أهمية هذا فيما نحن فيه؟ بل لست أدرك كيف يجعل حضرته المقتضي مانعا على خلاف المقبول عند الناس! إن الفرنسية والتركية وغيرهما إذا كانت أصولها ثابتة باقية على حالها مهما أخذ منها من المشتقات، فهذا الثبات أقرب إلى أن يكون من الدواعي لعدم تحميلها بحروف الحركات أو بعلامات الحركات. لكن الفرنسيين - على الرغم من هذا الثبات - يستعملون في غضون أصولهم حروف الحركات، والأتراك - كما يقول حضرته - كانوا أيضا من قبل اتخاذهم الحروف اللاتينية قد استعملوا الحروف اللينة في غضون أصول كلماتهم المرسومة بالعربية لضبط ما لحروف هذه الأصول من الحركات. أفما كانت العربية - وأصولها تتفجر بالاشتقاق وتتغير به أوضاعها - هي الأولى والأحق بحروف الحركات لضبط أوضاعها المختلفة؟ وعلى كل حال فإن الكلام في هذا الصدد هو - كما ترى - من قبيل الأدلة الخطابية المتخاذلة التي إذا عصرتها لم تجدها شيئا ولم تدرك لها أية فائدة فيما نحن فيه.
على أن حضرة المحاضر في هذا المقام قد خرج أيضا - فيما يختص بالأتراك - عن الموضوع الاجتماعي إلى الميدان السياسي، فشكك في الدافع لهم على اتخاذ الحروف اللاتينية ما داموا هم - من قبل ذلك بسنين - كانوا قد استعملوا الحروف العربية اللينة وغيرها في بنية كلماتهم - حتى المستعارة من العربية - للدلالة على ما لها من الحركات. إن أقل ما كانت تجب مراعاته في هذا الصدد أن الترك أعلم بمصلحتهم من المحاضر ومني ومن غيرنا من الناس، وأنه ليس لأحد من غير رجال السياسة أن يتدخل في البواعث التي حملتهم على تغيير حروف كتابتهم، وأن قصارى مهمة رجال العلم إنما هي مجرد تسجيل الواقع وعدم التورط - تصريحا أو تلميحا - فيما قد يكون من البواعث السياسية الدافعة إلى التغيير.
أما القطعة الأخيرة من المحاضرة فهي في الموضوع حقيقة، ولكن واضعها لم يخترع فيها جديدا، بل هو يرى الأخذ بالمذهب الثاني؛ وهو استبقاء الحروف العربية كما هي، واستعمال الشكل على الطريقة الجارية الآن، ولكن لا كله، بل بالقدر اللازم منه لإزالة اللبس وتمكين القارئ من ضبط النطق الصحيح للكلمات. ومهما يكن هذا ترديدا لرأي سبق عرضه على المؤتمر، فإنه على كل حال كلام داخل في الموضوع وصالح كل الصلاحية لأن يكون محلا للتقدير. على أنه كان في وسع حضرة المحاضر أن يقتصر على التنويه بهذه الفكرة، وأن لا يتعب نفسه في حواش كثيرة خارجة عن الموضوع، وأن لا يعنيها بالاستشهاد بالمستشرقين وغير المستشرقين؛ فإن المسألة مسألة بحث مادي واقعي لا تفيد فيها الشهادات اللفظية ولا التخيلات الذهنية، بل كلامه هو وحده يغنيه ويغنينا عن مثل تلك الشهادات.
ومن أبلغ ما رأيته انطباقا على آداب البحث والمناظرة قول الأستاذ العظيم في الصفحة الأخيرة من بيانه الراقي: «إن كان منا من يرى تاريخنا عارا، وماضينا سبة، ويرى الخير في أن نقطع كل ما يصلنا بهذا التاريخ، ونستعير تاريخا أو نعيش بغير تاريخ، فله أن يدعو إلى نبذ خطنا فيما ننبذ من تراث الأعصار والأجيال.» الله حي!! نحن في جامعة فؤاد، وفي كلية الآداب، وفي معهد اللغات الشرقية، وفي غرفة رئيس المعهد، وأمام كرسيه العالي المنيف. أعلينا قوائمه ليفيض علينا نورا للعقول وتهذيبا للأخلاق. فهل هذا كل ما أقدره الله عليه؟! لعلها فلتة بدرت، ولعله مراجع نفسه فمحاسبها على ما كان. أما أنا فلا أحاسبه؛ لأنها فلتة تجل في نظري عن كل حساب، فلأفرض أني لم أقرأها ولأغط وجهها الدميم بالزفت والقطران، ثم لأستغفر له الله.
ومن أطرف ما يكون أن حضرة الأستاذ المحاضر اختتم مقاله الطويل بعبارة ينقلها مذعورا عن أديب شرقي يصفه بأنه مغرم بحب مصر، هي: «إن مصر لو همت باتخاذ الحروف اللاتينية لقاطعناها.» بخ بخ!
يا سيدي المحاضر، إني لا زلت - ولن أزال - أراك رجل علم، ورجل العلم لا ينظر إلا إلى الحق في ذاته، ولا يعير التفاتا إلى الفلتات الحماسيات الإيهاميات الكاذبات. إن الدونكيشوتية معنى قائم في الوجود، وسيستمر له عباد يتراءون عاكفين على محرابه حتى تقوم الساعة، فخفض عليك ولا تنذعر، ومص ليمونة من البنزهير، أو حط في بطنك بطيخة صيفية، والبطيخ كثير الآن في الأسواق! وإذا هالك غلاء الأسعار فإني مستعد أن أقدم لك البنزهير والبطيخ، وأنا ومصر المستفيدان؛ لأنها رشوة أقدمها لك حتى لا تنشر من عالي كرسيك بين شبابنا المثقفين مثل ما فهت به من تلك العبارات التهريجيات النابيات المحزنات.
الثاني والعشرون:
لاحظ
ثقيلا، لتشعب مفرداتها وتعقد قواعد نحوها وصرفها، ولسوء رسم كتابتها، وأجمعوا - في مصر على الأقل - على ضرورة تسهيل تلك القواعد وتيسير ذلك الرسم المضلل. ومن أهم ما اشتغل به المجمع اللغوي في دورته التي انتهت في فبراير الماضي مسألة الرسم. والمطلوب فيها أن يكون كل حرف في الكلمة مؤديا بذاته صورته الصوتية أداء صادقا؛ أي يكون التلفظ به المدلول عليه بذات رسمه مبرزا في آن واحد لنغمته، من جهة، ولاتجاه حركته من ضم وفتح وكسر، أو لسكونه أو تشديده أو تنوينه، من جهة أخرى؛ وذلك لتوحيد كيفية القراءة ولعصمة ألسن القارئين كبارا وصغارا، متعلمين أو أنصاف متعلمين، عربا أو عجما، من اللحن والأغلاط.
وإذ كان كبار الاختصاصيين المشرفين على تعليم العربية بمدارس الحكومة المصرية قد نعوا مر النعي على طريقة «الشكل»، وأكدوا عدم فائدتها في هذا الغرض ؛ مستندين إلى مشاهداتهم واختباراتهم للطلبة بمراتب التعليم المختلفة، وإلى الواقع المحسوس الذي يدركه كل إنسان من كلفة هذا «الشكل» ومن سوء أثره، ومن إهماله فعلا في المخطوطات جميعا، وفي شتى المطبوعات - إلا ما ندر - إذ كان هذا فقد تشخص حرج الحال للعيان، وأصبح من الضروري للنطق باللغة على وجهها المقصود، أن ينظر في طريقة أخرى غير الشكل لتعيين حركات الحروف في الكلمات.
اقترح غيري ما اقترح، واقترحت أنا اتخاذ الحروف اللاتينية لرسم العربية. واعترض علي معترضون كثيرون، أهم ما في اعتراضاتهم أمران يستوقفان النظر حقيقة هما: الخصوصية الاختزالية في الرسم العربي العاري عن الشكل، وآفة القطع بين حديثنا والقديم في الرسم اللاتيني. وهما أمران أثرتهما - أو على التحقيق استثرتهما - في اقتراحي، وقلت فيهما ما قلت، صحيحا مقنعا كان قولي أو غير صحيح ولا مقنع.
وإذ كان كلا الأمرين ماديا يدركه بحاسة البصر كل مطلع بلا حاجة في تصور ماهيته لشيء من الأقوال الشارحة ولا من الأقيسة المنطقية؛ إذ كان هذا فقد امتلأت بهما الاعتراضات. لكن ماذا عسى أن يقول المعترضون؟ إن اقتصروا على إثارة ذينك الأمرين من دون أن يقدموا بين أيدي اعتراضاتهم أسبابا طريفة تدعمها دعما ينصاع له العقل، كانت اعتراضاتهم كابية أو بائخة، ما داموا هم لا يرددون إلا اعتراضي على نفسي، وما دام موضوع الاعتراض ماديا يستوي في إدراكه والإدلاء به العالم والجاهل، وهم لا يحبون أن يظهروا في الناس مظهر البائخين، أيسكتون إذن؟ كلا، إنها فرصة للكلام إذا فاتت فقد لا تعود. إذن فليطيعوا أمر أحلامهم وليتكلموا، ولكن لا بما يهوى الجد والرجولة، بل بما تهوى أنفسهم، وأنفسهم صغيرة تطمح لا للإفادة والاستفادة، بل للتعالي الرخيص. وهم لا مادة عندهم حتى ولا للتعالي الرخيص، فليمضوا إذن في التعالي الخسيس؛ التطاول من قصر. وهكذا مضى كل المعترضين إلا قليلا ممن عصم الله. عمد بعضهم إلى الدين فتكلموا باسمه، كأنما وكل الله إليهم أمر عباده. ورأى بعضهم خير طريق يرفعهم إلى ذروة المجد هو اصطناع الكلام الغليظ، معتمدين على أن العوام كثيرا ما يفيضون على الشغابين صفة الفتوة المبيحة للافتخار، والحقيقة في نظرهم بالتجلة والإكبار. وفات المساكين أن هذه المرقاة لا ترفع ذواتهم إلا لتنقلب فتهوي بهم في مكان سحيق.
وبينا أنا أفكر فيما انتاب بعض الناس من التحلل الخلقي إذا بأحد موظفي المجمع يناولني عددا صادرا في 7 آيار سنة 1944 من صحيفة اسمها «المجلة» تصدر في بغداد. قرأت فيها أن صاحبها استفتى قومه في شأن ما ينبغي اتخاذه من أنواع الحروف لرسم العربية. ثم دون ردا أتى إليه من «معالي السيد كامل الجادرجي». قرأت هذا الرد فألفيت واضعه يعترض اعتراضا شديدا على ما اقترحته من اتخاذ الحروف اللاتينية لرسم العربية. وعلى الرغم من هذا قد وقع في نفسي لهذا المعترض من التقدير والاحترام ما لم يقع قبل لمعترض ولا لموافق؛ ذلك أني لمست في كل سطر من أسطر اعتراضه دليل الفطنة وسعة الاطلاع، وعلى الأخص سيما الكيس وكمال الرجولة.
هذا الرجل المتزن يقوم مقاله على الفكرات الآتية: (1)
إن
العالم الذي يسير في أموره الآن بما يشبه سرعة الكهرباء محتاج في تثبيت أفكاره إلى أخصر رسم وأوجزه؛ ولذلك اخترع الكتابة الاختزالية، ولكن رسومها مبهمة معقدة صعبة التعليم والتحصيل والتفسير، في حين أن رسمنا العربي الاختزالي بوضعه، والقابل لزيادة اختزاله عما هو عليه، هو رسم واضح المعالم، يستطيع ممارس العربية قراءة ما هو مكتوب به من زيادة عن ألف سنة إلى اليوم. (2)
إن رسمنا العربي إذا كان لا يقبل وضع حروف أو إشارات للحركات ملتصقة بهيكل الكلمات، فإن ضرر ذلك منحصر في خفاء حركة الحروف وحركة الإعراب على القارئ. وهذا ضرر يساويه - بل يربي عليه - ضرر ضبط الحركات بإشاراتها أو بأحرفها، وخصوصا بالرسم اللاتيني؛ لأن هذا الضبط يستدعي أن يكون الكاتب ملما إلماما تاما بالفصحى حتى لا يخطئ في الكتابة فيشوش أوضاع اللغة، ويسري هذا الخطأ والتشويش من بعد إلى القارئين. (3)
إن الأولى في العلاج - والحال ما ذكر - إنما هو النظر في تيسير قواعد نحو اللغة وصرفها لتهوين أمرها على الناس. وهو يقرر في وضوح وجلاء أن تلك القواعد أصبحت وزرا وحملا ثقيلا على الأجيال الحاضرة، بل على ممارسيها الاختصاصيين أنفسهم. ثم هو لا يقف عند مجرد القول، بل يذكر أمثلة مما يرى إمكان ورود الإصلاح عليه؛ يذكر أن لا لزوم للتذكير والتأنيث في ألفاظ العدد، ولا لزوم لجر الممنوع من الصرف بالفتحة، ولا لنصب جمع المؤنث السالم بالكسرة، ولا لعدم إعمال حرف الجر في المبني من الظروف، وأن توحد حركة عين المضارع في جميع الأحوال.
8
ويرى أن لا محل، عندما يكون الفعل مؤخرا عن الفاعل؛ لأن تكون الجملة مركبة من مبتدأ وجملة هي الخبر، بل يكون التركيب جملة واحدة مركبة من فعل وفاعل أو مسند إليه ومسند. وهو لا يستبد برأيه، بل يكل الأمر في ذلك جميعه للمختصين، على أنه غير متردد في الاعتراف بأن مثل هذا التيسير يفقد الناس سجية حاصلة لهم الآن في التلفظ بالكلام العربي. ولكنه يقول إن السجية عادة وإلف، وإن الزمن كفيل بطبع الناس على مثل ما يرى من هذه الوجوه الإصلاحية التي يقول إنها تسهل اللغة من غير مس بجوهرها. (4)
لا نغير رسم كتابتنا إلا إذا أجمعت أمم العالم على رسم واحد لكتابة كل اللغات، فعندها يكون لا محيص لنا عن متابعتها.
كل ذلك يورده صاحب المقال في عبارات مفصلة سهلة متزنة يأخذ بعضها في الاتساق بيد البعض، لا تشم فيها رائحة الشغب ولا نية الاستعلاء الكاذب ولا الاتجاه لتطاول القصار، بل تتنسم منها إرادة الإصلاح ليس غير، وتتحقق فيها الرجولة التي تدفعك إلى إكبار الواضع.
والآن هل يسمح لي هذا الرجل النزيه التفكير أن أفضي بملاحظاتي على ما خط من قيم البيان؟ إن سمح قلت له في إخلاص يمازجه الاحترام:
يا سيدي العزيز! إن فكرة اختزال الرسم العربي وضرورة عدم مسه، وفكرة السعي لعلاج العربية من طريق واحدة هي طريق تبسيط قواعدها، هاتين الفكرتين اللتين يقوم عليهما بيانك الشائق قد سبق أن أثارهما قومنا - كما أسلفت - ورددت عليهما بالمقدار الذي يستأهله كلام مثيريهما. وصببت ردي - في الأغلب - على مسألة الرسم وحدها دون مسألة تبسيط القواعد؛ لأن مسألة الرسم هي الجاري فيها الكلام الآن، وهي التي قدمت بشأنها اقتراحي الخاص بالحروف اللاتينية. أما مسألة تبسيط القواعد فأنا وغيري متفقون عليها، ولم يقم في أصل مبدئها أي خلاف، بل الخلاف هو في كيفية هذا التبسيط، وعلى أي وجه يكون.
وإنه مهما يكن الدليل الأقوى الذي تمسكت به في ردودي بشأن تيسير الرسم العربي هو إجماع رجالنا الرسميين وغير الرسميين على وجوب تيسيره، وتكليف مجمعنا اللغوي به في اللائحة التي يجري عليها في أعماله، مهما يكن من قيام هذا الدليل على وجوب تيسير رسم الكتابة، ومهما يكن له من قوة، فإني - تلقاء بيانك المتزن - أصرف النظر عنه، وأفرض عدم قيامه فعلا، وأنظر للمسألة على اعتبار أنها وليدة اليوم. فماذا أرى في بيانك؟
أراك تقرر أن رسمنا اختزالي لا يحتمل وضع حروف الحركات ولا إشارات الحركات في غضون هياكله. ثم تنصح باستبقائه كما هو، وعدم محاولة وضع شيء من تلك الحروف والإشارات في غضونه، لا تاليا للحروف متصلا بها ولا خارجا منفصلا عنها؛ لأن هذا يخل بخاصته الاختزالية، ومنفعة هذه الخاصة - في نظرك - أكثر من إثم التصحيف، بل تذهب إلى أن الحرج يزداد باتخاذ تلك الحروف والحركات.
الظاهر يا سيدي أننا غير متفقين اتفاقا واضحا على الغرض الذي نسعى إليه، فلنتفق عليه ابتداء، ثم ليتكلم كلانا بعد بما شاء. أنا أريد المحافظة على العربية الفصحى، وأنت تريدها كذلك، فلنحدد بالنص الصريح ما هي تلك الفصحى التي نريدها جميعا. أما أنا فلا أرى مثالا للفصحى غير القرآن الثابت نصه بالتواتر؛ فلغته هي وحدها المعنية لي عندما أذكر الفصحى. وأحدد أكثر فأقول: إن لغته المعنية لي هي ما تكون الأقيس والأسهل من وجوه قراءاته؛ فقراءة «إن هذين لساحران» هي المعنية لي دون
إن هذان
مثلا. وإني لمقتنع كل الاقتناع بأن لغة القرآن هذه التي أعنيها هي أوضح وأسمح وأيسر من كل النصوص العربية التي ترامت لنا من أقوال الجاهليين وشبه الجاهليين. بل إنها؛ من حيث جمال اتساقها وسهولة فهمها ويسر جريانها على الألسن، هي المثال المعجز للسهل الممتنع، وإذا كان فيها شيء من الغريب فقدر ضئيل. ومع هذا فقد أصبح - لكثرة التكرار في المناسبات المختلفة - مألوفا عند الناس يفهمونه في الجملة، وقليل من العناية يكفي كيما يفهموه على وجه التأصيل والتعيين. هذا هو رأيي محددا، فهل لسيدي خلاف في هذا؟ إن كان له خلاف أمسكت عن الاسترسال في القول. ولكني ما أظن أن له خلافا؛ فإن تلك الفطنة وذلك الكيس لا أتصور من جانب صاحبهما أي خلاف في هذا التنصيص والتحديد. وإذن فلنعتبر أن هذا هو وحده الغرض المتفق عليه.
تفهم عبارات السيد أنه يرى أن رسم كتابة اللغات إطلاقا - في يوم الناس هذا - يجب أن يكون اختزاليا، وأن العربية سبقتها جميعا بالفوز بنعمة الاختزال. وواضح أن الذي حدا بالسيد لهذا التقرير ما يراه من لجوء أهل اللغات الأخرى إلى اختراع الاختزال
Sténographie . لكني أنا يا سيدي أرى في هذا الخصوص غير رأيك. أرى أن الرسم صورة حسية منظورة للألفاظ المنطوقة أو للتراكيب اللغوية المعبرة عن المعاني الجائلة بالخاطر. أو هو ترجمان يعبر عن تلك الألفاظ والخواطر في صمت وسكون، ومن صفاته أنه لا يتعب سمعك، بل يتجه مباشرة من بصرك إلى عقلك فيصب فيه ما هو مكلف بترجمته من الألفاظ والمعاني، وإذا استنطقته واستلفظته أبى أن يتقدم عليك، بل وكل إلى لسانك أنت أمر اللفظ والبيان.
أنت إذن بالخيار، إن وقفت عند اعتبار الرسم صورة، فالعقل لا يسكن إلا إلى الصورة المطابقة لمصورها. هبك نظرت صورة إنسان لم يخرجها المصور على ما خلقها الله، بل جعلها بعين واحدة أو أذن واحدة، أو جعل فمها في قفاها، وأنفها في قمة رأسها، أفتسكن نفسك إليها؟ من المؤكد لا. كذلك صورة اللغة، إن لم تستوف لوحتها بيان الفاعل وبيان المفعول وبيان المتضايفين معلما كل منها بعلامته التي تخيرها له واضع اللغة، أو لم تستوف في صيغ الأفعال علامات البناء للمعلوم والبناء للمجهول وما إلى هذا من العلامات المقررة في أصل الوضع للمعاني المختلفة، كانت لوحة بتراء مشوهة تنكر العين رؤيتها وترفض النفس السكون إليها في الدلالات اللغوية.
أما إن اعتبرت الرسم ترجمانا فإني أرجوك أن تسمع لي: هبك منيت بترجمان يرص لك نغمات من نغمات أحرف الهجاء متتابعة بدون حركات، ويتمتم لك ملفظها تمتمة أنفية، ويكل إليك تقليده في الملفظ، فهل تفهم منه شيئا أو تستطيع محاكاة تمتمته؟ لا شك أنك إن ملكت شعورك ولم تخنقه فإنك على الأقل تصفعه على قفاه وتطرده من خدمتك. وهنا أبادر إلى القول بأن هذا الترجمان الأبكم مستحيل الوجود؛ لأن بين النغمات والحركات تلازما وتضامنا في مكنة الانبعاث. فالنغمات لا تظهر بدون الحركات، والحركات لا تظهر إلا معتمدة على النغمات. فك الآن عروة من عصام كنانتك يخرج لك منها ترجمان من صنف أرقى نوعا ما، هو الصنف الجارية عادتنا الآن باستخدامه. رقي هذا الترجمان الثاني ينحصر في شيء واحد، سلامته من العي والحصر. إنه يبصرك مقدما بمبلغ مساعيه في خدمتك حتى لا تتأذى في العاقبة وتحنق وترجع عليه باللائمة. إنه يقول لك: أنا رسام ماهر أرسم نغمات كل ما تنطق به أنت والناس من الألفاظ، وكل ما يدور بخاطرك من المعاني، مما هو معد لأن تنطق به فعلا أنت وغيرك من الناس، ولكن قرطاسي ضيق الرقعة، ووقتي أثمن من أن أضيعه في وضع علامات الحركة لحروف الألفاظ، تلك العلامات المعدة للتفريق بين المعاني المختلفة المستعملة فيها الألفاظ، فأنا لا أسرف في القرطاس، ولا أبذر في الوقت، ولا أضع لك تلك العلامات، بل أكتفي بأن أنطق بتلك الألفاظ مرة واحدة أثناء الرسم على وجهها الذي تريده، مستعيرا لسانك أنت أثناء النطق. وما علي من بعد أن تنسى أنت أو أولادك أو غيركم وتخلطوا وتقلبوا الأوضاع المقصودة لي رأسا على عقب بنطقكم المخالف لنطقي عند الرسم، اعتمادا منكم على أن ما تأتون به من التخليط لا يخلو في غالب الأحوال من أن يكون له معنى بحسب قوانين العربية، وإن كان معنى يبعد عن أصل المراد عند الرسم بعد ما بين القطبين. هذا التبصير يشوقك ويعجبك، بل يملقك بادئ الرأي؛ لأنه يصادف هوى في فؤادك. إذ القرطاس في واقع الأمر قرطاسك، والوقت وقتك، والنفس الإنسانية مجبولة على الضن بما تملك، وعلى الاستنامة لكواذب الأحلام التي تهيئ لها القدرة على حياطة ما تبني من قصور الماديات والمعنويات، وعلى صيانتها من عوادي الدهر. أنت إذن تقبل التبصير وتشكر للترجمان صراحته. ويتم الرسم على هذا الوجه، والارتياح مالئ جوانب نفسك. ولكن! ... لكن الواقع في كثير من الأحوال أن هذا الترجمان الراقي لا يمتاز عن ذلك الأبكم الذي غضبت عليه، إن رسمه الذي سرك إذا ما صار في غيبتك إلى أولادك أو عشيرتك الأقربين فربما نطقوه بخلاف ما أردت وأراد لك الترجمان، وربما وقعت بينهم العداوة والشحناء، وأصبحوا أحلاسا لمكاتب المحامين ولدور القضاء؛ لأن لكتابك وجهين محتملين، أحدهما يعطي والآخر يمنع. ومن يرى الإعطاء يلح، ومن يرى المنع يمسك، فيقوم العراك. أما إذا وقع مثل هذا الكتاب لغير هؤلاء ممن لا يهمهم الاحتفاظ بسمعة الكاتب، فإنهم - فوق هلهلتهم إياه في القراءة وتقويلهم صاحبه ما لم يقل - لا يتورعون عن تشريح عقله وعن البحث في شرائحه عن نيات يزعمونها له تتفق وما صدق عليه تصحيفهم. وقد ينتهي بهم البحث إلى تكفيره والحكم بأنه من أهل النار؛ لأنهم لما تناولوا بعض جمله المكتوبة نصبوا لفظ الجلالة فجعلوه مفعولا، ورفعوا لفظ إبليس فجعلوه فاعلا، وسياق العبارة قاض بشرف مكانة الفاعل وحقارة مكانة المفعول. ومن هنا يأتي التكفير، والناس إلى الشر أسرع. ومهما يحاول هذا الكاتب الإدلاء للناس بالنطق الصحيح، والاستعاذة بالله من الترجمان الذي اشترط عليه عدم تقييد الحروف بحركاتها، ومهما يقل لهم إن جلة المسلمين في كل بقاع الأرض يطيعون هذا الترجمان ويقبلون شروطه، مهما يقل أو يفعل للتخلص من استحقاق النار، فما هو بناج عند الناس في هذه الحياة الدنيا من حكم النار.
أرأيت إذن أي شر جلبه سوء الرسم على المرء في ولده وفي دينه؟ وإنه في نظري ليستأهل؛ لأنه قصر في حق اللغة فجعلها ألعوبة في أيدي المصحفين.
كأنك تقول ما لنا وللصورة والترجمان وزيادة الفيهقة في بيان الآثار اللازمة عن تعوير الصورة وتحريف عبارة الترجمان؟ تقول هذا وتلومني على الإسهاب في معنى واضح، وبسيط لدرجة التفاهة. لا تقل ولا تلم؛ فإن البديهيات العقلية أشد التصورات بساطة ووضوحا، والتعبير عنها يقع موقعا أتفه من التفاهة. ومع هذا فإنها أساس سلوك الناس في الحياة، وعليها عمارة الكون. إن بداهة ضوء الطريق ووضوح معالمه إذا كانت الشمس طالعة، هي التي تدفع بالإنسان إلى السير فيه سعيا وراء الرزق، وبداهة الإظلام إذا كانت الشمس غائبة، هي التي تحجبه في بيته وتمنعه عن المسير خشية الارتطام في حفرة، أو تلجئه إلى اتخاذ مصباح كيما يستطيع الكتابة والقراءة أو تناول ما يريده من الأشياء.
على أني أعفيك من هذه البسائط التي تحسبها تافهة. أتنكر أن الأحداث التاريخية من أدل الدلائل على اتجاه عقول بني الإنسان في هذه الحياة؟ انظر أحداث التاريخ في الشأن الذي نحن فيه بخصوصه، شأن رسم الكتابة. إن المصريين بدءوه تصويريا يعبر عن الفكرة بالصورة، لكنهم ما لبثوا أن ضاقوا ذرعا؛ لأن مفردات اللغة ليست مقصورة على أسماء الذوات التي لها صور تدرك بالحس، بل فيها أيضا كثير من أسماء المعاني؛ كالعلم والجهل والعدل والرحمة والشفقة والطيش والشجاعة والجبن وما ماثل ذلك. وبعض هذه المعاني إذا أمكن الاحتيال عليه بالتصوير التقريبي، فإن بعضها الآخر يستعصي على التصوير. وهم في معاملاتهم وأحوال مدنيتهم يريدون الإبانة والإفصاح، فضرورة الإبانة حفزتهم إلى الكتابة المقطعية، وهي تشخيص الألفاظ اللغوية نفسها بصور ذوات، أوائل أسمائها من مقاطع اللفظ المراد تصويره. فكان اللفظ ترسم له عدة صور بمقدار تعدد مقاطعه، فينطقون المقاطع الأولى من مسميات الصور، فيكون مجموعها هو اللفظ المروم. أو ليس أنهم ضاقوا أيضا بهذه الطريقة؛ لأنها لا تسعفهم بالبيان والإيضاح، ولأن السواد الأعظم لا يستطيعها، فأعملوا فكرهم، فتوصلوا لوضع رموز خاصة، كل منها يعبر عن نغمة من النغمات الدائرة في الألفاظ، فكان هذا مبدأ الهجاء المعروف؟ أوليس أن الفنيقيين أتوا من بعد فاستفادوا من عمل المصريين، فوضعوا أحرفا للهجاء مستوفاة، وعنهم أخذ اليونان وأهل آسية؟ أوليست كل تلك التطورات تدلك على اتجاه العقل الإنساني في رسم الكتابة إلى البيان والإفصاح وإلى التيسير في البيان والإفصاح؟ فمن صور لا يستطيعها إلا بعض المتخصصين، وهي في ذاتها يتعذر أن تؤدي كل المعاني اللغوية، إلى هجاء مقطعي يستلزم التصوير الذي لا يقدر عليه إلا المتخصصون أيضا، إلى حروف نغمات تؤدي نغمات الكلمة، وهي إن قصرت عن بيان حركتها فإنها - على كل حال - أوسع في البيان مدى، وأقل مؤنة على سواد الجماهير؟ ثم انظر ماذا دونه التاريخ من بعد؛ إنه يذكر لنا أن الحروف الفنيقية كانت لا تؤدي إلا نغمات متراصة خالية من الحركات، وأن اليونان لما أخذوها ضاقوا بها فأدخلوا في الكلمات حروف الحركات، فاستطاع الناس أن يقرءوا اللغة قراءة صحيحة مطابقة للملفوظ به من الكلام. أوليس التاريخ يروي لنا أيضا أن إدخال حروف الحركات كان فتحا جديدا وفخرا خالدا للعقل اليوناني؟ أوليس أن أهل أوروبا إطلاقا نقلوا عن اليونان حروف الكتابة، وفيها حروف الحركات؟ حتى الأمم الآتية إليها من آسية ولم يكن في رسم لغتهم حروف حركات. وإذن فاتجاه العقل الإنساني في أطواره التاريخية المعروفة دال على أنه متطلع بالاستمرار في أمر الكتابة إلى الإيضاح والتبيين والمطابقة بين ملفوظ اللغة ومكتوبها. ولم يثبت قط في التاريخ ميله في الكتابة إلى التعمية والتجهيل.
لنترك هذا الكلام العام، ولنحصر القول في الرسم العربي بوجه خاص. فهل يرى السيد أن اتجاه الأقدمين فيه كان إلى الاختزال؟ كلا، ثم كلا. إن العرب ضاقوا أشد الضيق برسمهم الاختزالي السخيف، وهذا معنى متسع يجيش بالصدر، وليس في الناس أحق منك ومن أهل العراق بسماعه، ولا أقدر منكم على فهم ظاهره وخافيه، والاقتناع بأنه حق لا ريب فيه.
أليست دجلتكم تتحدر من جبال أرمينية؟ أولستم أعلم الناس بأنه وقت فتح ذلكم الإقليم تخالف جنود المسلمين في قراءة القرآن وكاد بعضهم يكفر البعض، وأن عثمان بن عفان لما بلغه الخبر خشي سوء العاقبة فسارع إلى جمع القرآن وإرسال نسخه للأمصار؛ لتكون هي الثبت الذي يرجع إليه، وقد جعلها في كل جهة تحت مراقبة الحفاظ المتدينين المأمونين، الذين عليهم المعول في رواية هذا المصدر الأساسي للدين؟ تلك حادثة أولى يدونها التاريخ. فقل لي ما مبعث هذا التخالف؟ هل النعرة فيمن حضر الفتح من قبائل العرب حملت كل قبيل على أن يخترع قرآنا، وتعصب كل قبيل لقرآنهم، فكان التخالف وكانت المشادة ووشك التكفير؟ قطعا لا، أنزل القرآن نفسه متغاير الآيات بعينها، في السورة الواحدة بعينها، متخاذل المعاني في تلك الآيات؟ قطعا لا أيضا. إذن لم يبق من مبعث للشر إلا سبب واحد؛ هو سوء رسم العربية. لقد كان القراء قليلين، والكتاب أقل من القليل، والرقاع أندر من الندرة. فأيما قبيلة ظفرت بصحيفة مكتوب فيها سورة أو بضع آيات من سورة، حرصت عليها، وتعبدت بتلاوتها على الوجه الذي استطاعت أن تقرأها عليه. وإذ كان رسم الكتابة إذ ذاك أشد اختزالا مما هو الآن؛ لتجرده من النقط والألفات الممدودة، وكان الكتاب بدائيين لا يستطيعون ضبط الكتابة - حتى برسمها القاصر السخيف - إذ كان هذا فإن باب الخطأ والتصحيف كان مفتوحا على مصراعيه. ويكفي أن يكون للألفاظ - بعد تصحيفها - معان تتلاءم قليلا أو كثيرا، حتى يمضي القارئ في قراءته ويتعصب لها.
أرأيت إذن يا سيدي مبلغ الضرر الذي نشأ في أول الإسلام عن سوء الرسم ووجازته وقابليته للتصحيف؟ فهل لا زلت مصرا على رأيك من مزية اختزال رسمنا العربي وكونه قابلا لزيادة الاختزال؟ إن كنت لا زلت على هذا فالأمر - في حماية الفصحى - لله.
على أن عثمان إذا كان له عند الله وعلى المسلمين يد بجمعه القرآن، فإن عمله لم ينحسم به الشر من أساسه، كل ما كان أنه كفى المسلمين شر جهل الكاتبين الذين لم يحسنوا كتابة ما لديهم من الصحف حتى على قاعدة الرسم العربي السخيف، ثم شر من كانت لديهم صحف كتبوها في أوقات متباعدة وفرص متفرقة، فأتت بطبيعة الحال غير وافية أو غير مراعى فيها ما للقرآن من ترتيب في السور والآيات. أما منبع الشر الحقيقي، وهو رسم العربية القابل لكل تصحيف، فبقي على ما كان عليه، ولم يعالج بشيء أكثر من إيكال الأمر في كل مصر إلى الحفاظ المتدينين الصالحين. وهو في ذاته علاج واهن ضئيل، ألا ترى أن المسلمين استمروا ضائقين خائفين من التصحيف، وأنه لم يمض إلا قليل حتى قام الحجاج بن يوسف - وكان عندكم بالعراق عاملا لعبد الملك بن مروان - فعمل على تنقيط الحروف في كلمات القرآن؟ وهذه حادثة ثانية يرويها التاريخ. ولم يبعث عليها مزية اختزالية رسم القرآن، بل الباعث هو ضرر هذه الاختزالية الموقعة للناس في الضلال، وضرورة الإيضاح والتبيين.
لم يمض بعد إلا قليل حتى كانت التجاريب المتعبة التي قام بها السلف، ومنهم الخليل بن أحمد، قد انتهت بوضع الشكل توضيحا لرسم حركات الحروف في كلمات القرآن وغير القرآن. وهذه حادثة ثالثة يرويها التاريخ، وليس لها من مبعث سوى ضيق الناس بانبهام طريقة النطق بكلمات القرآن وغير القرآن، ووجوب توضيح هذه الطريقة منعا من الوقوع في خطر التصحيف.
يدلنا الواقع في كتب السلف من العلماء على شدة تغيظهم من رسم الكتابة، وعدم اعتمادهم، لا على التنقيط الذي أتى به الحجاج، ولا على الشكل الذي اخترعه من بعده، مهما يكن هذا الشكل قد حسنه من أتوا بعد مخترعيه. نجد أولئك السلف يضبطون الألفاظ في كتبهم بألفاظ مثلها. فيقولون: بالثاء المثلثة الفوقية، بالجيم الموحدة التحتية، بالضم، بالكسر، وزان قمر، وزان سحاب ... إلخ. وهو من جانبهم عمل زائد يأتون به حتى لا تجني سخافة الرسم ووجازته على ما يكتبون. وهذه حادثة رابعة كلية شائعة في كتب الأقدمين.
فالتاريخ يدلنا على أن الاتجاه في العربية بخصوصها إنما كان نحو التخلص من اختزال رسمها وقصوره.
إنك يا سيدي إذا استطعت أن تعدني متزيدا بما تبسطت في الكلام على الصورة والترجمان، فإنك لا تستطيع بحال أن تخرج من ربقة التاريخ ودلالة حوادثه؛ فإني لست أنا الخالق للتاريخ، وليس لي ولا لك سيطرة على حوادثه، بل كلانا منفعل بها مساير لتيارها، ومن لا يعترف منا بقوة هذا التيار جرفه وأقصاه. فأرجوك أنت وقومك أن تتدبروا ما أقول، ولعل زيادة التأمل توفقكم إلى الإقرار بوجوب تعديل رسم كتابتنا العربية على الوجه المفصح المبين. وما يهمني أن يكون الإفصاح باللاتينية أو الوقواقية، كل ما أريده الإفصاح لا شيئا غير الإفصاح. غاية الأمر أن نظري الضعيف استقر بعد التأمل الطويل على أن الحروف اللاتينية هي وحدها وسيلة النجاح، ولا زلت منتظرا من يدلني - بحق - على وجه خطئي في هذا النظر الغريب.
على أني لا بد لي هنا من تقرير حقيقة يثبتها الاستقراء؛ وهي أن أهل اللغة كلما كانوا عليها أحنى وأحرص وإلى الاضطلاع بها أنشط، كانت صيحتهم لتقويم رسم كتابتها أعظم. هكذا كان الحال أيام عثمان بن عفان، وأيام عبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف، وأيام الخليل بن أحمد، وأيام من بعدهم من العلماء الذين اشتد حرصهم على العربية فكانوا يضبطون ألفاظها بالألفاظ. وهكذا الحال الآن ودبيب النهضة اللغوية العربية يدب في بيئتنا المصرية وفي بيئتكم وسائر البيئات العربية الأخرى. والعلة في هذا - وما أظنها تخفى عليك - هي أن أهل اللغة متى تنبهوا لخدمة لغتهم وإعزازها، وأخذت ملكتها تسيطر على ألسنتهم، أرهفت هذه الملكة حسهم وجعلتهم لا يطيقون عبث من يهدر قواعدها ولا يراعي حقوقها عند قراءة شيء من نصوصها، بل هم يتأذون ويتألبون صارخين طالبين توضيح معالم رسمها حتى يسقط عذر القارئ، ويزول مصدر اللحن الذي يؤذي لغتهم العزيزة عليهم كما يؤذي أسماعهم. وهذه العلة النفسانية تدور مع معلولها وجودا وعدما؛ ألا ترى أنه إبان الركود اللغوي، التابع للركود العقلي، قل أن يفكر أحد في اللغة، ولا في صونها أو عدم صونها من اللحن والأخطاء؟
إذا تقررت هذه الحقيقة، واعتقدتها وانفعلت بما تعتقد، سقط حتما ما ارتأيته في مقالك الجميل من أن رسمنا الحالي ينبغي أن لا يمس مهما يكن مضللا، ومن أن العلاج الوحيد للعربية لا يخرج عن تبسيط قواعدها؛ سقط لأنك ترمي بتبسيط القواعد إلى تقريب الفصحى للناس وتحبيبها إليهم، وحملهم على التمرس بها. وها أنت ذا ترى - مما أسلفت - أنهم كلما كانوا بها أعلم كانوا على سلامتها في الألسن أحرص، وإلى التأذي من العابث بها أوحى وأسرع، وإلى الصياح بطلب إفصاح رسمها أثور وأقوم.
على أنك يا سيدي في رأيك هذا الثنائي الطبيعة؛ بقاء الرسم لاختزاليته وتبسيط القواعد لنشر راية الفصحى؛ كمن يبني بيد ويكسر بالأخرى آلة البناء. إنه لا يغيب عن سيدي أن محبي العربية مهما عملوا فلن يستطيعوا مغالبة قانون التطور إلا إلى حد محدود. إنهم لا يستطيعون القضاء على اللهجات العامية في كل بلاد العربية، بل كل الذي أطمع فيه أنا وأنت وغيرنا إنما هو بقاء لغة القرآن حية يمارسها من الناس أكبر عدد مستطاع. لكن هذا العدد مهما يكبر، فإنه قد لا يبلغ خمسة أو عشرة في المئة من مجموع أهل العربية، أما تسعة أعشار الناس فسيقيمون على لهجاتهم العامية على الرغم من مساعيك ومساعي ومساعي غيرنا. وأنت يا سيدي لا يفوتك أن الشأن في اللغات كالشأن في سلع التجارة، رخيصها يطرد غاليها؛ فالعوام بلهجاتهم الرخيصة سيبقون سابقين للخواص بفصحاهم النفيسة، وسيعينهم دائما أنهم أكثر عددا. وسيضطر الخواص دائما إلى مخاطبة العوام بلهجات العوام. أما العوام فلن يستطيعوا مخاطبة الخواص بلغة الخواص. ونتيجة هذا أن سيكون دائما بين رخيص اللغة وثمينها عموم وخصوص مطلق، كل رجل من الخاصة يتكلم العامية، أما رجل العامة فلا يتكلم إلا العامية، وهذا وضع له أثره وله قوته في مناهضة جهود من يعملون على إحياء الفصحى. هذه القوة المعاكسة لا بد من الاستعانة عليها بشيء ذي أثر. أنت تقول القواعد، ولكن القواعد نظرية، والنظري وحده لا يفيد. هبك طبعت للناس كل كتب النحويين من عهد سيبويه إلى الآن، وهبك بسطتها وسهلت مواردها ثم عرضتها عليهم، فهل تظن أن أحدا يقرؤها؟ لا تظن. إنما هي تبور في أيدي الوراقين؛ ذلك أن السواد الأعظم من الجماهير لا يهتم بالأمور النظرية ولا بما تمثل لقواعدك من: ضرب زيد عمرا، أو أكلت السمكة حتى رأسها. لأنها أمثلة تجريدية كاذبة لا حقيقة لها ولا غناء فيها، إنما هذا السواد يهتم للأخبار الطارئة والحوادث الجديدة والأقاصيص المسلية؛ فهو يتمنى أن لو استطاع قراءة الجرائد والمجلات والقصص الروائية حتى يعرف أخبار بلده وأخبار العالم الخارجي، ويرطب مزاج نفسه المكدودة. هذه العاطفة هي التي عليك أن تستغلها، وهي وحدها مناط الاستغلال. اجعل الصحف والمجلات وكتب الروايات والأقاصيص مكتوبة كتابة سهلة الانفهام مستوفاة الحركات والسكنات الأصولية، لا يتعثر فرد في قراءتها، ولا يشذ فرد في هذه القراءة عن فرد، اجعلها كذلك تكن هي أداتك العملية في البناء؛ يقرؤها المثقفون والعوام مدفوعين جميعا بغريزة حب الاستطلاع والاستجمام، متخيرا كل منهم ما يوافق هواه ودرجة عقليته. ومتى طال بهم الزمن وقراءتهم صحيحة الأداء، تمكنت عند المثقفين نظريات القواعد، وأصبحت الفصحى قريبة من أن تكون لهم سجية، وتحسنت حال العوام واقتربوا من أن يفهموا الخواص إذا خاطبوهم بالفصحى، وربما نشط بعضهم فعالج من أمر الفصحى وقواعدها النظرية ما يعالجه المثقفون. وهذا الوضع هو أقصى ما يصح لمثلك ومثلي أن نطمع فيه، فإن اتسع وارتفع بالزمن فبها، وإلا فالطفرة عليك وعلي - اعتمادا على مجرد القواعد النظرية - هي من المحالات وكواذب الآمال.
أنت في هذا المقام تخشى زيادة الضرر لو استكمل الرسم آلات الحركات، لكن اسمح لي أن أقول لعلك واهم. إن مؤلفي الكتب الأدبية ومديري الجرائد والمجلات في يومنا الحاضر هم في الصف الأول من مجيدي العربية. وكلما طال الزمن كانوا فيها أرقى وأكمل. هؤلاء الكملة هم الذين يطبعون للناس ما يقرؤه الناس، وهم لا يطبعون - كما نشاهد - إلا الصحيح عربية كل الصحيح. فأنت يا سيدي تخاف بلا موجب. إن من القواعد الحكيمة أن اليقين لا يزول بالشك. ومن اليقين أن وضع حروف أو علامات للحركات مفيد من وجهين؛ إبراز معاني الألفاظ في العبارات، وتعويد الناس صحة الأداء. هذا اليقين المفيد تريد أنت إزالته بما يحتمل وقوعه من الفساد اللغوي لو أن الكاتب كان غير ملم إلماما تاما باللغة وقواعدها. إن هذا من جانبك مجرد افتراض، وهو افتراض لا أسلم لك به تسليما مطلقا؛ لأنه إذا كان صحيحا في الذهن فهو لا يمكن - في الواقع - أن يصح على إطلاقه، ولا أن يدوم على إطلاقه. إنه إذا خرج من الذهن إلى ميدان الواقع أكل بعضه بعضا فتهافت. إن الجريدة إذا كثرت فيها الأغلاط لأي سبب كان، سقطت في نظر الناس وكسدت، فاضمحلت وماتت، ومثلها الكتاب. ويتأكد تهافتهما وموتهما إذا تيقن القراء أن أصحابهما هم من الدرجة الواطئة في علم العربية، على أن الحق في هذا الداء الذي تبني عليه افتراضك أنه داء لا شأن له بالكتاب. وعلاجه لا يصح أن يكون بإزالة اليقين الجوهري المفيد، بل يكون بالبحث عن علته والقضاء عليها. وأنت إذا بحثت تأكد لك أن واضعي الكتب ومحرري الجرائد ليسوا هم الذين يخطئون في الأوضاع العربية كما تفترض، إنما المخطئون هم عمال المطابع صفافو الحروف. سل صاحب المجلة التي نشرت ردك يقل لك إنه يصحح التجربة (البروفة) الأولى، ثم يعود فيصحح الثانية، ثم يعود فيصحح الثالثة، حتى ينفد صبره ويحل ميعاد إخراج الصحيفة فيخرجها آسفا على ما أبقاه الصفافون فيها من الأغلاط.
على أني يعز علي أن تمر المسألة من غير أن أقول كلمة لإنصاف الصفافين، وهي كلمة سبق لي الجهر مرارا بها، إنهم عمال معذورون، يجهد العامل منهم أضعاف أضعاف ما يجهد زميله في البيئات الأجنبية. ولا ينال من الرزق إلا دون الدون. للحرف الواحد عنده هياكل أربعة، وله هيكل واحد عند ذلك الزميل، فرأسه تدوخ من كثرة التلفت لصناديق الحروف، والدائخ عرضة للأخطاء حتى ولو كان بالغا في فقه اللغة درجة المحررين. فما تراه في الصحف أو الكتب من الأغلاط، وما تراه في كتبنا جميعها من الصحائف المتعددة التي توضع بعد الطبع لتصحيح ما سرى فيها من الأخطاء، كل ذلك سببه لا المحررون بل الصفافون المعذورون. والعلة الأولى لخطأ الصفافين هي تلك العاهة المستديمة الملازمة للرسم العربي، والتي تشتد عقابيلها إذا أضيف إليها شيء من «الشكلات»؛ لأن صناديق الرموز تزداد، والدوار يزداد، والأخطاء تزداد. وهذه الحقيقة هي من جملة الدوافع التي دفعتني لاقتراح الحروف اللاتينية لرسم العربية. وأنا يا سيدي إذا كنت أعيد تقريرها الآن فلمجرد إنصاف الصفافين، بعد أن برأت المحررين، ثم للتبصير بحرج المركز الذي نحن فيه، لعل لكم بالعراق رأيا يخرجنا جميعا من هذا السوء.
إلى هنا أظنني بينت:
أولا:
أن طبائع الأشياء ذاتها قاضية في رسم اللغة أن تكون صورته كاملة مستوفية كل ما يدل على نغمات الألفاظ وعلى حركات هذه النغمات، وإلا كانت صورة بتراء تؤدي إلى كثير من الشرور.
ثانيا:
أن ميول الإنسان متجهة في رسم اللغات إلى الإفصاح والبيان، كما تدل على هذا حوادث التاريخ.
ثالثا:
أن جميع أمم الحضارة تعد اختراع اليونان لحروف الحركات تقدما عظيما، وكلها تستعملها إلى الآن بعد أن نقلتها فيما نقلتها عنهم من الحروف.
رابعا:
أن ميل أهل العربية بخصوصهم اتجه دائما نحو تكميل رسمهم الاختزالي بما تتمايز به الحروف، وبما يفصح عن حركاتها في الكلمات.
خامسا:
أن تكميل الرسم بما يضبط عبارات اللغة ويمكن من قراءتها على الوجه الصحيح المطابق لأوضاعها المقررة، يزيد التطلع إليه والمطالبة به كلما رقيت اللغة واعتز بها الناس في بيئة من البيئات. وأن هذه من الظواهر الاجتماعية التي لا تتخلف.
سادسا:
أن من أثر هذا التكميل توفير وقت القارئين، وإعانة المثقفين على أن يثبتوا بالعمل ما يتلقون من نظريات القواعد، وعلى حصولهم بالمرانة مع الزمن على سجية الفصحى، ثم تقريب العوام بقدر الإمكان من لهجة الخواص. وهذا أقصى ما نطمع جميعا فيه.
والنتيجة من كل هذا أن إصلاح رسمنا العربي القاصر وجعله وافيا ببيان حركات الحروف في الكلمات ليس في عصرنا الحاضر - عصر تنبهنا للعربية واعتزازنا بها - زخرفا ولا تقليدا اعتباطيا، بل هي ضرورة من الضرورات نحن مدفوعون إليها دفعا نفسانيا لا يقاوم ولا يصادر، ولا تستطيع أن تقف في سبيله أية عقبة من العقبات، ما دمنا جادين في حماية الفصحى لا هازلين.
يزيد في قوة هذه الضرورة، بل يجليها ويبرزها للعيان، أن العربية - على ما أعلم - وعلى ما أشرت إليه في مقالك القيم، هي بين لغات العالم أقوم لغة معربة. وأضيف إلى هذا أنها لغة دقيقة التصريف محكمته. ولازم هاتين الخصوصيتين ما تراه فيها من المرونة. قدم الفعل على الفاعل، أو الفاعل على الفعل، وأخر المفعول عنهما، أو قدمه عليهما. كل هذا تستطيعه في العربية ولا تستطيعه في غيرها؛ لأن المعول في العربية، لا على مكان اللفظ ومرتبته في الجملة، بل على حركات الإعراب، فهي وحدها التي تدلك على وظائف الألفاظ في الجمل. إنك في العربية تقول: «قام زيد - زيد قام - ضربت زيدا - زيدا ضربت.» وقل أن تقول مثله في لغة أخرى. كما أن حركات الحروف هي التي تبين لك صيغة اللفظ ومعناه، بل إن مجرد اختلاف حركة الحرف بعينه تقلب الفعل من متعد محتاج لمفعول إلى لازم مكتف بفاعله. إنك تقول: «ضرب - ضرب - مضرب - مضرب - ضارب - ضارب - ضربة - ضربة - دهش - دهش ... وهكذا.» ولكل من هذه الألفاظ المتماثلة الهياكل معناه الخاص، لا يميزه إلا الحركة. وأنت لو تصفحت أي كتاب من كتب نحو العربية لألفيت معظم ما به كلاما على المرفوعات والمنصوبات، وعلى نواصب المضارع وجوازمه، وعلى الجر وعوامله، وباقي ما به كلاما على المبنيات المحرومة من الحركة أو من تعددها. فالحركات قوام اللغة العربية وعماد أبنيتها، أو هي على التحقيق روح العربية، على حين أن نغمات الحروف ليست إلا جسمها، وكل جسم بلا روح فهو ميت. إن من الأوضاع المنكرة أن يعنى ناس بالجسم الميت الصامت دون الروح النابضة الناطقة، لكنا نحن نفعل هذا في لغتنا، نرسم جسمها الميت ونترك الحركات التي هي روحها مع قدرتنا على رسمها، نرسم جسمها وحده ونتركه جثة هامدة على قوارع الطرق يستنطقه المارة كيما يعرفوا هويته ويردوه إلى أهله، فلا ينطق؛ لأن الميت لا ينطق، فيحارون ويفرضون الفروض ويحزرون الأحازير حول مسقط رأسه. وإذ كان لا بد لهم أن ينتهوا حتى يخلو الطريق، فإنهم يقفون عند احتمال من الاحتمالات. هو نصراني فليسلم لقسس النصارى، أو هو مسلم فليدفن في مقابر المسلمين، أو لا مسلم ولا نصراني ولا يهودي، بل هو من أولاد الجان، وعندئذ يتركونه خائفين من إبليس ومن أولاده الشياطين. هكذا الشأن في لغتنا ورسمها، لا تقرأ كتابا من كتبها الأدبية إلا يصادفك فيه مرات قول مؤلفه أو شارحه: «إن كان هذا اللفظ بالكسرة، كان المعنى كذا، وإن كان بالفتحة كان المعنى كذا.» وإذا وجد المؤلف أن المعنى ركيك على كلا الفرضين، فر من الموضوع قائلا: «والله أعلم.» كما فر أولئك السابلة من جثث الشياطين.
إن حسبت أن هذا التمثيل مبالغ فيه، مع أني أسوقه مدعوما بالدليل الذي لا يستطيع أحد له إنكارا، فإني - ابتغاء مرضاتك - أضع بين يديك تمثيلا آخر. إن الذهب والحديد والنحاس إذا كان لها وزن عند خروجها من مناجمها فليس لها جسم معين، والوزن وحده والجسم المبهم الأقطار لا يأبه لهما الإنسان؛ لأن الحجر والطين، من أي محجر أو مرقد، لهما أيضا وزنهما، ولهما أجسامهما المبهمة الأقطار. لكن تلك المعادن يكون منها، من الذهب الدينار والدملج والسوار والخاتم والخلخال، ومن النحاس أدوات الطهي ودقيق الأنابيب، ومن الحديد آلات الزراعة والمصانع والسيوف وأسنة الرماح. وأنت إذا أردت الحصول على شيء منها فإنك لا تقول للصائغ: أعطني رطل ذهب، ولا للنحاس: أعطني رطل نحاس، ولا للحداد: أعطني رطل حديد؛ لأنه يهزأ بما تقول. لكنك تحدد فتقول: دملجا ذهبا، أو إبريق نحاس، أو سيفا من الحديد الصلب، فأنت مضطر بطبيعة الأشياء إلى تحديد صورة المعدن الذي تريد. ولكنك في رسم العربية لا تحدد شيئا، إنك تعمد إلى منجمها، وهو الأبجدية، فتقتطع منها الوزنة التي تريد، وتتركها على القرطاس جسما هامدا منكر الأبعاد، هيولي بلا صورة. والصورة، كما رأيت في تلك المعادن، هي وحدها المميزة بين الأجسام، بل إن فعلك في العربية أشنع؛ لأن السيف إذا انفل فلن يزال له شبا يقطع الضريبة ويؤدي الغرض. أما رسم اللغة إذا اختل فقد ينقل المرء من العراق إلى اليابان، وهو يريد بلاد الأمريكان، بل قد ينقله من حضرموت إلى جهنم الحمراء من حيث لا يحتسب. أرأيت إذن أنا نسير في رسم لغتنا على نهج يرفضه العقل وترفضه طبيعة الأشياء، وكله مخاطر في مخاطر؟ إذن لا بد لنا من أن نستوفي صورته استيفاء مفصحا مبينا بأية طريقة من الطرق، على شرط ألا نزيد في وطأة عاهته المستديمة التي وضعته أمه مصابا بها، بل نخفف من شدتها إن لم نستطع أن نشفيه منها تمام الشفاء، وإن لم يعجبك قولي فأؤكد لك أنه يعجبني أنا، ولا حجة علي في نفارك، لك دينك ولي دين.
لست أنكر أن المتعلمين - بل أنصاف المتعلمين، بل أرباع المتعلمين - يقرءون الآن الجرائد والروايات، ويفهمون ما فيها. ولكني أنكر أنهم يقرءونها باللسان الذي خلقه الله للنطق والإفصاح. إنهم إنما يقرءون بحاسة البصر دون اللسان، إنهم تعودوا أن الصورة الفلانية تدل على المعنى الفلاني، فهم ينظرون في الصحيفة فيفهمون دلالات الصور التي اعتادوها، لكن إذا اضطروا لسبب من الأسباب إلى أن يعملوا اللسان، نطقوا بهذه الصور كما ينطقون بها في لهجتهم العامية المفسدة لحركات حروف الكلمات والخالية عن حركات الإعراب؛ لأن تلك الصور مجردة عما يرشد إلى شيء من تلك الحركات. وهذا الوضع الناشئ عن قصور رسم الكتابة لا يقدم الفصحى قيد شعرة، بل هو يؤخرها درجات. ومن لوازمه أن تبقى الفصحى أبد الأبيد منكرة المعالم، مختلة الأوضاع في لفظ اللسان. وهو شذوذ لا نظير له عند أكثر من عدانا من خلق الله.
أفهم أن ترتأي جعل رسمنا الحاضر لقراءة العوام، وأن تعدله لقراءة الخواص، فيكون قولك منطقيا يدعمه أن نقل لغة العوام إلى لغة الخواص جد عسير. ولكن الذي لا أفهمه أن ترتأي تعميم الفصحى مع استبقاء الرسم الحالي الذي لا يتفق إلا مع لهجة العوام.
أما ما أشرت إليه من أن الإفرنج اخترعوا الكتابة الاختزالية توفيرا لوقتهم الثمين، وانتزاعك من هذا الإجراء دليلا لاستبقاء رسمنا العربي على ما هو عليه، فإن هذا من جانبك إقحام لموضوع على موضوع.
إن العقل الإنساني اليوم في طور من أطوار التنبه والاستيقاظ، تكثر فيه دور العلم ومخترعات العلم والمحاضرات التي تنشر العلم، كما تكثر فيه الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من مستلزمات الحضارة. وهذا من لوازمه تطلع الناس إلى أخبار كل تلك البيئات، فهم يتلهفون على معرفة ما يقال في المجالس النيابية أو في المحاضرات العلمية وغير العلمية. وبريد الأخبار الصحف، فهي تتبارى في هذا المضمار، كل صحيفة تحاول سبق غيرها في نشر مهم الأخبار، وفي أن يكون النشر كاملا، يحفزها إلى المحاولة أن حظها من ميل القراء ومن مالهم إنما يكون بمقدار سبقها إلى النشر وإلى توخي الكمال فيه. فإذا شهد محررو الصحف جلسة من مجلس العموم البريطاني أو من مجلس النواب الفرنسي مثلا، كان أسرعهم يدا في الكتابة هو الذي تفوز صحيفته بالسبق إلى النشر المستتبع للربح المادي وذيوع الصيت. لكن المحرر مهما يكن سريع حركات الأصابع فإنه لا يستطيع أن يكتب كل ما يقول الخطيب. وإذا كانت المجالس لا تخرج مضابط جلساتها إلا مستوفاة أو قريبة من الاستيفاء، فليس موظف واحد هو الذي يكتب، بل ثلة من الموظفين يتضافرون على كتابة كل خطبة أثناء إلقائها، وما يفوت البعض يكون في الأغلب لم يفت البعض الآخر. ثم هم من بعد يراجعون ويضاهئون فتتكامل لهم الخطب كما قيلت أو تكاد. وهذا هو الجاري عندنا الآن بمصر، لكن الصحف لا تستطيع أن ترسل عدة من المحررين لحضور كل مجلس أو لشهود كل محاضرة هامة في أحد النوادي أو في إحدى الجمعيات. فمست الضرورة إلى إيجاد وسيلة يختصر بها رسم الكتابة، حتى يستطيع المحرر الواحد متابعة الخطيب وضبط عباراته، فبحث الباحثون فاخترعوا الكتابة الاختزالية، فاستعملها محررو الصحف، بل موظفو المجالس النيابية أيضا، هي مجرد إشارات بسيطة تدل على كلمات أو مقاطع كلمات. والظاهر - كما تقول - أنه لا يمكن إتقانها ولا الركون إليها. والواقع المعلوم أيضا أنها لا تعرض على الجماهير، ويستحيل أن يلزم بها الجماهير. إنها شبه مفكرة وقتية، حياتها ساعة من نهار أو من ليل. لا تعيش إلا ريثما ينقلها المحرر لصحيفته أو الموظف إلى مضبطته بالرسم المعتاد ثم تطوى أو تمزق. والرسم المعتاد عندهم هو رسم لغتهم مستوفيا أصوله المقررة لديهم. ولم يحدث إلى الآن أن أمة من تلك الأمم المتحضرة عدلت عن رسمها المعتاد واتخذت رموز الاختزال لرسم كتابتها، بل كل صحفها وكتبها ومخطوطاتها هي برسمها ذلك المعتاد. فأنت يا سيدي إذ ترى لنا الاحتفاظ برسمنا الاختزالي لمجرد أن الإفرنج اخترعوا الاختزال، لا تراعي في رأيك هذا تماثل الأوضاع، إنك تسقط من حسابك أن لهم رسما معتادا مستوفيا مفهما، وأنهم لا زالوا ثابتين عليه. أما نحن فمحرومون من هذا الرسم المفهم. وتحذف من حسابك أن اختزالهم وضع استثنائي لا يتناوله إلا نزر يسير من مخبري الصحف وأمثالهم، وأنه وضع مؤقت قصير العمر يموت بطبعه بمجرد نقله إلى الرسم المفهوم المعتاد، ولا شأن له ألبتة بالجماهير؛ فاستدلالك في مقالك القيم بحكاية الاختزال
Sténographie
هو
لموضوع على موضوع ولا استدلال لك فيه. أفهم أن تقول إن علينا أن نعدل رسمنا الحاضر ليكون مفهما محققا لصحة الأداء كما هو الواجب، ومتى كان لنا بعد هذا التعديل رسم مستوف، اتخذناه في مخطوطاتنا ومطبوعاتنا العادية، ثم عمدنا إلى الرسم الحاضر فاختزلناه أكثر مما هو واتخذناه هو لاختزالنا السريع. أفهم هذا، وقد أوافقك عليه إن استطعت أن تحققه، أما أن تستبقي رسمنا الحاضر المضلل وتحتج بما اخترع الإفرنج من الاختزال، فاسمح لي أن أقول إنه مجرد كلام عائم لا يخرجنا من الضيق الذي نحن فيه. وإذ أقول لك: «قد أوافقك عليه إن استطعت أن تحققه» فإني لست عليك ولا على الحق بمفتات. إن المجمع قد تواردت إليه اقتراحات كثيرة لتيسير الرسم العربي، أمثلها أحد عشر ترى صور نماذجها من بعد ، وكلها رفضتها اللجنة المختصة، وغير باق تحت النظر سوى مشروع حضرة الجارم بك.
أما ما تراه من ضرورة تبسيط قواعد العربية فهذا موضوع قائم برأسه اشتغلت به وزارة المعارف المصرية وعينت له لجنة من كبار أساتذة العربية بمدارسها وبكلية الآداب بجامعة فؤاد. واشتغل به بعض أساتذة هذه الكلية وبعض المعلمين بمدارس الحكومة شغلا انفراديا. ولا زال موضوع عملهم قيد الفحص لدى اللجنة المختصة بالمجمع. ومن المأمول أن يتقرر فيه بعض الشيء ويعرض على المؤتمر في دورته المقبلة ليتصرف بما يراه. ولا أستطيع أن أبدي لك رأيي في الطريقة التي تريدها لتبسيط القواعد، فإن مسألة القواعد ليست كرسم الكتابة خارجة عن جوهر اللغة، بل هي مسألة دقيقة جدا لرجوعها إلى ما يتعلق بلب اللغة وجوهرها. وكل ما أستطيعه هو أن أعدك أني بعد انتهاء أشهر الصيف وعودة مجلس المجمع إلى الانعقاد، سأعمل على عرض فكرتك عليه منقولة بالحرف الواحد عن «المجلة». ومن الجائز كثيرا أن يحيلها المجلس على اللجنة المختصة المذكورة لبحثها مع غيرها مما هو محال عليها في هذا الشأن من الاقتراحات.
وإني يا سيدي لأشكر لك جزيل الشكر ما أظهرت من الغيرة على لغتنا العربية، وما حاججت بكل فطنة ورجولة ونزاهة واتزان.
الثالث والعشرون:
إلى حضرة الأستاذ يوسف العش:
شد الله في ميدان الأدب أزرك، وأكثر من أمثالك الغير على العربية، المنقبين في مراقدها لإيقاظها من غفوتها، ووقاك في عملك الزلل، وجنبك فيه العثار. تحية يعجلني إليها ما استفتحت به مقالك المنشور في مجلة «الثقافة» من تلك العبارة المنصفة التي تقنع مخالفيك باستقامة ضميرك، وتشعرهم الأمنة وعدم التثريب عليهم في محاجتك، مهما يفيضوا في التقرير والإيضاح.
أما بعد، فإنك في المشكلة القائم فيها الخلاف، قد استصرخت علي «العلم» و«الفن»، وأشرت إلى أنك لن تستنصر إلا بهما، ولن تعول في محاجتك إلا عليهما، حتى إذا ما قضيا علي كان قضاؤهما حاسما لا تعقيب لي ولا لغيري عليه.
إنك بهذا التحكيم قد أزعجتني حقا؛ فإني متى ذكر «العلم» ضممت إلي ما اتسع من ثيابي، وتكمشت وتراجعت أمام هذا اللفظ الرهيب، محسا كأني حصاة ملح تذوب؛ ذلك أني عالجت شيئا من العلم في منحي ليس هو مراد العلم الصحيح، بل هو شيء قريب من واديه. وكلما أوغلت ازددت يقينا بعجزي وإيمانا بقوله تعالى:
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا
فأنا يا سيدي لا أخشى أحدا في هذا الوجود إلا العلم والعلماء، ولا أدين بعد عزة واجب الوجود إلا بعزة العلم والعلماء، ولا أنصاع وألقي سلاحي إلا أمام كلمة العلم والعلماء. إذا علمت هذه الحقيقة أدركت أني - عقب تلاوة عبارتك تلك - هلعت وظللت خائفا أترقب، وكدت أقضم الجزء الأول من مقالك قضما، وألتهمه التهاما. ثم انتظرت أسبوعا مشفقا قلقا حتى ظهر الثاني، وأسبوعا آخر على مثل الشوك حتى ظهر الثالث. بحثت ثلاثتها وفحصتها وفليتها، وأكلتها وشربتها؛ لعلي أشعر في شيء منها بأثر للعلم الذي أشرت إليه، في المشكلة القائم فيها الخلاف، فأستكين وأخضع صاغرا، ولكني مع الدهشة الشديدة، أو الاستفاقة الباسمة، لم أجد لهذا العلم في أيها أثرا، لا مرهفا قاطعا ولا مثلوما غير قاطع، فخرجت موقنا بأن حبك للعربية، وامتلاء عواطفك بجمال رسمها الحالي، وخوفك انقطاع الصلة بين حديثنا والقديم، كل تلك الطبائع المحمودة في ذاتها قد استجمعت لك على أشد ما تكون، فحرفت نظرك، فخلت قيام علم حيث لا علم. وأنا وغيري يصدق علينا دائما قولهم: «حبك الشيء ...»
إي وربي، إنه ليلوح لي أنك لولا تحكم تلك الطبائع الجميلة فيك لقررت بكل بساطة أن الكلام ما دام في رسم الكتابة وضرورة تصوير نغمات الألفاظ واتجاهاتها - على ما ينطق به أهلها - تصويرا دقيقا، يستعان فيه إما بإشارات «الشكل» المعروفة أو غيرها، وإما بحروف للحركات، لاتينية أو غير لاتينية، فإن العلم لا دخل له في شيء من هذا، بل إن جرجرته إلى مثل هذا الميدان تنزله من عرشه وتسقط هيبته.
أنت وأنا نذهب إلى السوق لنشتري سريرا لطفل، أو كرسيا لمريض كسيح، أو ثوبا لرجل أو لسيدة، فلو أنا - في أي ما أردنا من هذا - توقفنا حتى يقول العلم والعلماء، لضاقت علينا الأرض بما رحبت، ولكفرنا بالعلم والعلماء. إنما نحن في كل هذا نعتمد على البديهيات الحاصلة لنا بغريزتنا الإنسانية، وبما تكيفت وتربت به ملكة الحكم عندنا من المشاهدات والمقارنات. فنحن لا نتخير للطفل إلا سريرا صغيرا يكون على قدر مدته، ويستحيل علينا - عادة - أن نختار له شيئا من أسرة الكبار. والكرسي ما دام لكسيح فإننا لا نختاره إلا مما يجري على عجلات، ويكون مناسبا لقد المريض وقعدته وضجعته، موفيا براحة جسمه. والثوب لا نتخيره إلا مما اعتاد الرجال لبسه إن كان لرجل، وإلا فمما اعتادته النساء. وكل هذه أمور لا شأن للعلم بها، بل هي من الضروريات المسلمات.
لست أعارضك ألبتة في أن «للفن» دخلا في هذه الأشياء؛ فإنها جميعا تتفاضل بجودة صنعها وعدم جودته، وجودة الصنع ورداءته من متعلقات «الفن»، وعلى حسبهما تغلو تلك الأشياء أو ترخص عند التقويم. أما «العلم» فميدانه ميدان آخر، إنه ينقب عن المجهول من الحقائق فيكشفه ويضع له ما يصل إليه من القوانين الكلية المجردة. ومشكلتنا إن رجعت إلى شيء فلا ترجع إلا لمجرد الفن التنفيذي. والفن إن لم يرض السمع والبصر وباقي الجوارح، وميول النفس وفضيلة الإتقان ويلائمها، كان فنا رديئا.
على أني، مع احترامي لشخصك وتقديري لعملك ولكمال إخلاصك فيه، مناقش عباراتك في ذلك الجزء الأول، كما سأناقش أقوالك فيما بعده.
إنك بعد أن استرهبتني بتحكيم دلائل العلم، بدأت الكلام في الموضوع، فحصرته إجمالا في أربع مسائل؛ الأولى: النظر في الحروف اللاتينية هل هي صالحة كل الصلاح؟ والثانية: إن لم تكن كذلك، فهل هي أصلح من الحروف العربية؟ والثالثة:
والرابعة: هل في الإمكان درء نقص الحركات دون الالتجاء إلى الحروف اللاتينية؟
فعن المسألة الأولى تفضلت فقلت:
أولا:
إننا، نحن الشرقيين المفرطين في الإعجاب بوسائل الغرب، إذا نظرنا في صلاح الحروف اللاتينية بذاتها وبأصلها، فقد يخيل إلينا أن هذا الصلاح أمر لا يقبل الجدل.
وثانيا:
لكن الحروف اللاتيني يأبى إلا أن يقر بضعفه. وهنا أوردت تأييدا لنظرك أقوالا لبعض الاختصاصيين من الأوروبيين ينعون فيها عوار حروفهم لتعقد أشكالها وعدم وضوحها وصعوبة قراءتها، ويقولون: «إن الساعة أزفت لقطع الصلة فيها مع الماضي.» ثم استدركت على هذا بقول لأحد هؤلاء الاختصاصيين يهيب بقومه «أن لا يغرقوا في الاعتراض على خطهم اللاتيني، وفي طلب الابتعاد عنه.»
وثالثا:
إن تلك الحروف لو كانت - مع تعقد شكلها وإتعابها النظر - تؤدي الأصوات كما يجب أن تؤدى، فتعوض بحسن التأدية ما تضيعه برداءة شكلها، لهان. ولكنه ليس من الصحيح أنها تقوم بهذا الغرض كما يظن، بل إن أهلها عابوا قصورها في هذا الصدد أيضا، وحاولوا أن يستبدلوا بها حروفا أخرى، فتشعبت بهم المسالك، ولم يستقر رأيهم على شيء.
ذلك حاصل ما أوردت في المسألة الأولى. وإليك ردي أجريته على ترتيب قولك فقرة فقرة:
أولا: (1) ما أظنك جادا حق الجد في حكمك على الشرقيين بإفراطهم في الإعجاب بوسائل الغرب، ذلك الحكم العام المطلق الذي لا مثنوية فيه. ولعل هذه الفكرة نتيجة استقراء لأحوال أناس تعرفهم أنت يا سيدي، ولكنه استقراء ناقص. وأنت - كما توسمته فيك - من خير من يعرفون أن التعميم لا يجوز إلا بعد الاستقراء التام. أما الناقص فحرام على فاعله التعميم، إنك لو قرأت للأستاذ محمد أديب العامري العماني مقاله «تطور الأساليب الفكرية»، المنشورة في «الثقافة» بالصحائف السابقة مباشرة للجزء الأول من اعتراضك المجود، لكنت من سابق تحصيلك وواسع إحاطتك على ذكر، ولوافقتني فيما أقول. (2) على أني لست أتعرض لحكمك هذا إلا تذكيرا بمقررات العلم الذي تجهد أنت - بحق - في إكباره واللجوء في الشدة إليه. أما فيما يتعلق بشخصي فإنه حكم لا يمسني في كثير ولا قليل؛ لأن خطئي وحده - لا خطأ الناس - هو الذي يحيق بي أثره وتلزمني مغبته، وفوق هذا فقد جاملتني بما أوردت في صدر بيانك من أن المساجلة فيما نحن فيه إنما «هي نضال شريف» يسعى فيه كل فريق لتحقيق الخير لأهل العربية . فهذه المجاملة - التي لا أشك في أنك تقصد معنى عبارتها على وجه الحقيقة التي لا مجاز فيها ولا منفذ للتأويل، والتي شكرتك وأكرر لك الشكر عليها - تخرجني من هذا الحكم الذي تسرعت فيه بالتعميم المسور بأمتن الأسوار، وتبيح لي الاقتناع بأنه ليس سوى «سبقة» من سبقات القلم الذي كثيرا ما يفجأ القلب بالشرود؛ لأنه شظية من حديد لا عقل لها. (3) على أنه إذا راقك أن تعرف دخيلة أمري كيما تستعين بها مستقبلا في استقراءاتك، فاعلم - وفقك الله وإياي - أني داخل في تعميمك، ولكن بقيد له من حديد، كريشتك الحديد، قيد مبهم أصم أكمه، لا يسمع ولا يبصر، ولا تستطيع أنت ولا غيرك له فكا، ولا لي من أزمته فكاكا. أو أني - على الأصح - خارج عن التعميم بهذا القيد المصمت المكباح، ذلك هو قيد العقل. فما يراه عقلي من مناحي الغرب حسنا فإني صائر إليه جهدي، ما دام لا يمس كرامتي وكرامة قومي. وما يراه منها قبيحا فإني أخسؤه عني ما وسعت طاقتي.
ثانيا: (1) ليكن الحرف اللاتيني معيبا في شكله وعدم وضوحه وصعوبة قراءته، ولتكن أقوال الأوروبيين متضاربة في هذا الصدد - كما رويت - أو غير متضاربة، فأين هو العلم أو دلائل العلم الموصلة لإدراك ما به من هذه العيوب؟ إن الحرف رسم اصطلاحي يدرك بالنظر، فإن كان مرتبك الصورة غير واضحها، فنظر مستعمليه كاف وحده للفصل في هذا الخصوص. والنظر حاسة مشتركة بين جميع القارئين، علماء مبرزين أو أناسا عاديين غير مثقفين. وإذن فلتستبعد من هذه المناقشة عبارة «دلائل العلم» ولتمحها بالقلم العريض؛ فإن إقحامها هنا تجاوز وظلم عظيم.
أليس كل ما في الأمر أن المشتغلين من الفرنجة بهذا الموضوع راقبوا الواقع فدونوه وشكوا منه وسعوا في إزالة ضرره، ولكن - كما تقول - لم يصلوا للآن إلى وضع مرض يقع عليه الإجماع؟ ومن ذا الذي يزعم أن تقرير الواقع والشكوى منه يسمى «علما» أو «دلائل علم»؟ إننا في مصر نشكو من زمن طويل من قصور رسم العربية، ونسعى في إزالة ضرره. فأي هو العلم أو دلائل العلم في تقرير هذا الواقع عندنا وفي الشكوى منه؟ لو ادعينا في مصر شيئا من هذا لكان إيهاما باطلا، ومجازفة كبرى تعمي معنى العلم وتضلل فيه الناس. لو ادعينا لكانت مكاتب الضابطة (البوليس) والنيابة العامة، وأقلام كتاب المحاكم، مملوءة بالعلم ودلائل العلم؛ لأنها غاصة ببلاغات وعرائض دعاوى تقرر الواقع - أو ما هو مزعوم أنه الواقع - وتشكو منه لذوي السلطان! (2) إن استدلالك مع خروج كل عناصره عن وادي العلم، ورجوعه إلى استطاعة كل القارئين من الأوروبيين، قد جعلتك أمانتك في النقل تأتي فيه بالرأي وبضده - تلك الأمانة التي أوقن بها، ولا أجد أقل داع أو ثمرة للمراجعة فيها - وأنت عليم بأن لقارئيك الحق في أن يأخذوا بظاهر قولك فيردوه عليك، وليس لك أن تكلفهم الترجيح. وكيف يستطيعونه، وأولئك العلماء الأوروبيون أنفسهم - مع علمهم طبعا بالدليل التفصيلي لمن يدعي ولمن يمنع - لم يستطيعوا للآن - كما تقول - الاتفاق على ترجيح شيء بعينه من جهة حسن شكل حروفهم ووضوحها، أو قبحه وتعقدها؟ (3) وأرجو سيدي أن يلاحظ أني هنا لا أبدي رأيي الشخصي، بل كل الذي أريد توضيحه هو أنك في هذه النقطة لم تثبت شيئا، لا بدلائل العلم التي تستنصرها وتسترهبني بها، ولا بغير دلائل العلم. كل الذي أثبته ينحصر في رواية عن بعض الأوروبيين أنهم ضجوا بالشكوى من تعقد شكل حروفهم وصعوبة قراءتها، وأن البعض امتعض من هذه الشكوى. (4) على أني أترك هذه النقطة مؤقتا وسأعود إليها بعد حين، إنما أرجو أن تسمح لي هنا بإبداء فكرة، إذا كانت ليست في الموضوع تماما، فإنها متصلة به شديد الاتصال:
إن العلة لتلك الشكوى - على ما أفهمه أنا، ولا أظنه لا يخفى عليك - هي أنهم في علمهم وفنهم - لا في كثير من عاداتهم وأخلاقهم وأكاذيبهم في مناحي سياستهم وتغريراتهم فيها بالناس - قد بلغوا درجة عالية من الشعور بكل دقيق وجليل من الشئون التي تيسر لهم سبل الحياة والاستمتاع بها، مما أحسدهم أنا وأنت عليه، ولا أستطيع أنا ولا أنت ادعاءه لأنفسنا في الوقت الحاضر. فإحساسهم اليوم بتعقد حروفهم من جهة شكلها، إنما هو وليد ذلك الرقي في الشعور. والفكر الإنساني حول ولاد، لا يقف عند حد في الطماح، بل يحكم على نفسه بنقص وسائله كلما رقي وتقدمت به الأحوال. ألسنا نحن العرب - عقب ظهور الإسلام وإبان ازدهار حضارته - ضججنا من رسم كتابتنا فأصلحناه بطرق مختلفة من الشكل، ومن قبل الشكل بالتنقيط؟ وهذا المعنى، معنى طموح الإنسان أو تنقله من وضع في وسائله إلى وضع آخر أكثر ملاءمة له وصلاحية، هو العلة لكل ضجيج وتغيير أو جنوح للتغيير. ولازم هذا المعنى الراجع إلى الطبيعة البشرية، أن الكمال في الأعمال الإنسانية مستحيل، أو كما قال المهدي العباسي:
لا شيء في هذه الدنيا يحاط به
إلا إحاطة منقوص بمنقوص
وليلاحظ أن كل ما سبق راجع إلى شكل الحروف اللاتينية لا إلى نغماتها الآتي عنها الكلام.
ثالثا: (1) تقول إن
لمن يستعملونها ما لألفاظ لغاتهم من الأصوات؛ أي من النغمات واتجاهاتها. وقولك هذا في جملته حق لا ريب فيه ولا جدال. ولا حاجة في تعرف صوابه لشيء من العلم ولا دلائله؛ إذ كل ملم بمبادئ لغتين أو أكثر من اللغات الأوروبية يدركه تمام الإدراك. (2) والعلة في عدم وفاء حروفهم بذلك الغرض الهام أنها - كما لا يغيب عن سيدي - بحسب أصلها القديم كانت متخذة لرسم لغة واحدة بعينها، لكنها صارت بالزمان متخذة لرسم لغات متعددة، حتى من اللغات البعيدة الأصل عن اللاتينية أو اليونانية.
9
فهذه اللغات إذا اشتركت في النغمات السهلة المخرج كنغمة الألف الممدودة والباء والتاء والدال والراء والزاي الخفيفة والسين والشين المفشوشة والفاء والكاف والميم والنون والهاء والواو والياء والهمزة العارضة عند الابتداء بمتحرك، فإن كلا منها - فيما عدا مثل هذا السهل المشترك - لها نغمات خاصة بها، كنغمتي الذال والثاء في الإنجليزية، والخاء في الألمانية، والشين المكزوزة التي ينطق بها كمزيج من تاء وشين في الإنجليزية والطليانية، وكنغمة «نيه
gn » في الفرنسية. وهذه النغمات الخاصة وأمثالها تؤدى بمركبات اصطلاحية يختلف النطق بها بين لغة وأخرى، ولا يستطيع أداءها إلا ابن اللغة أو متعلمها. بل إن نغمة الشين المفشوشة السهلة تؤدى هي أيضا في الفرنسية والطليانية والألمانية بمركبات اصطلاحية مختلفة. ونغمة الواو تؤدى في الإنجليزية بحرف وفي الفرنسية بمركب. والحرف الواحد بعينه قد تختلف نغمته من لغة لأخرى؛ كحرف
j
الذي يؤدي في الفرنسية نغمة جيم غير معطشة، وفي الألمانية والطليانية نغمة ياء. وبعض الحروف لا ينطق به أو قد ينطق به على خلاف أصل القياس؛ فحرفا
gh
في الإنجليزية مثلا قد يهملان في النطق، وقد يؤديان نغمة الفاء.
هذا القصور في تأدية النغمات بحروف مفردة، وهذا التخالف فيها، واضح في رسم تلك اللغات. ثم هو واضح وضوحا تاما في أحرف الحركات التي توجه النغمات التوجيه الذي تقتضيه ألفاظ كل لغة. فهناك الضم والفتح والكسر، مع المد في كل، ثم الإمالات بدرجات مختلفة، مع تخالف الحروف بعينها في الحركة الواحدة بين بعض اللغات وبعض، بل في اللغة الواحدة بعينها.
تلك حقائق لا شك فيها، ولكني أدركها أنا وأنت وغيرنا بلا حاجة لدلائل العلم التي تقحمها هنا. ثم هي راجعة، لا إلى الأشكال والصور من حيث حسن تخطيطها ووضوحه أو قبحه وخفاؤه، بل إلى صميم الدلالة على نغمات اللغات وجوهر جرسها، واتجاهاته المختلفة. (3) ولعل هذه الحقائق هي التي تقلق بال الاختصاصيين الأوروبيين، بل قد لا أرتاب في أنها - دون الصور والأشكال - هي الدافع الأول لمن ينعون منهم رسم كتابتهم ويطلبون تحسينه. أما الصور فهي دافع ثانوي قليل الأهمية؛ لأنها ليست في الصميم. وأهم ما فيها تلك المركبات الحرفية التي يدرك النظر المجرد الإسراف فيها، بلا حاجة للعلم ولا لدلائله.
وهذا الدافع الأول الذي أقول عنه لا يحتاج في إدراك صدقه وأوليته لشيء من العلم، بل يكفي فيه أن نتذكر أن الحضارة في العصر الحاضر، وفي القرون الثلاثة الماضية، تركزت في الأمم التي تكتب بالأحرف اللاتينية، واستقر العلم في ربوعها. والعلم نور يعشو إلى ضوئه كل سار، بل إن سناه ثقاب نفاذ ، يدرك الساري والمضحي أينما كانا، ويتحبب إليهما ويبهرهما بجماله. وتلك الأمم
10
تعيش كلها متجاورة الديار في صعيد واحد، أو هي مخلقة أصلا في صعيد واحد؛ فالتواصل العلمي بينها على أشده، ولغاتها هي الوسيلة، فإن تخالفت رموز كتاباتها، أو ارتبكت بتركبها أو بتعددها للنغمة الواحدة أو بأداء الرمز الواحد منها عدة نغمات، كان ذلك قذى في أعين طالبيها من مستفيدي العلم ومفيديه، وشوكا في الطريق يزيد مشقتهم في تحصيلها ويعوقهم عن التقارض والاستكمال.
11 (4) على أني مع تقريري - بشيء من التفصيل - لهذه الحقيقة التي أشرت إليها، وتقريري لعلتها بحسب ما أفهم، فإني أسارع إلى لفت نظر سيدي إلى أن أهل كل لغة من تلك اللغات الأوروبية هم - بفضل حروف الحركة - لا يخطئون - عند القراءة - النطق بالمكتوب من عبارات لغتهم وفقا لما يلفظونه في الكلام غير المكتوب. فالألمان والطليان - مثلا - لا يمكن أن يخطئوا؛ لأن النغمات عندهم مقررة وجارية دائما على قياس معلوم. وليس عندهم - على ما أعلم - حروف نغمات، أو مركبات نغمية لا ينطبق بها. والفرنسيون - مثلا - إذا كان عندهم حروف نغمات لا ينطق بها، أو مركبات حرفية تؤدي نغمات خاصة، فإن لها أيضا قواعد كلية معينة، متى عرفها الطفل - أو غير الطفل - استحال عليه أن ينطق على خلاف موجبها. والإنجليزية إذا كان فيها مركبات للنغمات، فمعظمها داخل تحت قاعدة كلية مثل
sh, ch . والمركبات التي لا ينطق بها، أو ينطق بها أحيانا بنغمة بعيدة عن جزءي المركب - مثل
gh
التي قد تهمل وقد ينطق بها فاء، ومثل
th
التي تؤدي حينا نغمة الثاء وحينا نغمة الذال - هي في الأغلب محصورة، سهل على ابن اللغة أو متعلمها حفظها وتذكرها. ومثلها حروف الحركات، وما توجهه حروف النغمة الجوهرية من التوجيهات المختلفة.
12 (5) إذا كان هذا هو الواقع - وأنت يا سيدي تعرفه بلا ريب - فأظن أن من لوازمه أن تسلم معي بأننا في رسم لغتنا مظلومون ظلما مبينا؛ لأن في العربية (80000) ثمانين ألف أصل - كما يقولون - كلها حروف نغمات جوهرية خالية عما يوجهها من حروف للحركات. وقابلة - هي وما قد يشتق منها - لمختلف التصحيفات. ومستحيل على أي متعلم منا - كما كررت هذا مرارا، وكما تعرفه أنت وغيرك - أن ينطق بها لأول وهلة على الوجه المراد أصلا لكاتبها الفصيح، مهما تكن رسوم حروفها مكتوبة بقلم الثلث العريض وواضحة كل الوضوح. بل كثيرا ما يستغلق عليه النطق بها على الوجه الصحيح، استغلاقا ميئسا لا رجاء فيه.
عن المسألة الثانية تقول:
أولا: «إن شكل الحروف العربية أبسط من شكل اللاتينية.» وتأتي بأشكال حروف النغمات المشتركة بين العربية واللاتينية فتجرى بينها مقارنة تريد الاستدلال بها على أن شكل العربية أبسط.
ثانيا:
تقول: «ولا تعجب من هذا؛ فليس مجرد اتفاق، إنما بساطة الصورة في الخط العربي أمر مقصود.» وتورد أن أهل الصناعة قالوا: «إن أصل جميع هذه الحروف الخط المستقيم الذي هو قطر الدائرة، والخط المقوس الذي هو بعض الدائرة ...» وتوضح أنت عبارتهم فتقول: «إنهم ابتدءوا بأبسط الأشكال الذي هو الخط المستقيم، ثم نوعوه بنسبة متناسبة متقاربة، فاستخرجوا منه ومن القوس كل الحروف بمقادير وصور قليلة.» ثم تروي عن القلقشندي أنه قال: «وفرقوا بين بعض الحروف بالنقطات وقصدوا بذلك تقليل الصور للاختصار؛ لأن ذلك أخف من أن يجعل لكل حرف صورة فتكثر الصور.» وأنه قال: «ترجع صور الحروف إلى خمس صورة؛ وهي: الألف والجيم والراء والنون والميم.»
ثالثا:
تقول: «إنه يظهر أنهم عنوا ببساطة الحروف فعمدوا إلى تخفيف الصور؛ لأن كثرة الصور داعية لتداخل الحروف، مما يؤدي إلى التعقيد، وهو ما وقع بالحروف اللاتينية التي تعقدت أشكالها وصورها، فاختلف بعضها عن بعض اختلافا بينا.»
رابعا:
تقول ما حاصله أن الإنسان عند القراءة يميز الألفاظ بصورها الكلية لا بأجزائها وحروفها، وتستدل لهذا بقول أحد العلماء الأوروبيين: «لقد علمنا من تحليل القراءة في آلة «التاشيستوسقوب» أننا في الواقع نعتمد في القراءة السريعة على إدراك صورة الكلمة في مجموعها.» ثم بقول عالمين آخرين يذكران هذا ويقولان: «إن عرض الحروف وارتفاعها لهما أهمية عظمى في معرفتها حين القراءة.» ثم ترتب على هذا ما حاصله أن صور الألفاظ المكتوبة بالعربية أوضح وأسهل في الإدراك؛ وذلك لكثرة ما يعلو من حروفها عن السطر وما يسفل، وأنها - بتعبير علمي (كذا) - تعطي لكل كلمة شخصية خاصة حتى تبدو شكلا لا شبيه له. ثم تضيف أن التجربة بين كتابتين من مقياس واحد في صحيفة واحدة، إحداهما باللاتينية والأخرى بالعربية، دالة على أن القارئ إذا ابتعد عنهما خفيت اللاتينية أولا، وبقيت العربية واضحة مشرقة.
خامسا:
تقول من بعد ما حاصله أن خمسة وثلاثين في المائة من طلبة المدارس العالية في فرنسا قصيرو النظر؛ بسبب انكبابهم على قراءة الحروف اللاتينية، وأن تعقد الحروف وعدم وضوحها يصد النفس عن القراءة، وأنه من أجل هذا يحاول الإفرنج إصلاحها.
سادسا:
تنتهي من كل ذلك إلى أن أصلح ما يؤدي النغمات العربية إنما هو الحروف العربية.
وإلى سيدي ردي على ما أثاره في هذه المسألة الثانية، جاريا أيضا على ترتيب أجزائها.
أولا: (1) إن السيد قارن بين ستة عشر حرفا مفردا من اللاتينية، وبين ما يقول إنه مقابلها في العربية، وهاكها:
b
t
g
h
z
s
f
k
q
i
n
ب
ت
ج
ح
ز
س
ف
ق
ك
ل
ن
ولقد يرى غير السيد بكل إخلاص، أن الأحد عشر حرفا اللاتينية إن لم تكن أبسط من التي جعلها السيد مقابلة لها في العربية، فليست أقل منها بساطة، متى لوحظت المستقيمات والمنحنيات في كل، ووجود النقط في العربية دون اللاتينية. ثم إن مما لم يذكره من حروف النغمات المشتركة حرف
y
اللاتيني ومقابله في العربية «ي»، وقد لا يشك الرائي أن اللاتيني أبسط. ومما لا مقابل له في العربية حروف:
v, p, i, c ، وهي أيضا في غاية البساطة. وهذه المقارنات يستطيعها كل قارئ عربي يعرف لغة أوروبية، غير محتاج في حكمه لشيء من العلم ولا دلائله. (2) ولقد يخيل إلي أن السيد سها إذ اتخذ حروف الطباعة المفردة أساسا للمقارنة، ولو أنه اعتمد على الحروف العربية، حالة في بنية الكلمات وقارنها باللاتينية، حالة في بنيتها، لما خالفه أحد في أن العربية أوجز وأبسط. لكن لا أيسر ولا أوضح، لا في المطبوعات ولا في المخطوطات ؛ لأن الشكل المفرد لغالبها يأخذ ثلاثة أشكال أخرى، بخلاف اللاتينية التي تبقى هي هي على الدوام والاستمرار. والعقل يقضي بأن الحرف الباقي أبدا على حال واحدة أوضح من المتقلب بين أربعة أشكال. ومن أراد التحقق بالتجربة فلا حاجة به إلى العلم ولا إلى العلماء، بل ليذهب إلى صفافي الحروف بالمطابع العربية، ليعلم أنهم من هذه الناحية كثيرو الأخطاء، بل ليسأل أي أوروبي يتعلم العربية، حتى يعلم أن من الصعوبات التي يكابدها تعرف أشكال الحروف حالة في بنية الكلمات؛ وذلك لتعدد صور الواحد منها - دع خفاء حركاتها مما هو عليه مصيبة أشق وأفظع - بخلاف العربي الذي يتعلم لغة أوروبية، فإنه لا يخطئ مطلقا في معرفة أي حرف في كلماتها لتوحد شكلها وبقائه على حال واحدة على الدوام. بل ليسأل أي معلم من معلمي الأطفال ليستيقن أن من أشق ما يكون على الطفل انتقاله بعد تعلمه الحروف المفردة، إلى طور تعلم الحروف متصلا بعضها ببعض في الكلمات.
ثانيا:
تقول: إن بساطة صور الحروف في الخط العربي ليست مجرد اتفاق، بل هي أمر مقصود.
وهذه قضية إن كان السيد يريد بها أن البساطة مقصودة عند وضع الأولين للخط العربي (كما هو ظاهر عبارته)، فإني أرجوه المعذرة إذا قلت له: كيف تسمح لنفسك أن تقررها؟ هل كنت حاضر النبطيين حوالي ميلاد المسيح فأخذت عنهم أن من نيتهم وضع رسم للغتهم العربية، ومن مقصودهم أن يكون بسيطا؟ وإن كانت أقوال القلقشندي وغير القلقشندي من كتاب العربية قد ورد فيها ما يفيد هذا، فاعتمدت في تلك القضية عليه، فإني أرجوك أن تعفي نفسك من أقوال المتقدمين والمتأخرين من كتاب العربية في هذا الخصوص. إنهم ما كانوا يعرفون من هو واضع الخط العربي، بل تخبطوا في الافتراضات والاستنتاجات تخبطا شديدا؛ فمن قائل إنه توقيفي من عهد آدم، ومن قائل إن واضعه نبي الله إدريس، وقائل إنه متلقى عن كاتب الوحي لنبي الله هود. ومن قائل إن أصله مقتطع من المسند الحميري. وما هم إلا المستشرقون من الإفرنج ، بحثوا ونقبوا في القرن التاسع عشر الماضي فقط، ثم دلونا على أن الخط العربي من وضع النبطيين، اشتقوه من الآرامية، وسرى منهم إلى أهل الحجاز وغيرهم من عرب الجاهلية. وهذا - كما قلت في موضع آخر - هو المعتمد الآن في جامعة فؤاد الأول.
وإذا اطلعت على كتاب أصل الخط العربي للأستاذ خليل يحيى نامق (من علماء كلية الآداب بهذه الجامعة)، لعلمت أن ما نقلته عن القلقشندي وهو: «إنهم فرقوا بين بعض الحروف بالنقط، وقصدوا بذلك تقليل الصور للاختصار؛ لأن ذلك أخف من أن يجعل لكل حرف صورة فتكثر الصور». ذلك القول الموهم أن الواضعين الأولين للخط العربي هم الذين فعلوا هذا، إنما هو قول بعيد عن الصواب - إن كان مرادا به هذا المعنى المتوهم من لفظه - لأن الذي أثبته أولئك المستشرقون، اعتمادا على النقوش الحسية، ودونه الأستاذ نامق، هو أن النبطيين لم يضعوا شيئا من النقط في حروف الكتابة، لا هم ولا من سرى إليهم خطهم من عرب الجاهلية. وكيف تعتبره صوابا وتبني عليه قضيتك تلك، مع استفاضة العلم عند المسلمين كافة، بأن صحف النبي التي دونت بها آيات القرآن، لم يكن في شيء منها أي نقط للحروف، ومثلها في عدم النقط مصاحف عثمان بن عفان التي نسخها من تلك الصحف وبعث بها للأقطار الإسلامية، وأن تنقيط القرآن لم يحدث إلا على يد الحجاج بن يوسف في خلافة عبد الملك بن مروان؟ فالعرب الأولون - من نبطيين وجاهليين - لم يكن عندهم إلا حرف واحد للباء والتاء والثاء والنون، وحرف واحد للجيم والحاء والخاء، وواحد للدال والذال، وواحد للراء والزاي، وواحد للسين والشين، وواحد للصاد والضاد، وواحد للطاء والظاء، وواحد للعين والغين. وإذا سألتني كيف كانوا يفرقون بين الحروف المشتركة عند القراءة؟ فالجواب ميسور عتيد: إنهم كانوا يفرقون بينها كما كان أصحاب النبي وكل المسلمين من بعده يفرقون بينها في القرآن مدة ثمانين سنة من تاريخ الهجرة إلى خلافة عبد الملك بن مروان.
على أن وجه الاعتراض بكيف كان يحصل التفريق بين الحروف هو - بالإضافة إلى مدة الإسلام - أشد وأقوى أضعافا منه بالإضافة إلى ما قبل الإسلام؛ لأنه شتان ما بين الزمنين وبين الحضارتين وبين ضرورتي التفريق. مهما كان النبطيون قوما أشداء، ومهما كانت لهم مملكة قامت من سنة 169 قبل المسيح في الجزء الشمالي من جزيرة العرب جنوبي فلسطين والشام، واستمرت إلى أن أزالها الرومان في سنة 106 بعد المسيح، ومهما كانوا - كما يقول مؤرخو الفرنجة - قد أغاروا على الشام واستولوا على دمشق عاصمتها، مهما يكن من حالهم هذا، فإنهم لم يكونوا كاليونان أو الرومان أو الفرس أو المصريين، أهل علم أو صناعة راقية حتى يغروا بالكتابة فيتقنوها ويتخذوا لها أدواتها. ومهما يكونوا قد تحضروا بعد التبدي، فإن تحضرهم لا بد كان كتحضر قريش في مكة، والأوس والخزرج في المدينة. وهم ومن سرى إليهم خطهم من أهل الحجاز هؤلاء وغيرهم من الجاهليين مهما كانوا في جملتهم أشداء أباة ضيم، فإنهم كانوا في جملتهم أيضا نقلة تجارة أو أصحاب إبل وشاء، رحلا نزلا، يجذبهم الغيث ويشردهم الجدب. وكان أدبهم ينحصر في المفاخرة بالأنساب، والتغني بما قام بينهم قديما وحديثا من وقائع القتال وصنوف الغارات، وبفضائل الشجاعة والكرم وإجارة اللائذين المستجيرين، وفي وصف الظواهر الطبيعية من سحاب وبرق ورعد وأمطار، وما نزلوه أو غادروه من منازل وديار، وفي التشبيب والنسيب، وفي وصف أسفارهم ومطاياهم، وما شاكل هذا. وخير هذا الأدب جوامع الكلم الخوالد التي تحمل الحكم والأمثال، مما هو نتاج التجاريب وزبدة فلسفة الحياة. وإذ كانت كتابتهم بدائية صرفة، وكانت الرقاع الصالحة لا وجود لها، بل كانت صحفهم - على ما يلوح - هي الحجارة الرقيقة وعظام أكتاف الحيوان وسعف النخل وقطع الخزف أو الجلد (كما كانت في مبدأ الإسلام)، وهي جميعا من شر الرقاع؛ إذ كان ذلك فقد أهملت تلك الكتابة طبعا وقل اهتمامهم بتكميل نواقصها وتحسينها، واضطروا لتخليد آثارهم وعواطفهم في تلك المناحي إلى اتخاذ أيسر طريق لهذا الغرض: الشعر. والشعر غناء موزون، عذب مألوف، يحلو تكراره فيسهل وعيه واستذكاره. كان شعرهم يفي لهم بتلك الأغراض ، ويغنيهم عن الكتابة والتدوين، وعن تعنية أنفسهم بتكميل صور حروف النغمات التي سرت إليهم من النبطيين أبناء جنسهم، وإزالة اشتراك كثير منها بين جملة من هذه النغمات. ولقد استمروا هكذا حتى أتى الإسلام فجرى على خطتهم شوطا طويلا، مع اختلاف العهدين والحضارتين - كما أسلفت - ومع فتح فارس والشام ومصر وغيرها، واتساع رقعة ما دخل تحت حكمه من البلاد.
وإذا سألتني: كيف كان النبطيون يدونون أعمالهم وقت قيام مملكتهم واستيلائهم على دمشق؟ فالجواب أيضا ميسور عتيد؛ كانوا يدونونها حتما بالرومية (اليونانية أو الرومانية) كما كانت دواوين المسلمين إلى عهد عبد الملك بن مروان يكتب فيها بالفارسية والرومية والقبطية.
وإذن فإني أرجوك يا سيدي أن تعدل عن قضيتك تلك، سواء أكانت من عندياتك أم كنت انتزعتها مما رويته عن القلقشندي، أو من أقوال اطلعت أنت عليها لغيره من العلماء. (3) أما إن كانت تلك القضية هي - على الرغم من ظاهر عبارتك وظاهر العبارة التي نقلتها عن القلقشندي - مجرد تقرير انتزعته من الواقع الآن في الخط العربي، أو انتزعه القلقشندي من الواقع فيه في عهده، فأنت وكل كاتب يقظ، بل حتى مثلي في قلة يقظته، كلنا نستطيع بمجرد مشاهدة الخط العربي الراهن، أن نقول إن حروفه المفردة مكونة من خطوط مستقيمات طويلات أو قصيرات، ومن أقواس منحنيات، تتناسب مع المستقيمات، وإن كثيرا من حروفه متشابهات، تميزها النقطات، ومواضع النقطات، وأعداد النقطات. فإدخال القلقشندي وأهل الصناعة لا يزيد في وزن هذا التقدير ولا ينقص منه. بل قد يظن أن الغرض منه إيهام أن الرأي تؤيده «دلائل العلم» وليس في المسألة للعلم أي أثر كما ترى.
على أنك يا سيدي لو ألقيت مثل هذه النظرة على الحروف اللاتينية التي قارنت بينها وبين العربية، لما وجدتها أيضا إلا مكونة من مستقيمات طويلات أو قصيرات، ومن أقواس منحنيات تتناسب كل التناسب مع المستقيمات؛ فهي والعربية في الحال الراهنة سائرتان على نظام واحد في التكوين. والفرق بينها وبين العربية عدم وجود المتشابهات المحتاجات للنقطات المميزات.
ثالثا: (1) وإذا كنت أنت يا سيدي ، اعتمادا على القلقشندي أو غيره، تعتبر أن التشابه مزية، وأن التفريق بالنقط مزية، ثم ترسل عبارتك في هذا الصدد موهمة أنهما مزيتان مقصودتان لواضعي الخط الأولين، لتبسيط الأشكال والتخفيف منها، وتعتبر كما قد أفهمه من عبارتك بطريق التخمين، أن الحروف اللاتينية أتت معقدة الأشكال لفقدها هاتين المزيتين، إذا كان هذا هو رأيك واعتبارك، حتى ولو كان قولك راجعا لا للواضعين الأولين من النبطيين والجاهليين، بل إلى مركز الخط العربي في عهد القلقشندي أو في يوم الناس هذا، أقول إذا كان هذا رأيك واعتبارك، فيفتح الله بيني وبينك. (2) واسمح لي يا سيدي أن أقدم لك اعتذاري عما أقوله من أني لم أفهم إلا بطريق التخمين أنك تعتبر أن الحروف اللاتينية أتت معقدة لفقدها هاتين المزيتين. عذري الذي أقدمه لك هو نص عبارتك في هذا الصدد؛ فأنا أضعه أمام نظرك لتعيد أنت قراءته: «إنه يظهر أنهم عنوا ببساطة الحروف فعمدوا إلى تخفيف الصور؛ لأن كثرة الصور داعية لتداخل الحروف، مما يؤدي إلى التعقيد، وهو ما وقع بالحروف اللاتينية التي تعقدت أشكالها وصورها، فاختلف بعضها عن بعض اختلافا بينا.»
إنه بقطع النظر عن أنك، في قولك أنت وفيما ترويه عن القلقشندي، لا تريح القارئ ببيان الاسم الظاهر، بل تستعمل ضمير جمع الغائبين، الذي إذا كان ظاهر عبارتكما مفهما أنه راجع إلى واضعي الخط العربي من أهل الجاهلية الأولى، فإنه قد يفهم - ولو من بعيد - أنه راجع إلى مركز الخط العربي في الوقت الحاضر أو في وقت القلقشندي. وهذا ضرب من التبهيم لا يجوز إتيانه ممن يحتج بالعلم ودلائله؛ لأن العلم لا يحتمل التبهيم، لا من قريب ولا من بعيد، بقطع النظر عن هذا، فهل تستطيع يا سيدي أن تفهمني معنى قولك: «إن كثرة الصور داعية لتداخل الحروف مما يؤدي إلى التعقيد؟» أنت يا سيدي في صدد الكلام على صور الحروف المفردة وأشكالها، وصدر جملتك الذي تقول فيه إنه يظهر أنهم عنوا ببساطة الحروف دال حتما على أنك تعني بلفظ «الحروف»، صور الحروف، ولا تعني بها النغمات؛ لأن النغمات يستحيل تبسيطها. والصور هي هي الأشكال، وهي هي الحروف على هذا المعنى الذي تحدد في صدر عبارتك تلك. وإذن يكون قولك: «إن كثرة الصور داعية لتداخل الحروف مما يؤدي إلى التعقيد.» يساوي بالضبط «إن كثرة الحروف داعية إلى تداخل الحروف.» فاحكم أنت هل لهذا القول معنى؟ وكيف يصح في العقل أن كثرة أشكال الحروف تدعو إلى تداخلها؟ وما معنى هذا التداخل؟ إن كان أحد يفهم هذا فما أغباني! وأخرى، هل يدرك أحد معنى لقولك: «وهو ما وقع بالحروف اللاتينية التي تعقدت صورها وأشكالها فاختلف بعضها عن بعض اختلافا بينا؟» إلام ترمي بأن الحروف اللاتينية اختلف بعضها عن بعض اختلافا بينا؟ وهل اختلاف أشكال الحروف الدالة على النغمات المختلفة أو على حركاتها، هو في نظرك أو نظر أي إنسان عيب ونقص؟ وكيف يصح هذا في العقل؟ إذا صح فما أغباني أيضا! ثم، كيف تسمي اختلاف صور الحروف تعقدا في أشكالها؟ كيف والعقل يقضي بأن الأشكال والصور إنما هي رسوم وتخطيطات، إن لم يتميز بعضها عن بعض بالمغايرة بينها، اشتبهت واشتركت ولم يتمحض كل منها للغرض المراد تخصيصه به؟ وإذا كانت المغايرة بين صور الحروف واجبة، فلماذا تسميها «تعقدا» وتعدل عن اسمها وهو «المغايرة»؟ وما مرادك هنا بكلمة «التعقد»؟ هل تعني معناها جادا؟ وهل سيدي، وهو يتقن الفرنسية - كما يؤخذ من استشهاداته في مقاله المحترم - لم يحفظ حروف هجائها اللاتينية، وهي ستة وعشرون لا غير، بما فيها من حروف الحركات، بل وجد اختلافها قد عقدها فعز عليه حفظها؟ إني أفهم أن كلمة التعقد تستعمل لو كنا في معرض استبدال الحروف الصينية أو اليابانية أو المصرية القديمة بالحروف العربية. إذن لجاز أن يقال إنها جميعا معقدة؛ لكثرة الذنبات فيها والتعرجات والتلافيف وصور الحيوانات والجمادات، وإن الذهن لا يحيط بتثنياتها وتعرجاتها إلا بعد المرانة وطول الإجهاد. أما في اللاتينية فلا، ثم لا، ثم لا. وفوق ما أسلفت، أفلا ترى يا سيدي أن بين جزءي عبارتك تناقضا واضحا ؟ في جزئها الأول جعلت كثرة الصور داعية إلى تداخلها. وليس للتداخل معنى - كما قد أفهم - إلا الامتزاج والاختلاط. وفي جزئها الثاني جعلت التداخل داعيا إلى التعقد، والتعقد داعيا إلى اختلاف الحروف اختلافا بينا، والاختلاف البين ضد بين للتداخل والاختلاط.
وإذا كانت عبارة السيد كلها اضطرابا وتناقضا واستغلاقا - كما يرى - فلماذا يرزؤني بها؟ أيكون سيدي وهو يعلم أن لا جد فيها قد استضعفني فهجم علي بالقول المشوش إيهاما لي بأنه من «العلم» «ودلائل العلم» التي يقصر عقلي عن التطاول إليها؟ لكني أقول له إني سمعت في زماني أن واجب العلماء أن يعلموا الضعاف أمثالي، لا أن يستغلوا ضعفهم فيخرسوهم بسلاح الإيهام، وإلا فقد حبط عمل هؤلاء العلماء عند الناس، وضاع أجرهم عند الله. (3) إن العقل ليقضي - كما أقول - بوجوب اختصاص كل نغمة بحرف ذي هيكل معين يدل عليه. أما الاعتماد في التمييز على مجرد النقطات فإنه من أشد الآفات. خذ أي كتاب عربي مطبوع ودقق النظر قليلا تجد أن شكل النقطة الواحدة وشكل النقطتين، أو شكل النقطتين وشكل الثلاث، كثيرا ما تختلط وتتشابه، إما لخطأ العامل، وإما لميوعة المداد أو سخافة الورق. فتختلط في غضون الكلمات، النون بالتاء، والتاء بالثاء، والفاء بالقاف، والباء بالياء. ولولا تعود القراء من أبناء اللغة لتعثروا في القراءة والفهم غالب الأحيان. أما المخطوطات فأنت عليم بأن العمدة فيها على فطنة أبناء اللغة من القراء؛ إذ النقطات كثيرا ما يقع الإهمال في إثباتها أو في أعدادها أو مواضعها، وهي آفة يضج منها كثير من الناس.
13
فاللاتينية تفضل العربية من هذه الناحية بلا نزاع. وأرجو سيدي أن لا يحتج بالإيجاز والاختصار؛ فإن الرسم ثوب للنغمة يقصد منه الإعلام بها. وكل إعلام تعرضه للتغيير والتشويه فهو في نظر العقل من الآفات. (4) ولقد حرت يا سيدي بين من يعترضون علي مستنصرين بالعلم ودلائله، ولا أدري أيهم أشايع وأيا منهم أباعد. أنت يا سيدي تقول بتينك المزيتين، وبحيازة الرسم العربي لهما، لكن أستاذا بكلية الآداب عندنا - استشهدت أنت - على بعض نقط اعتراضك بقول له ضمن اعتراض من جانبه نشرته «الثقافة» أيضا، قد فرط منه ما يدل على أنه لا يوافقك في هذا الصدد. إنك لو أعدت النظر على مقاله لوجدته يقول - ما مفهومه - إن الكتابة المثلى هي ما يكون فيها لكل صوت حرف خاص يدل عليه دلالة واضحة، ويروي عن دائرة المعارف البريطانية ما يؤيد قوله. فإلى أيكما أنحاز؟ أإليك أم إلى أستاذنا الجامعي؟ إني لا أنحاز إلا لما يقضي به العقل. والعقل - كما أسلفت - يهدي إلى وجوب الانحياز في هذه النقطة - لا إلى سيدي؛ لأن رأيه في غاية الخطر - بل إلى أستاذ جامعتنا، ولكن في هذه النقطة وحدها وبخصوصها من جملة ما قال.
رابعا: (1) لست
فإن معوله الأول هو على ما ارتسم من قبل في ذهنه من الصورة الكلية لكل كلمة يقرؤها، لا على كل حرف حرف من الكلمة. ولسنا محتاجين في إدراك هذا لا إلى آلة التاشيستوسقوب ولا غيرها، ما دام دليل ذلك يتكرر عمليا أمامنا كل يوم. إنك تقرأ خطابا من أحد الإخوان قراءة سريعة، فتفهمه ولا تلاحظ في لغته شيئا من العيوب، فإذا قرأه غيرك، أو أعدت أنت قراءته بشيء من البطء، وجدتما فيه كثيرا من الأغلاط. بل أكثر ما يلاحظ هذا في تصحيح المطبوعات، يقرأ المصحح التجربة (البروفة) مرة فلا تقع عينه إلا على بعض ما فيها من التحريفات، مع أن المصححين لا يسرعون إلا قليلا. فإن صححت التحريفات ثم قرأها ثانية عثر فيها على أغلاط أخرى لم يرها في التصحيح الأول. وما ذلك إلا لأن المسرع في القراءة لا يقرأ الكلمة حرفا حرفا، بل يقرؤها كصورة كلية اعتاد فهم مدلول رسمها، فالمسألة في هذا لا تحتاج لا للعلم ولا لتجاريب العلماء. (2) مع تقريري لهذا ألفت نظر سيدي إلى أن ما يقوله في واد ونحن في واد؛ إن تلك القراءة المجموعية التي يشير إليها، هي قراءة السر في سرعة قليلة أو كثيرة، لا قراءة الجهر في سرعة أو بطء. ونحن لسنا بسبيل قراءة السر، بل بسبيل قراءة العلانية. موضوعنا رجل يلفظ بالعربية لفظا ذا صوت وجرس، نريد أن يكون لفظه المسمع جاريا وفق أصول العربية وقواعدها؛ يرفع المرفوع، وينصب المنصوب، ويجر المجرور ويجزم المجزوم ولا يلحن في شيء من هذا. أما القراءة السرية فلا شأن لنا بها، وليست من موضوعنا. إن القارئين من مثقفين وغير مثقفين، جميعهم يقرءون ويفهمون ما يقرءون إلا ما كان فوق طاقتهم من مسائل العلم والفن والأدب، ولكن إذا كلفتهم النطق والإسماع سكنوا أواخر الكلمات وحركوا حروفها وفقا للهجتهم العامية، وهي لهجة مفهمة، بل أشد في الإفهام بين الجميع من الفصيحة التي لا يستطيعونها ولا تلوكها ألسنة المثقفين منهم إلا في النادر القليل.
أرأيت إذن يا سيدي أنك هنا تخرج من الموضوع معتمدا على بلاغة عبارتك وما تستنصره من التاشيستوسقوب ومن أقوال العلماء؟
إن التاشيستوسقوب (أو التاكيستوسكوب) لفظ أجنبي مديد البناء، لا يدرك معناه من لا يعرف إلا العربية، بل لا يدركه من يعرف الفرنسية وغيرها ولا يكون من الاختصاصيين. إن قارئه من هؤلاء وهؤلاء لا يناله منه إلا الانذعار والاستهوال، ولا سيما من لا يعرف غير العربية؛ لأنهم علموه أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فالشقنداف عنده أوسع معنى من الشقدف ومن الشقداف. والتاشيستوسقوب أزيد من الشقنداف حروفا، فهو لا يراه إلا غولا من أضخم الغيلان. أفلم يكن في وسع سيدي أن يتجاوز عن ذكره حتى لا يرعب الناس؟ (3) أما ما تفيض فيه يا سيدي من أن الكتابة العربية، بما فيها من كثرة الأعمدة المرتفعات عن أصل كتلة السطر، تبقى - عند الابتعاد عنها - ظاهرة يتبينها النظر، بعد اختفاء الكتابة اللاتينية التي من مقاسها، فإنه - مهما يكن صحيحا - لا فائدة فيه. اللهم إلا إذا أثبت لي أن دقة الحروف اللاتينية واستخفاءها على النظر قد منعا أهلها من مزاولة العلم والفن والأدب، ومن بلوغهم في جميعها أرقى الدرجات. وأنت لا تستطيع إثبات ذلك، فقولك إذن لا طائل من ورائه.
خامسا :
تقول: كلا إن فائدة ذلك حفظ النظر من الضعف؛ فإن خمسة وثلاثين في المائة من طلبة المدارس العالية بفرنسا مصابون بقصر النظر؛ لانكبابهم على مطالعة كتبهم غير الواضحة الحروف. كما أن العلماء قالوا: إن عدم وضوح الحروف يصد عن القراءة. هذا حاصل كلامك. فاسمع - غير مأمور - كلامي:
لئن كان الطلبة الفرنسيون أصيبوا بقصر النظر، فلا بد أن يكون أمثالهم في جميع البلاد التي تكتب باللاتينية قد أصيبوا به كذلك. وأنا يا سيدي لا أرى - أنا ولا غيري من المصريين - أثرا لهذا عندنا.
في مصر بنوك متعددة، وشركات كبرى كثيرة، ومدارس للأجانب، تزاول أعمالها باللغات الأوروبية، وفيها كليات العلوم والهندسة والطب بفروعه جارية فيها الدراسة بالإنجليزية المكتوبة بالحروف اللاتينية. ولم نحس أن عمال تلك البنوك والشركات وتلاميذ تلك المدارس وطلبة تلك الكليات مصابون في نظرهم، دون غيرهم من الناس، أو أكثر من غيرهم من الناس، بالقصر ولا بغيره من الآفات. كما أن الإفرنج من جميع الأمم التي تكتب بالأحرف اللاتينية لم تصد تلك الحروف أنفس علمائهم وأدبائهم عن الدأب في التحصيل، ولم تمنع طلبتهم بعد أن يخرجوا من مدارسهم العالية، من أن ينقضوا هم وأبناء جلدتهم علينا كالبزاة والعقبان، حداد المخالب، أصحاء الأحداق، ولا من أن يخوضوا غمار المعارك الدموية في البر والبحر والجو، أقوياء القلوب مسلمة أعينهم وأبدانهم من العلات. أفسحر هذا؟ أم أنهم من غير طينتنا البشرية؟ أم أن هذا المحذور الذي تضخم من شأنه هو أمر واه لا يؤخر الأمم العاملة في شيء؟ أظنك قد لا تمانع في أن الفرض الأخير هو الصحيح، وفي أن حبك للرسم العربي وامتلاء مزاجك به، هو الذي يدفعك إلى التغالي في تسويء الرسم اللاتيني، وإلى القول بأنه يرمد الأعين ويصد النفوس عن التحصيل، مخالفا في هذا ما أشاهده من آثاره في أهله، أنا وأنت وغيرنا من الناس.
ليت طلبتنا في الشرق يرمدون كطلبة الغرب، ونفوسنا في الشرق تنصد عن القراءة كأمم الغرب، إذا كان ذلك الرمد وهذا الانصداد يحلاننا المحل الذي يتبوءه الأوروبيون من العلم والفن وصحة العيون وسلامة الأبدان!
سادسا:
أما ما تنتهي إليه من القول بأن الحروف العربية أصلح الحروف لتأدية ما للغتنا من النغمات، فإن بعض مدلول قولك هذا يا سيدي حق لا ريب فيه. وهو ما رجع إلى النغمات الخصيصة بالعربية. وإني ما عارضت في هذا قط.
14
أما البعض الآخر الراجع إلى النغمات المشتركة بين العربية وبين غيرها كالباء والتاء والدال والسين وما أشبهها، فإن الأحرف اللاتينية لا تقل عن العربية صلاحية في تأديتها.
على أن كلامك هذا في واد وما نحن بسبيله في آخر. إن الكتابة سواء كانت بالحروف العربية أو بالحروف اللاتينية، داخلا فيها من العربية ما يؤدي نغماتنا الخاصة، أو من غير العربية ما قد يبتدع للدلالة على هذه النغمات الخاصة، فإن رص حروف النغمات في كل هذه الأحوال غير متبوعة بحروف الحركات، أو بعلامات الحركات، هو الضرر البليغ الذي نحن بسبيل الشكوى منه، ما دامت الحركات هي روح العربية وملاكها، وما دام أنه بدونها لا يمكن نطق معظم حروف النغمات ولا معرفة معاني الألفاظ.
عن المسألة الثالثة، بدأت بإيراد اعتراض من يقول إن الأحرف اللاتينية بإدخالها صورا مستقلة للحركات (الفتح والضم والكسر) تخدم العربية خدمة تتضاءل أمامها كل الانتقادات الفنية عليها؛ لأنها تجعلنا نقرأ كما نكتب ونكتب كما نقرأ، وتقضي على الأمية المتفشية فينا. ثم قلت إنك لا تستخف بهذا الاعتراض، ولكنك تراه محاولة خاطئة سيئة النتيجة، وأنك تستنصر لقولك هذا بالتاريخ وعلم اللغات. ثم أتيت ببيان مسهب حاصله:
أولا:
أن العلماء قالوا إن اللغات السامية أساسها المصدر، ومنه تخرج مشتقات للدلالة على الأفعال والأسماء. وإن هذا المصدر لا يتكون إلا من حروف نغمات جوهرية
Consonnes
تؤازرها حروف المد
voyelles
وحروف العلة
semi-voyelles (وتعني بها - على ما أظن - الواو والياء).
ثانيا:
أن الحركات لا يؤبه لها في هذا التكون؛ لأنها ليست حروفا، بل هي وصف أو عرض للحروف. وهنا أوردت أقوال النحويين بخصوص الحركة، وتضاربهم فيما إذا كانت عند النطق تسبق الحرف أو تقارنه أو تتلوه، ثم أخذت في بيان توجه به تضارب النحويين.
ثالثا:
ذكرت أن أحد علماء السريان اخترع سبعة حروف للحركات وحاول إدخالها في الكتابة السريانية وإذاعتها في قومه، ففشلت هذه البدعة بعد موته، وأن المندعيين (الصابئين) وضعوا في رسم كتابتهم حروفا للحركات، وأن عملهم هذا إذا كان لم يفشل - بل عده علماء اللغات تقدما - فإنه نتج عنه عدم إمكان تمييز حروف المد من حروف الحركات، فاختلطت المدات بالحركات، كما قاله العالم المستشرق نولدكه وأسف له.
رابعا:
ذكرت أن إدخال حروف الحركات اللاتينية بالرسم العربي يؤدي - بالزمن - إلى اعتبارها حروف مد فتفسد أقيسة اللغة وتفسد أوزان الشعر. وأن التلقين لا يغني في مثل هذا الموضوع؛ لفساد القاعدة في أساسها، وقابليتها لمثل هذا التشويه، وأن اللغتين السودانية والتركية قد كتبتا بالأحرف اللاتينية فتشوه النطق بهما عن أصلهما، كما هو ثابت من أقوال من سمعوهما في القديم وفي الحديث، وأن كل هذه المحذورات لا بد أنها صارفة للمعارضين عن رأيهم.
خامسا:
تقول إنك ستوافي المعارضين بما يرضي رغبتهم في جعل الكتابة العربية، تدل على الحركات في أصل الكلمة، مما ينقطع به دابر الإشكال.
وإلى سيدي ردي:
أولا: (1) إن علماء اللغات السامية لم يقولوا عن العربية إن أساسها المصدر - كما تروي - فحسب، بل قد سمعت من معترض آخر قبل سيدي ما
حلقة ذكر صوفية فترقى إلى مقام شعري خيالي باطني، فروى أن بعض المستشرقين قال إن هذه الثلاثية تشبه مثل أفلاطون!
ولو أن السيد اطلع على البحث الطريف الذي وضعه حضرة القس ا. س. مرمرجي الدومنكي بالقدس، وبعث به لمجمعنا اللغوي من بضعة أشهر، لوجد أن حضرته وهو - كما يظهر - من خيرة المشتغلين بالعربية، يقول إن أصل الكلمات العربية ثنائي لا ثلاثي، وأن الرجوع لهذا الأصل يهدينا إلى معاني كثير من الألفاظ التي نعتبرها اليوم من الأضداد. كما أن معلما بمدارسنا قدم للمجمع بحثا يثبت فيه أن الفعل الماضي - لا المصدر - هو أساس الاشتقاق.
على أن العقل المجرد - يا سيدي - لا يمنع غلبة الظن بأن الإنسان الأول لم ينطق أولا بالمصادر ولا بالأفعال، بل إنه يكون شاهد في الغابة أسدا أو نمرا أو ثعبانا، فصرخ ونطق بلفظ جعله اسما يدل عليه. والعربي الأول والأعجمي الأول كلاهما كالإنسان الأول في الطباع والأحاسيس. فتكون الأسماء إذن سابقة للمصادر وما يشتق منها من الأفعال والأسماء، على خلاف ما تروي. (2) ولو أن اليونانيين عقب أخذهم حروف الهجاء من الفنيقيين لم يضعوا حروفا للحركات، بل استمرت كتابتهم إلى اليوم لا تشمل إلا حروف نغمات بغير حروف حركات، فلربما رأيت غالب المستشرقين يقولون إن اليونانية خلقها أهلها غير محتمل رسمها لحروف الحركات.
ولو أن النبطيين عند وضع رسم العربية أدرجوا هم أو الجاهليون الأولون في غضون الكلمات حروفا أو زوائد خاصة للدلالة على الحركات، لأخذناها عنهم قضية مسلمة، ولما خطر في بالنا ولا في بال المستشرقين أن خلقتها الأولى غير محتملة لحروف الحركات. لكنهم لم يضعوا، بل احتذوا حذو جيرانهم من السريانيين والصابئين الذين تذكرهم. وهذا من جميعهم نقص فاحش يحاولون سده في كل الأزمان، بما في الإمكان. غير أن الأقدمية والآثار السالفة والعادات المتأصلة لها حكمها القوي الذي يدفع إلى الصبر على كل منقوص مع الاقتناع بأنه منقوص. فأرجو سيدي أن لا يتعلق كثيرا بتقديرات المستشرفين فيما هو قابل عقلا للأخذ والرد من الشئون. ولا تلمني فأنت نفسك قلت فيما بعد: إن إدخال حروف للحركات في كتابة الصابئين عده العلماء تقديما. ولا تعجل بالاعتراض فسترى كلامي على تلك النقطة وعلى ما قيل من أن المدات في تلك اللغة اختلطت بالحركات القصيرات.
ثانيا: (1) أما قولك في الحركة إنه لا يؤبه لها في رسم العربية، فلا شك أنه من جانبك تقرير للموجود في الواقع. أما إذا كنت تريد به عدم أهمية رسمها، فإني أنكره عليك أشد الإنكار. ليكن الأصل في الكلمات العربية المصادر لا الأفعال الماضية، ولتكن ثلاثية الأصول كما يقولون، أو ثنائيتها كما يقول حضرة القس مرمرجي، ليكن من هذا ما يكون، فإن حروف النغمات الجوهرية الصامتة
Consonnes
مهما يكن لبعضها من جرس صفيري يستثمر بعض الزمن؛ كالزاي والسين والشين وغيرها، فإنها جميعا يستحيل أن تفهم شيئا بدون الحركات. وليكن فيها حروف المد: الألف والواو والياء؛ فإن هذه لا تؤدي لك سوى مقطع مفتوح ممدود أو مضموم ممدود أو مكسور ممدود. ومثل هذه المقاطع ليست هي كلمات العربية، بل قد تكون حكاية لأصوات بعض الحيوانات أو الجمادات؛ فالحركات - كما قدمت - هي روح العربية وملاكها، وإذا حذفتها من الرسم كان ذرب اللسان عند النطق كالأخرس سواء بسواء. (2) وليس في كل ما أوردته عن الحركة وسبقها للحرف أو مقارنتها أو تلوها له أقل فائدة في موضوعنا، لتكن الحركة من ذلك ما تكون، فإنها هي هي ذلك الشيء الذي لا يجهله أحد من القارئين، بل كلهم يعرفونه بالضرورة.
كذلك لا يوصلنا لشيء ما تقوله قبل ذلك من أن الحركة صفة للحرف وليست حرفا. لا يوصل؛ لأن أحدا لم يدع، ولا يمكن أن يدعي أن الحركة حرف نغمة. وإذا كنت أجهدت نفسك بلا مقتض في توجيه المتضارب من أقوال النحويين، كما أجهدتها أيضا في الاستشهاد هنا بمن قالوا إنها عرض، وبمن قالوا إنها صفة، استنصارا وترهيبا بالعلماء وأقوال العلماء في غير ما موضع لهذا الاستنصار والترهيب، فاعلم يا سيدي أني قد أعرف تكميل ما أوردته منقوصا في هذا الصدد، أستطيع أن أقول: إن الحركة عرض ملازم للحرف بالقوة أو بالفعل. والعرض الملازم خاصة منطقية كالضحك للإنسان، والخاصة المنطقية تدخل في التعريفات فيكون التعريف بها رسما لا حدا. فإذا قلت إن الحرف الجوهري في الألفاظ العربية (هو نغمة من نغماتها قابلة للحركات)، إذا قلت هذا، وهو صحيح كل الصحة، فقد عرفت الحرف الجوهري
Consonnes ، على أني قد أترقى في البيان فأدعي أن الحركة جزء من ماهية الحرف، وأعرف الحرف في العربية بأنه «نغمة خاصة يلفظ بها في الكلمات العربية على وجه خاص.» وهنا أصبحت الحركة فصلا منطقيا وجزءا من ماهية الحرف، فإذا أردت أن تدل، في ألفاظ الكلام ، على هذا الحرف العربي، بالخط، وجب عليك حتما أن تجعل الهيكل الدال معينا عرضه الملازم له الظاهر عليه بالفعل (على التعريف الأول)، أو الوجه الخاص المنطوق به (على التعريف الثاني). على أن كل هذا الكلام من جانبي ومن جانبك - خطأ كان أو صوابا - هو حشو وتزيد لا ضرورة له ولا بلاغ فيه. والحقيقة الوحيدة التي ينبغي أن تكون أساسا لما نحن فيه، هي أن رسم اللغات من اختراع الإنسان؛ فهو يغيره وينوعه كما يشاء، لا فرق في هذا بين العربية وغيرها. وأنت إذا استبقيت الحروف العربية كما هي، ووضعت لها حروفا خاصة للحركات أو زوائد خاصة للحركات، أو اتخذت لها أي رسم من رسوم اللغات الأجنبية يبين نغماتها وحركاتها، فإنها لا تعصيك فيما تريد من هذا. وهل التركية والفارسية والجاوية والهندية عصت عندما ألزمت رسم العربية؟ أو لغات أوروبا عصت عندما ألزمت رسم اليونانية؟ كل كلام في هذا الموضوع ميسور الإكثار منه لكل إنسان، ولكنه لا يفيد. فأرجو أن لا تسترهبني بما تسميه دلائل العلم، ولا بالإكثار من التقريرات الشبيهة بتقريرات العلماء مع خروجها عن الموضوع وعدم فائدتها فيه.
ثالثا: (1) أما قول سيدي: «إن أحد علماء السريان وضع سبع صور للحركات وأدخلها في هياكل الكلمات، ولكن عمله فشل بعد موته.» فإني لا أدري كيف جعل هذا العالم شكل ما اخترعه من تلك الحروف. إنها إذا كانت، بالإضافة إلى السريانية (التي لا أعرفها) من قبيل ما تقدم لمجمعنا اللغوي من الاقتراحات بشأن رسم العربية - مما ترى نماذج كثير منها مرسومة في آخر المطلب الثالث من هذا الكتيب - فإنه عمل كان خليقا بالإخفاق والزوال. أما إن كان عمل هذا العالم جيدا متقنا مفيدا، فمستحيل أن يكون سبب إخفاقه متانته وفائدته، بل يكون السبب صعوبة إرضاء عواطف الناس وشهوات الناس. وعلى إمكان صحة هذا التقدير فليس لسيدي أن يحتج هنا بحبوط ما يكون أتاه هذا العالم من العمل المتين المفيد. (2) تقول إن الصابئين وإن كانوا أدخلوا حروف الحركات في رسم كتابتهم ، وكان العلماء عدوا عملهم هذا تقدما، لكن العالم نولدكه قال إنه أدى إلى عدم تمييز المدات من خفيف الحركات. إني أيضا لا أعرف لغة الصابئين (المندعيين). وكذلك لا أعرف كيف هيئوا لها حروف الحركات، لكني ألفت نظر سيدي إلى ما روى مما يفيد أن عملهم أخذ قومهم به وأنهم مستمرون عليه، ومن أن العلماء اعتبروه تقدما. هؤلاء العلماء لا بد أنك تعني بهم المستشرقين المشتغلين باللغات السامية. وإذا لاحظت هذا علمت أن أقوال أولئك العلماء الذين تستنصر بهم لتقرير أن ألفاظ اللغة العربية - وهي من اللغات السامية - تأبى - بأصل رسمها، أو بأصل تكونها، أو بأصل خلقتها (كما تشاء) - وضع حروف فيها للحركات، إنما هو تقرير للواقع في رسمها ليس غير. وأنه لا يمنعك مانع من أن ترسم نغمات ألفاظها بأي رسم آخر تريد، ولا أن تضع لها من حروف الحركات التي تناسبها ما تختار. أما ما رواه السيد عن العالم نولدكه، فأغلب ظني أن نقده لا يكون آتيا إلا من سوء رسم ما أدخلوه من حروف الحركات. وإنك إذا راجعت نماذج ما قدم لمجمعنا من الاقتراحات لوجدت من بينها ما لو اتخذ لوقع الخلط حتما بين الحركات القصيرة وبين المدات (انظر نموذج رقم 2 في [المطلب الثالث، 13]).
رابعا:
أما قول سيدي إن إدخال حروف الحركات اللاتينية في الرسم العربي يئول بالزمن إلى اعتبارها حروف مد فتفسد أقيسة اللغة وأوزان الشعر، وأن التلقين لا يغني؛ لأن القاعدة فاسدة الأساس ... إلخ إلخ.
قولك هذا يا سيدي من أغرب ما يكون. إن اللغات المرسومة بالحروف اللاتينية متعددة، وحروف الحركات فيها كثيرة جدا، وأغلبها شائع في جميعها، كما أن أغلبها يختلف توجيهه النغمة في لغة عنه في الأخريات. ونحن للآن لم نسمع إنجليزيا ينطق في لغته حرف
u
أو
e
كما ينطق بهما الفرنسي أو الألماني أو الطلياني، كل في لغته. ولم نر أن تعدد تلك الحروف مع تجاور ديار تلك الأمم خلط لغاتها بعضها ببعض، فجعل ما ينطق به في بعضها كفتحة أو ضمة أو كسرة خفيفة قد غرر بأهله، أو أعدى الجيران فنطقوا به ممدودا، فأفسدوا لغتهم وما لشعرهم من الأوزان. أظن أن قول سيدي في هذا الصدد هو الفاسد، وأنه مجرد تهويل. فأرجو إعفائي من مثله، ومما تقول من أن اللاتينية قد كتبت بها السودانية والتركية فأفسدتهما.
إذا كان أحد كبار السودانيين قد أخبرك بهذا - كما تقول - فلا بد أنه وقفك على جلية الخبر. ولا بد أنه أعلمك ما وقع وما هو واقع الآن في السودان القريب من خط الاستواء في مناطق تسكنها قبائل الدنكا، والشلوك، والنوير، والنيام نيام، وغيرها، وكلها قبائل همجية لا تتكلم العربية، بل لكل منها رطانته الخاصة التي لا قيمة لها في الوجود. تلك القبائل قد تسلل بينها المبشرون - كما سمعت أخيرا - وأرادوا ضبط رطانتهم بالكتابة ليتعلموها هم ويعلموهم كتابتها، فضبطوها بالأحرف اللاتينية، فتشوه النطق بها طبعا؛ لأن هذه الأحرف وحدها لا يمكن أن تؤدي النغمات الخاصة بتلك الرطانات. والقسس المبشرون أنفسهم لا يستطيعون تصريف ألسنتهم بها، فهم يكتبونها بالاجتهاد. ولا يهمهم أن تتشوه أو لا تتشوه؛ لأنها لا قيمة لها في ذاتها على أية حال. ولئن صح ما سمعته أنا من هذا - وقد لا يبعد أن يكون صحيحا - فأين ما نحن فيه من عمل المبشرين ذاك؟ وكيف يسمح سيدي أن يدخل هزل العمل في جده، فيحتج بتلك الرطانات؟
أما التركية فأرجوك أن تسمع أهلها - لا الناقمين ولا المشردين - لتعلم كيف أفادوا من تعديل رسم لغتهم أكبر الفوائد، وأن نطق لغتهم لا زال هو هو على ما كان عليه. وهل كان الرجل التركي في عهد الرسم العربي يستطيع أن ينطق النغمات الخاصة بالعربية؟ ألم يكن ينطق الثاء سينا، والجيم المعطشة تارة مفشوشة وأخرى مكزوزة كأنها تاء وشين، وينطق الحاء هاء، والذال والضاد زايا، والطاء تاء، والظاء زايا مفخمة فقط، والعين ألفا، والقاف كافا؟ فنطقهم لا زال هو هو. يتحكمون بلوكتهم القومية في الحروف اللاتينية كما كانوا يتحكمون بها في العربية. فدعنا من الكلام الغير المفيد.
خامسا:
إنك في صدر مقالك جعلت المسائل التي عولت على الكلام فيها أربعا، وقلت إن رابعتها هي: «هل في الإمكان درك نقص الحركات دون التجاء إلى الحروف اللاتينية؟» فاستبشرت أنا خيرا وقلت لنفسي: عل خروج الفصحى لبر السلامة يكون وقته قد حان. لكنك لم تتناول في أقوالك التي نشرت في ثلاثة أعداد من «الثقافة» آخرها الصادر في أول أغسطس سنة 1944 إلا المسائل الثلاث الأولى التي أوردت فيما تقدم كلامك فيها ورددت عليه. أما المسألة الرابعة، وهي ملاذ العائذين، وهدف الأهداف، وغاية الغايات، ومحط الرحال، فإنك أنزلت رحلك في الصحراء قبل أن تبلغنا محلها وتمتعنا بسنا محياها. إنك حين صرت منها على كثب أمسكت عن الكلام، وعللتنا بوعد مجرد لم تسم لإنجازه أجلا. قلت إنك «ستوافي المعارضين بما يرضي رغبتهم في جعل الكتابة العربية تدل على الحركات في أصل الكلمة بما يقطع دابر الإشكال.» حرام عليك ما أقساك! إنك بهذا حسبتنا كمونا إن فاته السقي أغنته المواعيد، بل تركتنا كمن يقف به المصعد بين طبقتين، لا إلى العليا وصل، ولا إلى السفلى يعرف كيف النزول. فهو خافق القلب مضطرب الحشا، حتى يشاء الله فيقيض له من ينقذه. أفيكون الأمر يا سيدي أنك أجهدت نفسك في كلام طويل مديد لمجرد استرهابي بالعلم والعلماء؛ حيث لا علم - كما بينته لك - ولا قيمة فيما نحن فيه لما تنقل من أقوال العلماء؟ ولماذا تسترهبي بغير الحق، وأنا - مع احترامي الكلي لك ولغيرك - لم يسبق لي التشرف بمعرفة شخصك الكريم، ولا جرت بيننا معاملة مما يوغر الصدور ويبعث على الترهيب؟ ألعلك لا تكون أنت مختارا في نشر كلامك، بل تكون ملهما فيه من بعض الأجلاء، وتكون في ذلك كبعض المعترضين علي من المصريين؟! قل لملهميك إنهم مخطئون، فإني أعرف فضلهم وسمو مكانتهم في أهلهم وعلو كعبهم في الآداب، ولا أكن لهم إلا كل احترام وإجلال. ومهما يكن من الأمر، فإني يا سيدي باق في انتظار إنجازك وعدك. وفي اليوم الذي يهديك الله إلى العثور على طريقة - غير الشكل وغير تلك الطرق التي ترى نماذجها هنا - تجعل كتابة الفصحى مستوفية ما ييسر لكل فرد من أية الطبقات أن ينطق بها على الوجه الصحيح، بلا لحن ولا خطأ ولا توقف أو إعمال فكر، بل كما ينطق الأجانب بالمكتوب من لغاتهم، في ذلك اليوم يا سيدي تراني على الفور ممزقا اقتراحي، دافنا أشلاءه في الأرض السابعة تهجينا له واستقباحا، ورافعا عملك إلى السماء السابعة إكراما له وتمداحا. وكل رجائي منك أن يكون إنجاز وعدك على هذا الوجه في يوم قريب.
والسلام على السيد ورحمة الله وبركاته.
المطلب الثالث
13
لما اتصل بعلم الجمهور أن المجمع اللغوي يبحث في أمر تيسير الكتابة العربية، قدم بعض من اهتموا بالأمر اقتراحات مشفوعة بنماذج تبين صورتها التطبيقية. ولما عرضت على اللجنة المختصة أهملتها جميعا، ما عدا اقتراحا لحضرة الأستاذ علي الجارم بك، فإنها استبقته ريثما يدخل عليه ما يرى من التحسين، بعد رجوعه إلى الاختصاصيين في فني الرسم والطباعة. ثم انتهى الأمر بتقديمه لمؤتمر المجمع في الدورة الماضية التي انفضت في آخر فبراير سنة 1944. والمؤتمر قرر إرجاء البت فيه لدورته المقبلة، آملا أن يتقدم الجمهور باقتراحات أخرى فتتخير اللجنة أمثلها وتعرضها على المجلس ثم عليه للتصرف.
ولقد قدم لإدارة المجمع فعلا من يناير سنة 1944 إلى أواخر مايو سنة 1944 اثنان وعشرون اقتراحا، ضم إليها اقتراح من سنة 1943 لم يكن عرض على اللجنة. من هذه الاقتراحات اثنان، خاص أحدهما بطريقة لنقط الحروف، والآخر بطريقة لفصلها في الطباعة، فهما لا يتلاقيان مع الغرض المراد تحقيقه. أما باقي الاقتراحات فخيرها أحد عشر اقتراحا تجد فيما بعد صور نماذجها. وكل تلك الاقتراحات - خيرها وشرها - رفضته اللجنة رفضا باتا، ولم تر فيه ما يصلح لعرضه على مجلس المجمع أو على مؤتمره.
وقد طبعنا ما طبعنا من النماذج هنا ليقوم لدى الجمهور عذر اللجنة في رفضها. وهاك تلك النماذج من رقم 1 إلى رقم 11 مع أسماء حضرات مقترحيها المحترمين الذين لهم فضل إنفاق ما استطاعوا من جهد ومال ابتغاء مرضاة العربية، والذين إذا غمط الناس فضلهم فإن لهم عند الله أحسن الجزاء.
بعض النماذج التي وضعها أصحاب الاقتراحات المختلفة لتيسير الكتابة العربية: (1)
حضرة يوسف الحطاب أفندي، بديوان المحاسبة: (أ)
هاك صور الحروف الهجائية التي يقترحها: (ب)
هاك تصويرة لكلمة «العقل» بحسب اقتراحه: (2)
حضرة أميل إبراهيم فهوم أفندي، بكلية الحقوق:
هاك نموذج اقتراحه: (3)
حضرة الأستاذ عبد المتعال الصعيدي، المدرس بكلية اللغة العربية بالأزهر:
إليك نموذج اقتراحه: (4)
حضرة الأستاذ خالد عبد المجيد الشباسي، المدرس بمدرسة دمنهور الصناعية:
دونك نموذج آخر اقتراح له: (5)
حضرة الأستاذ عبد المنعم شرارة، المدرس المنتدب بوزارة المعارف:
ها هو ذا نموذج طريقته: (6)
حضرة الأستاذ سليمان محمد سليمان، المدرس بمدرسة التجارة بالجيزة:
هذا نموذج اقتراحه: (7)
حضرة حسين أفندي منصور، بالمجمع اللغوي:
هاك نموذج اقتراحه: (8)
حضرة محمد شيت الحياوي، من الموصل بالعراق:
إليك نموذج اقتراحه: (9)
حضرة الأستاذ عبد الحميد إبراهيم، بوزارة الزراعة:
دونك نموذج اقتراحه: (10)
حضرة الدكتور علي شافعي المتعافي، بالمستشفى الأميري بببا:
هذا نموذج اقتراحه: (11)
حضرة الأستاذ علي كنعان، مدير مصلحة مياه طرابلس - لبنان:
إليك نموذج اقتراحه:
القسم الثاني
اقتراح اتخاذ الحروف اللاتينية لرسم الكتابة العربية
[قدمه حضرة صاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا، عضو المجمع إلى المؤتمر في جلستي 24 و31 يناير سنة 1944]
1
كلمة أولى
لا شك عندي أن حضرات المستشرقين، من بريطانيين وفرنسيين وإيطاليين وألمان وأمريكيين، يعجبون منا نحن الضعاف الذين يطأطئون كواهلهم أمام تمثال اللغة، لحمل أوزار ألف وخمسمائة سنة مضت. إنهم رجال عظماء انقطعوا للعلم والبحث في اللغات الشرقية القديمة - بائدها وقائمها - لا لأنهم يريدون أن يستعملوا لغتنا العربية أو غيرها من تلك اللغات الشرقية فيما بينهم، أو اتخاذها وسيلة للتفاهم بين أقوامهم، بل لأنهم في الحقيقة مؤرخون، مهمتهم النبش في الحفريات اللغوية القديمة، فهم ينبشون آثار الفراعنة لتعرف لغتهم الهيروجليفية، وينبشون آثار الأشوريين والكلدانيين واليمنيين، كيما يعثروا على نص منقوش في الحجارة، يستدلون منه على لغة كل قوم. ثم هم يقارنون ويضاهئون كيما يخرجوا من المقارنة ومضاهأة القديم بالقديم، وتطبيق القديم والحاضر بعضهما على بعض، بنتيجة يقررونها تفيد الناس العلم بماضي كل لغة وما طرأ عليها من التطور حتى وصلت إلى أهلها في عهدهم الحاضر، كما تفيد غالبا العلم بما طرأ على كل أمة من ناحية رقي حضارتها وتدهورها. وللمستشرقين لذة خاصة في هذا النبش والبحث والاستقصاء، لكن عملهم هذا شيء وإمساك أية لغة بخناق أهلها دهرا طويلا شيء آخر.
حياة اللغات وتطورها
كلنا أصبح يعلم علما ضروريا أن اللغة كائن كالكائنات الحية، ينمو ويهرم ويموت، مخلفا من بعده ذرية لغوية متشعبة الأفراد، هي أيضا في تطور مستمر. ولم يستطع قوم للآن أن يغالبوا هذه الظاهرة الطبيعية؛ فإن التطور يكبح شراسة من غالبه.
كان قدماء المصريين أعز أمة، فذهبت ريحهم وذهبت معهم لغتهم، وربما خلفها في اللغة القبطية - التي ماتت هي الأخرى إلا في بطون الأوراق - لهجة بعيدة عنها بعدا شاسعا، ولم يستطع أحد من سلالة المصريين القدماء أن يخلد لغة هؤلاء الأجداد.
وكانت اليونانية القديمة لغة شعر وحكمة، فلما اشتد التبلبل في ألسنة أهلها اضطروا - على الرغم منهم - أن يتخذوا من عاميتهم لهجة جعلوا لها قواعد نحو وصرف، وهي التي يتكلمونها ويكتبون بها اليوم.
وكانت اللاتينية لغة الإمبراطورية الرومانية، فأتى عليها التطور، فاشتقت منها الإيطالية والفرنسية والإسبانية وغيرها، وأصبح لكل لغة منها قواعدها الخاصة.
وقل مثل هذا عن الألمانية القديمة وما تفرع منها.
وكل لغة من تلك اللغات الذراري هي كل يوم في تطور، غير أن العلماء يراقبون هذا التطور ويجارون الناس على ما آلت إليه اللغة في بيئتهم، حتى يوحدوا بين لغة الكلام ولغة الكتابة جهد الاستطاعة.
اللغة العربية
لكن حال اللغة العربية حال غريبة، بل أغرب من الغريبة؛ لأنها مع سريان التطور
عددها إلا الله، لم يدر بخلد أية سلطة في أي بلد من تلك البلاد المنفصلة سياسيا أن يجعل من لهجة أهله لغة قائمة بذاتها، لها نحوها وصرفها، وتكون هي المستعملة في الكلام الملفوظ، وفي الكتابة معا؛ تيسيرا على الناس، كما فعل الفرنسيون والإيطاليون والإسبان ، أو كما فعل اليونان. لم يعالج أي بلد هذا التيسير، وبقي أهل اللغة العربية من أتعس خلق الله في الحياة.
إن أهل اللغة العربية مستكرهون على أن تكون العربية الفصحى هي لغة الكتابة عند الجميع، وأن يجعلوا على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا، وأن يردعوا عقولهم عن التأثر بقانون التطور الحتمي الآخذ مجراه بالضرورة - رغم أنوفهم - في لهجات الجماهير، تلك اللهجات التي تتفرع فروعا لا حد لها ولا حصر، والتي تتسع كل يوم مسافة الخلف بينها وبين الفصيحة جدة جداتها اتساعا بعيدا.
هذا الاستكراه الذي يوجب على الناس تعلم العربية الفصحى كيما تصح قراءتهم وكتابتهم، هو في ذاته محنة حائقة بأهل العربية، إنه طغيان وبغي؛ لأنه تكليف للناس بما فوق طاقتهم.
ولقد كنا نصبر على هذه المحنة لو أن تلك العربية الفصحى كانت سهلة المنال كبعض اللغات الأجنبية الحية، لكن تناولها من أشق ما يكون، وكلنا مؤمن بهذا، ولكن الذكرى تنفع المؤمنين، فلنذكر ببعض هذه المشقة:
بعض صعوبات العربية (أ)
إن
الثلاثي له ستة أوزان، وليس في أي فعل منها علامة مميزة تدل على الوزن التابع هو له، وليس لهذا التمييز من دلالات سوى قواعد معقدة لا تسمن في غالب الأحيان ولا تغني؛ ففعل «ظفر» مثلا لا يعرف القارئ إن كان ماضيه مكسور العين أو مفتوحها أو مضمومها، ولا إن كان مضارعه مفتوح العين أو مكسورها أو مضمومها، بل عليه أن ينجم ويخمن، أو يرجع لمعاجم اللغة. ومثل «ظفر» عدد كثير من الأفعال الثلاثية. (ب)
إن الفعل الثلاثي الواحد قد يتبع أوزانا مختلفة، فيكون في الماضي مفتوح العين أو مكسورها مثل بقى بقي، ويكون مضمومها أو مكسورها مثل بعد وبعد، بهت وبهت، بل يكون صحيحا بالحركات الثلاث مثل بغض وبغض وبغض؛ أي صار بغيضا، ومثل أنس وأنس وأنس، ضد توحش. وقد يكون الفعل مفتوح العين في الماضي مكسورها أو مضمومها في المضارع، مثل بطش يبطش أو يبطش بكسر الطاء أو ضمها ، وقد يكون مكسور عين المضارع أو مفتوحها مثل بات يبات ويبيت. وفي هذا التغاير في الماضي أو المضارع في الفعل الواحد بعينه منتهى الحرج. وهو حرج يدعو ابن اللغة - وبالأولى دعيها - أن يفر منها راضيا من الغنيمة بالإياب. (ج)
أثقل من هذا أن الفعل الواحد له جملة مصادر، مما لا شبيه له في أية لغة من لغات الخلق، وهذا وقر آخر يقصم ظهر متعلم العربية، فمثلا «بات» و«بغى» لأولهما ثلاثة مصادر: بيتا وبياتا وبيتوتة، ولثانيهما خمسة: بغاء، بغيا، بغى، بغية، بغية، وذلك عدا المصدرين الميميين للأول «مباتا» أو «مبيتا»، والمصدر الميمي «مبغى» للثاني. بل يجوز أن يكون للفعل الواحد تسعة مصادر؛ مثل فعل لبث، فإن مصادره: لبثا، لبثا، لبثا، لباثا، لباثا، لباثة، لباثة، لبثانا، لبيثة، عدا المصدر الميمي «ملبث». (د)
إن الأفعال فوق كونها تبنى للمعلوم أو للمجهول، فإن فيها الصحيح وفيها المعتل، ونظرية الإعلال والإبدال من أشق ما يكون في العربية. (ه)
إنه بقطع النظر عن الحروف وعن الأفعال، فإن الأسماء منها معرب ومبني. وإذا كان المبني من الأسماء عددا ضئيلا لا صعوبة فيه فإن المعرب يكاد يشمل كل مفردات اللغة (فوق المصادر وما اشتق منها من الصفات ونحوها)، وهذا المعرب تتغير أواخر كلماته بتغير العوامل الداخلة عليها. وهي صعوبة لا توجد في معظم اللغات الحية. (و)
فوق هذا فإن الأسماء منها المصروف ومنها الممنوع من الصرف، ومنها ما هو مقصور أو منقوص، ولكل طريقة إعراب خاصة. (ز)
وأثقل من هذا أن الجموع متعددة في العربية؛ فمن جمع مذكر سالم إلى ملحق به، إلى جمع مؤنث سالم إلى ملحق به، إلى جمع تكسير للقلة، إلى جمع للكثرة، إلى جمع جمع. ولئن كان الخطب في جمعي المذكر والمؤنث السالمين هينا، فإن جمع التكسير متعدد الصيغ، ومتعدد للكلمة الواحدة؛ بحيث إن دراسته لا وقاية لرأس الإنسان فيها من الدوار. (ح)
إن أسماء المعاني والذوات يتشكل اللفظ الواحد منها جملة أشكال، فمثلا كلمة آلاء (أي نعم) كالوارد في القرآن الشريف
فبأي آلاء
مفردها إلى، إلى، ألى. ولو سألت أي متعلم عنها - ممن عدا الاختصاصيين - لما عرف لهذا الجمع مفردا، بله أن يعرف أن مفرده متعدد على تلك الصور. وأنثى الأسد - مثلا - هي: لبأة، لباءة، لبؤة، لبوة، لبوة، لبوة، لبة، لباة، لب. فهذه تسعة أسماء من أصل واحد لحيوان بعينه. ودراسة هذه التغيرات مصيبة على المتعلم، بل إن كلمة «اسم» قال بعضهم إن فيها عشر لغات: اسم، سم، سما، كل منها مثلثة الأول، فهذه تسع، ثم سماة تكملها عشرا. لكن البعض لم يقنع فجعلها ثماني عشرة لغة، منها العشر المذكورة وتضاف إليها ثمان أخرى.
تلك الأشواك والعقبات، وهذا التعدد، تريك الواقع من أن هذه اللغة العربية ليست لغة واحدة لقوم بعينهم، بل إنها مجموع كل لهجات الأعراب البادين في جزيرة العرب من أكثر من ألف وأربعمائة سنة، جمعها علماء اللغة وأودعوها المعاجم، وجعلوها حجة على كل من يريد الانتساب للغة العربية، ولا يعلم إلا الله كم لهجة كانت! أفليس من الظلم البين إلزام المصريين وغير المصريين من متكلمي اللهجات العربية الحديثة بمعالجة التعرف بتلك اللهجات القديمة التي ماج بعضها في بعض فانعجنت، ولو فرض المستحيل وأمكن عزل أية واحدة منها، لكانت دراستها - بسبب قدمها - أشق من تعلم عدة لغات أجنبية حية، كل منها يعين الإنسان في عمره القصير على مسايرة العالم في هذه الحياة الدنيا؟
في كل سنة نسمع صيحة مدوية يصخ البعض بها معلمي العربية بالمدارس، متهما إياهم بالقصور أو التقصير في تلقين التلاميذ. والحق الذي لا مرية فيه أن هؤلاء المعلمين المساكين برآء من هذه التهمة براءة الذئب من دم ابن يعقوب، فإن العيب إنما هو عيب اللغة التي ليس لها في مفرداتها وقواعدها أول يعرف ولا آخر يوصف، والتي لها في الأداء جرس ولوكة لسان يضربان صماخ أذن الطفل لبعد ما بينهما وبين لهجة أمه، فينفر منها ومن المعلم نفور الطير روعته، والظبي باغته.
جرب في بيتك أن تخاطب أحد الأطفال باسم الإشارة «هذا » بدل «ده» فإنه لا يفهمك، بل يظنك قد طاف بعقلك مس من الجنون، فأصبحت تهذي وتتعوج في الكلام، ثم تراه ولى مدبرا يحاول تقليدك لمضاحكة أمه، وسائر من يلقى من الأطفال، بهذيانك!
هذا الطفل إذا وكلته إلى معلم، فكم من الزمن يلزمه بين محايلة ومخايلة، ومحاسنة ومخاشنة، ومعاسرة ومياسرة، حتى يعود حنجرته ولسانه صحة الأداء؟ وكم يلزمه من الزمن حتى يعرفه أنواع الفعل وتصاريفه ومشتقاته؟ وكم يلزمه حتى يعلمه مرفوعات الأسماء ومنصوباتها، ويعرفه فعل التعجب وأفعال المدح والذم وأفعال المقاربة، وغير هذا مما يطول شرحه ولا ينتهي امتداده؟ كل هذا فوق ما يلزمه من الزمن لتحفيظه كثيرا من مفردات اللغة التي تعين على الإنشاء إعانة لا تقوم بها مفردات لهجة التلميذ العامية؟ وبعد هذا لا تزال تلك الصيحة الظالمة تخرق كل سنة صماخ آذان المعلمين المساكين؟! مع أن أولئك الصائحين يعلمون هم وغيرهم أن الإنسان يدرس هذه العربية الفصحى ويمارسها حتى يبلغ أرذل العمر، وإذا حاسبته لم تجده حصل منها شيئا مذكورا، إلا من أعان ربك، وقليل ما هم.
تبرؤ وشكوى
لعل البعض يتساءل: ما بال هذا الرجل ينحي هكذا باللائمة على العربية ويصعب من أمرها؟ ألعله يريد نبذها والاستعاضة عنها بلغة أجنبية من اللغات الحية؟ حاش لله! وبعدا لهذا الظن البليد كما بعدت ثمود! وشقحا له، وحجرا محجورا!
إن حصاني الأعرج ليغنيني عن سيارة جاري، وناقتي البازل المسنة لأحب إلي من طائرته وأهدى سبيلا.
إنما هي نفثة مصدور اعتاد رؤية حصانه وناقته فأغرم بهما، والعادة محكمة، وهي من أمهات الغرائز. اعتدت ممارسة العربية وهي حصاني وناقتي، فتعرفت فيها جمالا رائعا مستورا تحت تلك الأشواك والعقبات الجسام، فهي شهد دونه إبر النحل. وهذه العربية إذا كانت نهكتها كثرة النسل فإنها أيضا نهكتها كمثلي كثرة الأدواء. كلانا مريض، وكل مريض للمريض نسيب. كلانا يشكو حاله، ولعل أصدق ما يعبر عن شكواها قول عنترة:
فارتاع من وقع القنا بلبانه
وشكا إلي بعبرة وتحمحم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
ولكان لو علم الكلام مكلمي
ولعل أصدق ما يعبر عن وقوع المكروه بنا معا - حتى كدنا مع شدة الإلف نفترق - قول الأعرابي:
هوى ناقتي خلفي وقدامي الهوى
وإني وإياها لمختلفان
ولئن كنت استوفيت معظم العمر، وأصبحت - كسنة الله - على وشك إجابة داعي الحق، فإنه ليحزنني أن أترك تلك الحسناء الأبية الحيية التي تواري جمالها في أقصى زاوية معتمة من خدرها، متلففة في أثخن الأبراد - ليحزنني مفارقتها يرثها أهلي وأهل العربية على ما بها من الضعف والانزواء. وأخشى ما أخشاه أن يمل من بعدنا طول مرضها وتحجبها واستعصائها، فيملكهم القنوط فيهملوها ويعتاضوا عنها لغة أجنبية من اللغات الحية التي يعمل ذووها على نشرها في الشرق جهد استطاعتهم، لأسباب لا تخفى على أي بصير. أخشى هذا، وأخشى أن تموت عربيتنا الحسناء، وألا يدركها هذا المجمع ولا عشرون مجمعا من مثله.
الرسم أهم أسباب مرض العربية
لئن كان قانون التطور وصعوبة الأوضاع والقواعد هما وحدهما اللذان رانا على جمال العربية فباعدا بينها وبين أهلها وطلابها، وأنهما وحدهما هما اللذان يعملان في هدم كيانها، فإنها - مع الأسف الشديد - تكون آيلة للزوال لا محالة، على الرغم مما فيها من قوة الحيوية الذاتية؛ إذ هذه الحيوية لن تستطيع مغالبة قانون التطور وصعوبة الأوضاع والقواعد إلا إلى حين.
لكن الواقع - لحسن الحظ - أن السبب الحقيقي الذي هو الفاعل الأول في مرض هذه اللغة الجميلة وانزوائها في كسر بيتها، إنما هو استبداد أهلها وإكراههم إياها على الظهور في ثوب غير مقيس عليها، وصورة مبهمة مشكلة لا تجلي من جمالها شيئا؛ أريد رسم كتابتها.
إن رسم الكتابة العربية هو الكارثة الحائقة بنا في لغتنا، إنه أكبر عون لقانون التطور، وللإحساس بما فيها من الصعوبات، وللالتفات عما يزينها من جمال.
إنه رسم لا يتيسر معه قراءتها قراءة مسترسلة مضبوطة حتى لخير المتعلمين؛ وذلك لخلوه من حروف الحركات.
لقد عالج أسلافنا الاستعاضة عن حروف الحركات بالشكلات، للفتح والضم والكسر والسكون والمد والشد والتنوين، ولكن ظهر في العمل أن هذه الوسيلة لا فائدة فيها، بل هي مجلبة لكثير من الأضرار؛ لأن الشكلة المنفصلة عن الحرف كثيرا ما تقع على حرف قبله أو بعده؛ لعدم ضبط يد الكاتب الأصلي أو الناسخ أو الطابع، فيرتبك الفهم للخطأ في استعمال وسيلة النطق الصحيح. ولذلك جرى الناس في الكتابة العادية، وفي الصحف وكتب الأدب، وكافة الأعمال بالدوائر الحكومية على إهمال الشكل، فأصبح لا يوجد في غير القرآن الكريم ومعاجم اللغة إلا نادرا.
وأنت عليم بأن عدم وجود علامات الحركات ولا حروف الحركات يجعل الكلمة مركبة من حروف أصوات جوهرية، لا تعرف حركاتها بادئ الرأي فيصحفها القارئ غير المتمرن، على جميع أوضاع الحركات التي تحتملها الحروف. أما المتمرن فإنه يعرض نفسه لحلول عينيه؛ إذ هو لا يقع بصره على الكلمة إلا وهو يجيله فيما بعدها من الكلمات حتى يعرف معنى تلك الكلمة، أهي اسم أو حرف أو فعل، وما وظيفتها في الجملة، وماذا تستحقه من البناء أو حركات الإعراب.
وهذه المشقة تحملني على الاعتقاد بأن اللغة العربية من أسباب تأخر الشرقيين؛ لأن قواعدها عسيرة، ورسمها مضلل. فمن تحدث في نفسه فكرة مفيدة للناس ويحب نشرها فيهم بالكتابة أو الخطابة، يأخذه خوف انتقاد عبارته فيكتم فكرته في نفسه ويميتها، أو هو ينشرها بلغة من اللغات الأجنبية التي أصبحت عند كثير من الشرقيين أيسر عليهم من لغتهم العربية.
إنا - أعضاء هذا المؤتمر وكثيرا من أمثالنا، أو ممن يفوقوننا - قد لا نحس بسخف هذا الرسم لتعودنا إياه، ولكن اكتب لرجل من الإنجليز حرفي
H S
وكلفه نطق الكلمة التي قد يشخصانها، فإنه يقول لك إنهما لا يشخصان شيئا، بل قد يكونان من رموز علم الجبر أو علم الكيمياء. فإن استدرجته ورجوته أن يفكر فيما يدلان عليه من المعنى لو أضيف إليهما بعض حروف الحركات، فخمن ثم قال لك إنهما يمثلان كلمة
Has ، فإن قلت له كلا، ففكر ثم قال لك لعلها كلمة
His ، فإن قلت له كلا، إنهما يشخصان كلمة
House ، فهذا الإنجليزي إن كان مؤدبا ولاك ظهره استحماقا لك وانصرف صامتا، وإن كان غير مؤدب - وهذا نادر - قال لك
God damn ، وربما ناولك ضربة على فيك بجمع يده
Box . ومثل الإنجليزي الأمريكاني والفرنساوي والألماني وغيرهم من الأمم التي تستعمل حروف الحركة في كتابة لغتها.
لكن مصر وبابل هما موطن السحر القديم، ومهبط هاروت وماروت، وهما وكل الشرق موطن الإلهام والإشراقات الباطنية!
ولقد يخيل إلي أن سلفنا - من طالح قبل الإسلام، وصالح من بعده - قد اعتمد على هاتين الخصيصتين، فأرسل رسم الكتابة العربية هكذا طلاسم مستغلقة مبهمة، واكلا أمر الناس في فكها إلى السحر، وما ينقذف في القلوب من الإلهامات والإشراقات. وإلا فقل لي بربك: إذا كنت أوشكت مع الإنجليزي الثاني أن تتقاتلا وترفعا أمركما إلى الشرطة وإلى القضاء، أفلا تجد أن أمثال
hs
متكرر أمامك في كل لحظة، وبدل أن تتقاتل أنت وغيرك فإنك تقاتل نفسك وتضنيها؟!
خذ أبسط كلمة مثل «قد»، إنها تصور لك حرف التحقيق، وتصور لك قامة الإنسان «قد»، وتصور لك فعلا ماضيا «قد» بمعنى قطع، وماضيا مبنيا للمجهول «قد» أي قطع، وفعل أمر بمعنى اقطع «قد»، وهي صيغة مشتركة في النطق مع المبني للمجهول، وفعل أمر آخر «قد». ولا أدري كم مدلولا آخر تصوره أو لا تصوره!
ألا إن المشاهدات دالة على أن جميع الأمم التي تستعمل حروف الحركة في كتابتها هي الأمم الراقية علميا وصناعيا، هم أهل أوروبا وأمريكا إطلاقا. لا تحتج باليابان؛ فإنهم في علمهم وصناعتهم لم يقتصروا على لغتهم المزعنفة الرسم الكتابي، بل إني سمعت أنهم من زمن مديد أنشئوا في بلادهم عدة جامعات تدرس بالإنجليزية على النظام الإنجليزي، وبالألمانية على النظام النمساوي. فعلماؤهم وطلبتهم الجامعيون الكثيرون يعرفون الإنجليزية والألمانية، وقد يعرفون غيرهما من لغات أوروبا.
أما الأمم التي لا حروف حركات عندها كالصين وإيران والترك (قبل الآن) والعرب، فكلها من الأمم المتأخرة علميا وصناعيا. ولا تستشكل بالإسرائيليين، ولغتهم العبرانية هي كالعربية، لا حروف حركات فيها، لا تستشكل فإن الإسرائيليين متفرقون في كل البلاد الراقية، عارفون بلغاتها! فهم قوم عالميون. وإني وإن كنت لا أعرف شيئا في العبرانية إلا أني سألت سيادة الحاخام الأكبر الموجود بيننا بالمجمع ، فعلمت منه أمرين: «أولهما» أن حروف كل كلمة تكتب منفصلة لا متصلا بعضها ببعض. و«ثانيهما» أن أواخر الكلمات تلزم دائما حالة واحدة ولا تتغير بتغير العوامل الداخلة عليها. وهما أمران في غاية الأهمية؛ لأن أولهما يوحد شكل الحروف ويمنع اللبس الناشئ عن التصاقها. وثانيهما - على الأخص - يعفي أهل تلك اللغة من مصيبة الإعراب وضرورة تغيير الحرف الأخير من الكلمة تبعا لوظيفتها في الكلام.
وجوب تغيير رسم الكتابة العربية
إذن فأول واجب على أهل اللغة العربية هو أن يبحثوا عن الطريقة التي تيسر لهم كتابة هذه اللغة على وجه لا تحتمل فيه الكلمة إلا صورة واحدة من صور الأداء. ولقد علمت أن تشكيل الكلمات ضار، فلا بد من التفكر في طريقة أخرى تؤدي هذا المراد.
خطر بفكر أحد زملائنا أن يعالج المسألة لا من جهة الرسم، بل من جهة الإعراب؛ وذلك بحذف حركاته وتسكين أواخر الكلمات. وكان من السهل إجابته إلى فكرته؛ لأن موضوعها ليس غريبا عن أصل العربية، بل هو يوافق بعض لهجاتها القديمة. وقد قرئت آية:
ويضيق صدري ولا ينطلق لساني
مثلا، من القرآن الشريف هكذا: «ويضيق صدري ولا ينطلق لساني» بتسكين القاف في الكلمتين، غير أن الذي يمنع قبول هذه الفكرة أنها إذا تحققت عملا أخلت إخلالا كليا بكل ما وصل إلينا من شعر الجاهلية وشعر المسلمين وغير المسلمين إلى اليوم؛ لأنك إذا فكرت مثلا في تسكين كلمات البيت الأول من بيتي عنترة السابقين، وجعلته «فارتاع من وقع القنا بلبانه، وشكا إلي بعبرة وتحمحم» لأخللت بوزنه حتما وصيرته كلاما منثورا عاديا لا رونق له ولا روعة. ومن جهة أخرى فإن هذا العلاج إذا كان يزيل صعوبة الإعراب، فإنه لا يفيد شيئا في الصعوبة الآتية من تغير الصيغ والصور للكلمة الواحدة. فقد رأيت أن لفظ «قد» له صور مختلفة، ومهما سكنت آخره فلا يفيدك ذلك شيئا في بيان تلك الصور المختلفة وفهم مدلولها، وأظن أن حضرة الفاضل صاحب الفكرة لاحظ ما عليها من هذه الاعتراضات فلم يقدم بها اقتراحا للمجمع.
إن مجلس المجمع - لآخر مرة - أحال على لجنة الأصول اقتراحا قدم له خاصا بتيسير كتابة العربية، وتلك اللجنة ندبت من بينها من يفحصون هذا الاقتراح، فاشتغل حضرة زميلنا الأستاذ علي بك الجارم بهذا الموضوع شغلا متواصلا يستحق كل حمد وثناء، ثم قدم للجنة تقريرا، أساس الفكرة فيه استبقاء رسم الكلمات العربية كما هو بحروفه المعروفة، وأن تكمل الحروف ذاتها في الكلمة التي هي منها بزوائد تدل على الكسر والضم والسكون والتنوين البسيط، وأن يلصق بالشدة المنونة حركاتها الثلاث، على أن كل حرف لا تزاد فيه علامة يعتبر مفتوحا، وفي التقرير استثناءات لبعض الأحوال.
اطلعت اللجنة على هذا التقرير فقدمت لها ملاحظاتي عليه شفهيا، ثم بالكتابة. كما قدم حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ إبراهيم حمروش ملاحظاته عليه كتابة. ومجمل هذه الملاحظات أن الرسم الذي فكر فيه الأستاذ الجارم بك يزعنف الرسم الحالي ويزيده ارتباكا، ويوقع في اللبس متى قورن ببعض طرق الكتابة الحالية. وأنه من الصعب تعويد التلاميذ إياه؛ لأنه فضلا عن ارتباكه، فإن من قواعده ما يتوقف على معرفة بعض قواعد الصرف ابتداء. وقد وعد الأستاذ بأن يدرس تلك الملاحظات مع بعض الاختصاصيين في فن الطباعة ويبدي للجنة رأيه الأخير، وكان ذلك قبيل عقد المؤتمر فلم يسعه تقديم تقريره طبعا.
2
على أنه لا محل لدرس هذه الملاحظات مع اختصاصيين أو غير اختصاصيين، فإن الناس في كتابتهم يستعملون الخط الرقعي عادة، على اختلاف بينهم في الجودة والقبح، وهذه المخطوطات الرقعية لا بد - طبعا - أن تتمشى عليها القواعد الجديدة، فلا يفيدهم عمل الاختصاصي في الطباعة فائدة ما.
لقد فكرت في هذا الموضوع من زمن طويل، فلم يهدني التفكير إلا إلى طريقة واحدة؛ هي اتخاذ الحروف اللاتينية وما فيها من حروف الحركات بدل حروفنا العربية كما فعلت تركيا.
أخطر هذا في بالي أني عقب أن أمر المرحوم مصطفى كمال باستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية التي كانت مستعملة في كتابة اللغة التركية، لاقيت أحد نظار المدارس الابتدائية بالأناضول، فسألته عما يكون أحدثه هذا الانقلاب في التعليم عندهم، فأخبرني أن اتخاذ الحروف اللاتينية وما فيها من حروف الحركات قد امتعض منه الأهالي في بادئ الأمر، ومنعوا أطفالهم من الذهاب إلى المدارس، فتلطف الأساتذة بهم مبينين لهم مزية هذا المشروع، ثم تدخلت الحكومة وابتدأ تعليم الأطفال اللغة مرسومة كلماتها بتلك الحروف، فكانت دهشة الأساتذة ودهشة الأهالي كبيرة؛ إذ وصل الطفل في شهرين أو ثلاثة إلى قراءة أي متن مكتوب بها قراءة صحيحة، وإن كان لا يفهم بعض المتون لأنها علمية أو فنية، لما ينضج عقله لإدراك معناها. وذلك من بعد أن كان الطفل عندهم يستغرق سنين في قراءة التركية مكتوبة بالحروف العربية ويصحفها بكل ضروب التصحيف على مثال ما هو حاصل عند أهل العربية من أطفال ورجال.
بقيت هذه الفكرة تشغل بالي إلى أن عرض - من نحو شهرين - أمر تيسير الكتابة على لجنة الأصول بالمجمع، وإذ كنت من أعضائها فقد أحببت أن أعرف ماذا عسى أن تكون تجربة تركيا في الست عشرة سنة الماضية، قد أظهرت من مساوئ هذه الطريقة أو من محاسنها؛ لأن النظر شيء والتجربة شيء آخر. فعمدت إلى المفوضية التركية، وهي آمن مورد يستقى منه الخبر، عمدت إليها على غير سابق معرفة بأحد فيها، فأنست بلقاء سعادة الوزير وحضرة السكرتير الأول واستطلعت طلعهما معا، فقال سعادة الوزير بحضور السكرتير ما حاصله: «أن طريقة الرسم الجديد قد أفادت أهل تركيا فائدة عظمى؛ إذ أصبح الطفل بعد قليل جدا من الزمن يستطيع قراءة أي كتاب قراءة صحيحة لا تحريف فيها وإن لم يفهمه. وأنه بفضل هذا الانقلاب قد زالت الأمية في تركيا تماما، أو كادت. وغاية الأمر أن الكتابة بالحروف العربية كانت كتابة اختزالية فيها اقتصاد في العمل وفي الوقت، أما الكتابة الجديدة فإنها، بسبب حروف الحركات وأشكال الحروف الأخرى، تستغرق عملا أكثر ووقتا أزيد.» ثم قال: «إن الضرر الحقيقي الذي شاهدناه هو أن الطريقة الجديدة قطعت الصلة بين الجيل الجديد وبين مخلفات السلف في العلوم والآداب والفنون.»
فقلت لسعادته أولا : «إن الطريقة التي أزالت الأمية في تركيا أو كادت، لا أهمية ألبتة لأن يكون فيها شيء من بطء في العمل أو تراخ في الوقت.» فأمن على قولي.
والواقع في هذا الصدد أن الأمور بمقاصدها، وأن كل تدقيق أو إتقان يستلزم بالبداهة العقلية من المدقق ومن المتقن عملا أزيد ووقتا أطول؛ فإن العالم المدقق والصانع المتقن يشتغل كلاهما أكثر من غير المدقق ومن غير المتقن، ويستغرق كلاهما زمنا أطول. ولا يستطيع أحد أن يزعم أن في التدقيق والإتقان محلا للملاحظة، لمجرد كونهما غير اقتصاديين في الفعل ولا في الزمن. على أن في الحق أن الكلمة إذا خلا رسمها عن علامات الحركة، من شكل أو حروف حركة، كان - كما أشرت إليه آنفا - رسما أبتر لا يشخص لفظها أمام العين تشخيصا استقلاليا مانعا من صدقه على كلمة أخرى. وهذا في ذاته نقص شنيع. ولو كان للكلمة أن تنطق لصاحت كحصان عنترة، متوجعة مطالبة بحقها من وجوب تصويرها للناس في صورتها الكاملة وإبرازها في ثوبها المقيس عليها، لا في صورة بتراء وثوب أقصر من قدها. فإذا كان في الرسم العربي اختزال فإن فيه ذلك الأذى البالغ الذي عمل رجل تركيا المرحوم مصطفى كمال على توقيه، وقد توقاه فعلا، فاستفادت تركيا تحديد طريقة أداء اللفظ وسرعة زوال الأمية، وهما فائدتان غاية في الأهمية والجلال، يحسدها عليهما العدو ويغبطها الصديق. على أن كل أمم أوروبا وأمريكا - وهي أرقى الأمم المتحضرة في العالم - لم يخطر ببال فرد من أفرادها أن حروف الحركات معوقة لرسم لغاتها، وأن من اللازم حذفها اقتصادا في الوقت وفي الزمن.
ولا يفوتني في هذا الصدد أن أشير إلى عبارة قالها لي أحد زملائنا الأفاضل؛ هي أن الحروف اللاتينية لم تضبط طريقة أداء كل المخارج في الألفاظ التركية. وهذا اعتراض صحيح، أساسه واضح؛ وهو أن الأتراك لم يضعوا لكل نغمة الحرف الصحيح الدال عليها ويأخذوه، سواء من العربية أو الفارسية أو غيرهما.
3
أما الضرر الحقيقي الذي أشار إليه سعادة الوزير فقد قلت له: «إنه ضرر حقا، ولكنه موقوت، وعلاجه من أيسر ما يكون؛ هو إنفاق مبلغ من المال لطبع أمهات المعاجم اللغوية، وأمهات كتب العلم والأدب والفنون بالرسم الجديد، وإن بيد حكومتكم التعجيل بالإنفاق فيقصر عمر هذا الضرر، أو التأخر في الإنفاق فيطول عمره.» فقال: «هذا صحيح، ولكنا شغلنا عنه مؤقتا بأمر آخر، وهو تنقية اللغة التركية مما فيها من الألفاظ العربية والفارسية، والبحث عن ألفاظ قديمة من لغتنا الطورانية لاستبدالها بها. وهذا المشروع قد فشلنا فيه نهائيا؛ فإنا إذا كنا قد عثرنا فعلا على كثير من الألفاظ الطورانية القديمة تقوم في دلالتها مقام الألفاظ التي أردنا الاستغناء عنها، إلا أن الجمهور أبى استعمالها لغرابتها عنده، ولزم الألفاظ العربية والفارسية التي اعتادها، ولا وسيلة لإكراه الجمهور في ألفاظ اللغة وأساليبها على ما لا يريد.»
اعتذار واستئناس
قد يقول النابهون فيكم - وكلكم نابهون - قد يقولون أسرفت فأوجز، وبين طريقتك التي ما سمعنا بها في آبائنا الأولين، واقصص علينا كيف نفعل وفي العربية نغمات أصوات لا تؤديها تلك الحروف اللاتينية التي تريدنا عليها، وقد قلت فيما قلت إنها لم تف بمطالب كل النغمات الصوتية في التركية؟
حلمكم أيها الرجال! إني لم أسرف، ولكني حقا أمللتكم وكدت أذهب بصبركم. وعلة هذا الملل - كما يدركه من كان في مركزي أمامكم - أن لكل تجديد غضة، وفي كل خارج عن المألوف غضاضة، وإنما تنجع المقالة في المرء إذا صادفت هوى في الفؤاد. على أني لولا ثقتي بأن مهمتكم هنا هي الإصلاح ما استطعتم، وأنكم في سبيله أحرار الضمائر، متسلبون من كل تعصب لعادة أو تمسك بقديم، متى وضح لكم وجه المصلحة في الجديد، لولا هذه الثقة وأني آوي من سماحتكم إلى ركن شديد، لما عنيت نفسي قط بعرض فكرتي عليكم.
هاكم طريقتي، منها تعلمون أن تلك العقبات التي تشيرون إليها إنما هي عقبات وهمية، وأن ما قد يعترض من هنات بسيطة هو مذلل تمام التذليل.
بيان الطريقة
إن في اللغة العربية ثلاث عشرة نغمة صوت جوهرية، كلها خاصة بها إلا ما ندر، وكل منها يؤديه حرف هجائي مفرد، ولا تؤدي حروف الهجاء اللاتينية المفردة شيئا منها، وهي نغمات: «الهمزة، الثاء، الجيم، الحاء، الخاء، الذال، الصاد، الضاد، الطاء، الظاء، العين، الغين، القاف».
أما حرف الهمزة فإنه إنما ينطق به عرضا في اللغات اللاتينية الحروف، في أول كل كلمة مبدوءة بحرف من حروف الحركة، وهو عرض ملازم؛ لأن حرف الحركة إنما يشخص نبرة هوائية مطلقة خالية عن التركز والانضباط؛ فهي من قبيل النفس الخارج من الرئتين لا تكيفه الأحبال الصوتية، ولا أعضاء الفم والحلق التي تضبط مخارج النغمات الصوتية الجوهرية وتميز أنواعها. ولذلك لا تجد عندهم حرفا خاصا يشخص هذه الهمزة العرضية. على أنه لا يهمنا أن تكون الهمزة عندهم عرضا ملازما، أو فصلا منطقيا هو جزء من ماهية حرف الحركة، يجعله حرفا جوهريا متى ابتدأت به الكلمة. لا يهمنا هذا فيما نحن بسبيله أصلا. لكن الهمزة في العربية حرف جوهري أصيل، تجب - مبدئيا - كتابته برسمه الخاص، سواء أكان ملفوظا به في أول الكلمة أم كان ملفوظا به في وسطها أو في آخرها، إلا ما سيتلى بعد.
وفي اللغة الإنجليزية نغمتا «الثاء والذال» ولكن الإنجليز يؤدونهما بمركب مزجي مدغم مكون من حرفي
th . وهذا الوضع مشترك لفظي يعين السماع كلا من نغمتيه.
وفي الألمانية نغمة «الخاء» ولكن الألمان يدلون عليها أيضا بمركب مزجي مدغم مكون من حرفي
ch . (وأذكر الألمانية لأن كثيرا من أهلها اضطروا لاستعمال الحروف اللاتينية في مخطوطاتهم ومطبوعاتهم بدل حروفهم الغوطية المتكسرة المتعثكلة
4
التي تمرض العين وتوقع في التيه والضلال. ولن يمضي طويل زمن حتى يفعل قانون بقاء الأصلح فعله فيطرحون كتابتهم الغوطية برمتها وتصبح في خبر كان.)
وفي كل اللغات اللاتينية الحروف توجد نغمة «الشين» ولكن ليس هناك حرف مفرد يدل عليها، بل الفرنسيون والإيطاليون والإنجليز والألمان يؤديها كل منهم بتركيب مزجي خاص به من بين التراكيب الآتية:
ch
ci
sh
sch
والذي عن لي - بعد طول التفكير - أن الهمزة والجيم والحاء والخاء والصاد والضاد والطاء والظاء والعين والغين، هذه الأحرف العشرة يجب أن تؤدى بذات رسمها العربي. ومن المصادفات أن هذا الرسم يتمشى مع رسم الحروف اللاتينية ويتسق معها كل الاتساق؛ لأنها إذا رسمت كالعربية كانت كما تراه في الملحق رقم 1.
أما الثاء فيستعمل لها حرف
t
اللاتيني، ويكون في رأسه شرطتان متصالبتان مع عموده بدل شرطة واحدة (انظر الملحق رقم 1).
وأما الذال فيستعمل لها حرف الدال
d
مع وضع شرطة أفقية فوقه، أو يستعمل لها حرف
d
المعقوف العمود، وأفضل ذا الشرطة؛ فإن المخطوطات يسهل فيها دائما استعمال الدال
d
معقوفة، فلو استعملنا هذه المعقوفة للذال فلا يؤمن التباس الذال بالدال.
وأما الشين فيستعمل لها حرف
s
مع شرطة أفقية فوقه.
وأما القاف فيلاحظ أن من الحروف اللاتينية ثلاثة هي:
q, c, k . أولها
k
متمحض في جميع استعمالاته لنغمة الكاف. وثانيها
c
يستعمل لهذه النغمة في بعض الصور، ويستعمل في صور أخرى لنغمة السين عند الفرنسيين والإنجليز والألمان، أو لنغمة الشين عند الإيطاليين، فهو مشترك بين نغمتين أو ثلاث. وثالثها
q
لا يستعمل في أية لغة من تلك اللغات إلا مصحوبا بحرف
u ، وهو وهذا الحرف يستعملان دائما في نغمة الكاف فقط عند الفرنسيين، أما عند الإنجليز فيدلان معا على نغمة كاف ساكنة تتبعها نغمة واو، وعند الألمان على كاف ساكنة تتبعها نغمة
v ؛ أي واو تنطبق فيها الشفتان مبسوطتين قليلا، وتنفذ بينهما - آتية من الداخل - نبرة هوائية قوية فتفرقهما، كما إذا حاولت أن تنطق بالواو والفاء في آن واحد.
وأرى أن يستعمل حرف
k
عندنا؛ للدلالة على الكاف، وأن يستعمل حرف
q
منفردا؛ للدلالة على القاف، وذلك كالمستعمل الآن في مصلحة المساحة المصرية. أما حرف
c
فيترك استعماله كحرف من حروف الهجاء العربية الأصلية. ولقد فكرت في استعماله عندنا لنغمة الشين؛ بما أنه يستعمل لها عند الإيطاليين متبوعا بحرف
i ، إلا أني وجدت استعماله لتلك النغمة لا يخلو من اللبس كما سترى.
وأستلفت النظر إلى أن نغمة حرف الجيم عندنا معطشة في الفصحى، وهي نغمة قد يقرب من تأديتها من بين الأحرف اللاتينية حرف
j
عند الفرنسيين والإنجليز دائما، كما يؤديها حرف
g
في بعض الصور، وفي صورة أخرى لا يؤدي حرف
g
هذا إلا نغمة صامتة كنغمة القاف التي يقلبها أهل الوجه القبلي عندنا جيما صامتة.
فمن الخير استبعاد هذين الحرفين معا؛ أولا لأن نغمة الجيم عندنا هي في الحقيقة نغمة
dj . وثانيا لأن حرف
g
رأسه وجزء من ساقه تشتبه بحرف
q
الذي اخترناه للقاف، فاستبعاده يقي من اللبس. ثم لنستبق حرف ج العربي كما أسلفنا.
وأما حرف الواو فقد اخترت له حرف
w ، كما ينطق به الإنجليز دون الفرنسيين والألمان؛ إذ هؤلاء يعتبرونه
v
مكررة أو مفردة.
ترتيب أحرف الهجاء
يكون ترتيب حروف الهجاء على ما هو عليه عندنا الآن تماما وبأسمائها العربية من الألف إلى الياء. مع ملاحظة أن الألف هو في الحقيقة صوت مد؛ أي حرف حركة مستطيلة النبرة تنتهي نبرته بالسكون؛ ولهذا يجب أن توضع فوقه علامة مميزة تفيد هذا المعنى كالعلامة القربوسية (ˆ) الفرنسية، أو مجرد شرطة أفقية فوقه وهو الأولى، ثم يستمر الترتيب على حاله إلى حرف «لا» الذي يجب استبعاده ووضع حرف الهمزة مكانه، فتبقى حروف النغمات الصوتية الجوهرية عندنا ثمانية وعشرين، وتبقى عدة حروف الهجاء تسعة وعشرين كما هي الآن ببقاء حرف الحركة الممدود، وهو الألف ضمنها، وإن كان لا يمثل نغمة صوتية جوهرية إلا عرضا كما سيأتي:
بعد هذه التسعة والعشرين حرفا العربية الأساسية توضع للحركة حروف ثلاثة من بين حروف الحركة اللاتينية هي:
a
خالية من الشرطة للفتحة، و
u
للضمة، و
e
أو
i
للكسرة.
وبما أن الحركات في الفصحى المعتبرة الآن في كل البلاد العربية هي حركات خالصة موزونة مقدرة الوقت وكيفية الأداء، لا إمالة فيها ولا إشمام، فيلزم أن حرف
a
المختار للفتحة يؤدى كما ينطق به الفرنسيون في مثل كلمة
، وأن حرف
u
المختار للضمة ينطق به كما في الألمانية والإيطالية دون الإنجليزية والفرنسية؛ أي كما ينطق الفرنسيون حرفي
ou ، وأن حرف
e
إذا اختير للكسرة يؤدى كما ينطق به مفردا في الإنجليزية. على أنه لا لزوم لمثل هذا التمثيل؛ فإن مقادير الحركات تلقن للمبتدئين في التعليم تلقينا، وأي رسم - عربيا كان أو غير عربي - لا يفيد فيها شيئا بدون تلقين .
ومن يختار للكسرة حرف
e
دون حرف
i
الذي يظن أنه المتعين؛ فالسبب عنده أن من الخير أن تكون حروف الهجاء مجردة من النقط وغيره من العلامات جهد الاستطاعة، وأن يكون لكل نغمة أو حركة هيكل خاص مفرد قائم بذاته متصل الأجزاء لا ينسحب على غيرها من النغمات والحركات. إذ كثرة النقط والعلامات الإضافية تربك الرسم كثيرا. وبما أن حرف
i
منقوط والكسرة كثيرة في الكلمات، والنقطة لا يؤمن انحدارها إلى غيره، فاستعماله رابك موقع في اللبس. وإذا اتخذ بغير نقط التبس الأمر في الكلمات التي يجاورها فيها حرف أساسي فيه جرة تشبهه. وإن كثيرا من الناس يهملون في كتابتهم نقط الحروف، وكثيرا منهم يكتبون حرف اللام بعمود بسيط خال من العقفة هكذا
l ، وفي هاتين الصورتين يكون المحظور نفسه واقعا. أما حرف
e
فإن أكثر ما يشتبه به هو حرف
c ، وهذا الحرف الأخير ممنوع بتاتا من أن يكون ضمن الحروف الهجائية.
لكن الغير يرون وجوب اتخاذ حرف
i
كما ينطق به الفرنسيون للكسرة؛ لأنه يشخص مثل حركتها فعلا في معظم اللغات، وإني أرى معهم أن يكون حرف
i
للكسرة.
حروف الهجاء جميعها وحروف الحركة
وخلاصة ما تقدم أن رسم حروف الهجاء التسعة والعشرين يكون كما هو في الملحق رقم 1.
ورسم حروف الحركة هكذا:
كسرة
ضمة
فتحة
i
u
a
أما السكون فلا محل لوضع أية علامة له
5
لأن المقاطع التي تعتبر في الكتابة والقراءة وتعليمها وتعلمها - على خلاف الأسباب الثقيلة والأوتاد المعتبرة في تقطيعات العروض - هي على صور ثلاث؛ فإما: (1) أن يكون المقطع منها حرفا متحركا واحدا كما في فعل (ضرب) المبني للمجهول المفرد؛ فإن فيه ثلاثة مقاطع كتابية هي: «ض - ر - ب» و(2) إما أن يكون حرفا متحركا يتلوه حرف ساكن واحد مثل كلمة «مضرب»؛ فإن فيها ثلاثة مقاطع هي: «مض، ر، بن» منها المقطعان الأول والأخير كل منهما مكون من حرف متحرك يليه حرف ساكن واحد. و(3) إما أن يكون المقطع حرفا متحركا يتلوه حرفان ساكنان أو ثلاثة أحرف ساكنة، مثل «مآء، علم، كريم ، حاف - فين، بار » مع ملاحظة أن الألف الممدودة ساكنة بأصل وضعها.
وقليل من التأمل يكفي لإدراك أن هذه الصورة الثالثة لا تتحقق إلا في حالتين:
إحداهما:
حالة المقطع الأخير من كلمة موقوف عليها متى كان قبل حرفها الأخير الموقوف عليه «ألف» أو «واو» أو «ياء» ممدودة، أو حرف نغمة مفرد غير متحرك مسبوق أو غير مسبوق بحرف مد من هذه الأحرف الثلاثة؛ وذلك كما في الأمثلة السابقة، وفي مثل المقطع الأخير أيضا من كلمات: «كبار، يعملون، يؤمنون، يمر، يفر، فار.»
وثانيتهما:
أن يكون المقطع في أول الكلمة، أو في وسطها متى كان مركبا من حرف متحرك بألف ممدودة بعدها مباشرة حرف نغمة مشدد؛ أي مضعف، نغمته الأولى تالية مباشرة لسكون الألف؛ وذلك مثل مقطعي كلمتي «حافين، ضالين» ومثل المقطع الثاني من كلمة «مشاحين» ومن كلمة «يوادون».
مع ملاحظة أن حرف «الألف» إذا كان بأصل وضعه هو حرف مد كما أسلفنا فإن حرفي «الياء» و«الواو» ليسا بأصل وضعهما - كما يبدو لي - من حروف المد؛ إذ هما لا يمدان شيئا في مثل: «أين، لولا، مين، أود» وهكذا. غاية الأمر أن «الياء» إذا وقعت بعد حرف مكسور و«الواو» إذا وقعت بعد حرف مضموم فإن سكونهما يثقل النطق به فيسهل بمد «الياء» لحركة الحرف المكسور الذي قبلها و«الواو» لحركة الحرف المضموم الذي قبلها. ولن يزال اللافظ بهما في هاتين الصورتين مستصحبا نغمة الياء أو الواو في كل المدة، ولا زالت الياء والواو ساكنتين لأن كل مد ينتهي حتما بالسكون.
6
مفاد هذا أن حرفي النغمة كلما تجاورا، سواء أكانا من نغمة واحدة، كالحرف المشدد الذي هو حرفان مدغمان، أم كانا من نغمتين مختلفتين، فإن أولهما يكون ساكنا حتما، ويكون من جهة أخرى، وحده أو مع ما يسبقه من حروف المد - «ألفا» أو «واوا» أو «ياء» - جزءا متمما للمقطع المبتدئ بالحرف المتحرك الذي قبله أو قبل حرف المد السابق عليه. أما ثاني حرفي النغمة المتجاورين فيكون متحركا حتما إلا في حالة الوقف عليه ، ذلك الوقف الذي قد يحدث معه أن يكون المقطع الأخير من الكلمة منتهيا بثلاث سكنات؛ كما في كلمتي «مواد، بار».
ومع وضوح هذه القاعدة التي لا تلتبس معها معرفة الحرف الساكن، فلا محل لوضع علامة خاصة للسكون.
وأما الشد فلا لزوم لوضع علامة له، بل يجب تضعيف الحرف المشدد.
7
وأما التنوين فإنه دائما يلي حرف حركة، وأبسط الأمور في تشخيصه هو إتباع حرف الحركة هذا بحرف نون صغيرة أمام حرف الحركة من أعلى. ويجوز أيضا أن يرسم التنوين بعلاماته العربية المعروفة،
8
فتوضع علامة الضم أو الفتح أمام الحرف المتحرك كذلك، وعلامة الكسر أسفله.
بعض ملاحظات (أ)
ما دامت الألف هي وأحرف الحركة الثلاثة
i, u, a
إذا وقع حرف منها في أول الكلمة أو كان منفردا فلا يمكن النطق به إلا بالاعتماد على همزة جبرية تسبقه، فأرى أن الهمزة إذا وقعت في أول الكلمة ممدودة كانت أو مفتوحة أو مضمومة أو مكسورة بدون مد، فإنه لا لزوم مطلقا لرسمها، بل يكتفى بالألف أو بحرف الحركة. ويستوي في هذا أن تكون الكلمة اسما أو فعلا أو حرفا. وعلى ذلك فكلمات: «آمين، أمر، أوتي، إقبال» وحرف الشرط «إن» وأمثال هذا، وأداة التعريف «أل» متى كانت همزتها همزة قطع ترسم كما في الملحق «رقم 2». (ب)
همزة الوصل في «أل» وكل همزة وصل أخرى تسبق اسما أو فعلا يرمز لها بعلامة شولة مثل الشولة الفرنسية
virgule (’) توضع مكان الهمزة عالية نوعا عن سطر الكتابة المليء؛ كيلا يلتبس بها الترقيم. فأداة التعريف «أل» وكلمات: اسم، اكتب، استقم، انتقل. التي تسقط همزتها في القراءة المسترسلة وتصير همزة وصل، ترسم كما في الملحق رقم 2.
بحيث إذا دخلت أداة التعريف في هذه الحالة على اسم أوله همزة وصل أيضا، فلا بد من وضع الشولة بالشكل المذكور نفسه قبلها ثم بعدها؛ فعبارة «بالاستقامة» تكتب هكذا
bi’l’stiqâmati (كما في الملحق). (ج)
حرفا الواو
w
والياء
y
هما - على خلاف حرف الألف - حرفان جوهريان يشخص كل منهما نغمة صوتية جوهرية كما سبقت الإشارة إليه. وإذن فلا يجوز استعمالهما مطلقا لتحريك الحرف الذي قبلهما بالضم أو الكسر أو المد بذاتهما، بل يجب أن توضع قبلهما علامة ضم الحرف أو كسره. فكلمة سرور مثلا وحرف الجر «في»، وكلمة «هي» ضمير المؤنثة الغائبة إذا وقف عليه، وكلمة «نيل» تكتب جميعها كما في الملحق. (د)
ما عدا ما تقدم فإن كافة حروف المعاني تكتب كاملة الحروف الهجائية بحسب أصل وضعها اللغوي تماما، مع كتابة حرفي «إلى» و«على» بصيغتي إلى، على (كما في الملحق)، وهي الصيغة الوضعية التي يأخذانها عند دخولهما على الضمائر. (ه)
وكل ما يصح التجوز فيه هو أن تلاميذ المدارس متى عرفوا أنواع حروف المعاني من عاطفة وجارة ونافية وغير ذلك، فهناك يمكن حذف الحركة من واو العطف وواو المعية، ومن فاء العطف وفاء السببية، ومن باء الجر وكاف التشبيه والجر، والاكتفاء بالرمز لهذه الحروف بحرف هجائي واحد
w, f, b, k
لأن
ومتى جرت العادة برسمها كذلك عرفت فلا يقع فيها لبس.
9
أما واو القسم ولام الجر فتجب كتابة أولاهما كاملة
wa
تمييزا لها عن العاطفة وعن التي للمعية، وكتابة ثانيتهما بحسب صيغتها أيضا
li, La ؛ لأنها تكون تارة مكسورة وأخرى مفتوحة، فلا يؤمن اللبس إن رمز لها بحرف لام
l
فقط غير متبوع بحرف الحركة
i
أو
a . (و)
وكذلك تكتب الأسماء والضمائر والأفعال بكافة حروفها، ولا يسقط منها شيء مما يسقط في درج الكلام. (ز)
والغرض من كتابة الحروف والأسماء الظاهرة والضمائر والأفعال بكافة حروفها أن تعرف على حقيقتها؛ إذ لو حذف منها ما يسقط بالدرج لسقط ضمير المتكلم وضمير الغائبين والمخاطبين في مثل: «جاء أبي اليوم، اكتبوا اليوم، واسمعا الكلام، اسمعوا الكلام، لا تقولوا الباطل» وهكذا، وفي هذا منتهى العبث والتضليل.
وصحيح الأمر أن سقوط بعض الحروف في درج الكلام إذا كان حاصلا في العربية فهو حاصل أيضا في غيرها من اللغات. والمعول فيه لا على اختزال الرسم، بل على ضرورات النطق وعلى التلقين. ويتبع هذا أحوال الحروف الشمسية والقمرية؛ فإن المعول فيها أيضا على التلقين ، ولا ينبغي مس لام التعريف أو أول حرف في الكلمة الشمسية الحرف الأول بشيء. (ح)
كافة الحروف والأسماء الظاهرة والضمائر والأفعال تكتب منفصلا بعضها عن بعض بقدر الإمكان، فلا يتصل منها بالفعل الماضي سوى ضمير المثنى الغائب «ضربا» و«ضربتا» وضمير جمع الغائبين المذكر «ضربوا»، أما المضارع فيتصل به ضمير المخاطبة «تضربين» وضمير المثنى مطلقا «يضربان، تضربان» وضمير جمع الذكور مطلقا «يضربون، تضربون». أما نون جمع الإناث «يضربن، تضربن» فلا تتصل لأنها مقطع واحد من حرف متحرك واحد، وتمكن كتابته والنطق به منفصلا، ومثله ضمير الغائبات في الماضي «ضربن». (ط)
كافة أسماء الذوات والمعاني يكون حرفها الأول من النوع الكبير؛ وذلك فقط في كتب الهجاء والتمرين التي توضع للأطفال. أما باقي أنواع الاسم من ضمير ومصدر مفيد للحدث وصفة وما أشبه، وكذلك كل الأفعال وحروف المعاني فيكون كل حروف رسمها من نوع أصغر، ما عدا الكلمة التي تقع في أول الجملة المنفصلة عما قبلها فصلا تاما، فإن الحرف الأول من رسمها يكون كبيرا بقطع النظر عن كونها اسما أو فعلا أو حرف معنى.
أما بعد المرحلة الأولية من مراحل التعليم فلا يكتب في الجمل بحرف كبير سوى الحرف الأول من العلم ومن المسند إليه؛ أي الفاعل أو المبتدأ، ومن أول كلمة في الجملة.
حروف إضافية
في اللاتينية أربعة حروف ليس لنغمتها مقابل في العربية الفصحى، وهي
g, j, p, v ، ثم حرف
c
الذي تركناه. وفيها حرف نغمة وهو
x ، ونغمته وإن كان يؤديها في العربية الكاف والسين، إلا أنه يجب الاحتفاظ به على هيئته اللاتينية والتعرف به هو والخمسة السابقة؛ وذلك لأن هناك أعلاما أجنبية ومصطلحات علمية وغيرها مما نعربه، فإذا لم نكتب العلم والمصطلح بأصل نغماته وهيئته الإجمالية تنكر علينا وعلى أربابه الأصليين.
وفيها كذلك حروف حركة غير ما اخترنا، وهي كثيرة جدا لا محل لتفصيلها هنا.
10
المقارنة بين هذه الطريقة وطريقة تيسير الكتابة مع التزام الأحرف العربية
إن طريقة حضرة الجارم بك تقتضي أن تكتب عبارة: «خير البر ما تعهد به المرء نفسه ، وخير بر النفس أن تربأ بها عن مواقف الاعتذار.» وكذلك مثل بيت أبي تمام:
السيف أصدق إنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
على الهيئة التي تراها في الملحق رقم 3.
يكفي أن يطلع الإنسان على هذا التيسير حتى يستعسره ويغمض بصره من دونه. وقد قلت لسيدي الجارم بك شفهيا يوم أن عرض مشروعه على اللجنة في الشهر الماضي: إن هذا الرسم مشوه لجمال الرسم الراهن، فقال: إنا لا نبحث عن الجمال، ولكنا نبحث عن «المنفعة». لكني أؤكد لكم أني أربأ بنفسي وأفر بها عن كل منفعة تأتيني من هذا الرسم الذي لا يلبث أن يذهب بما في قوة احتمالي وجلدي من بقية. ولقد أشرت إلى هذا المعنى في تقريري الذي قدمته للجنة في هذا الصدد؛ إذ قلت: «إن تلك الزوائد الواردة في هذا الرسم ترد البصر حسيرا لتشويهها جمال الرسم الأصلي؛ إذ هي تبدو كالزعانف في الجسم السوي، أو كالعجر والعقد في جذوع الأشجار المهملة التثقيف، وإني لا أوافق عليه مطلقا.» ولقد اطلعت أول من أمس بعد انصرافي من جلسة المؤتمر على تقرير يرد به الأستاذ الجارم على ملاحظاتي، فإذا هو يردد قوله الشفهي السابق مستبدلا كلمة «الصحة» بكلمة «المنفعة»، ولست أرى أني استفدت من هذه الكلمة شيئا غير نقيضها وهو المرض.
وأقول لكم الآن: إن المسلمين إذا كانوا من مبدأ أمرهم نظروا إلى فن النقش والتصوير بعين الكراهة لأنه يذكر بأصنام الكعبة التي نعى عليها نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فإنهم وجهوا ملكتهم الفنية في مجرى آخر هو مجرى فن العمارة وتزويقها، وعلى الخصوص إلى فن الكتابة، فنبذوا خط الجزم وهو الخط الكوفي الأصلي البدائي العسر القراءة، وصبوا خيالهم الفني في الخط العربي المستعمل الآن بأنواعه من ثلثي ونسخي وفارسي ورقعي وغير ذلك، مما تجدون نماذجه مجموعة في آخر معجم «المنجد» الحاضر بين يديكم. وكل نوع من هذه الأنواع له جماله الخاص الفاتن كما ترون.
والناس لا يعيشون بالعقل فقط، بل العواطف والخيال الفني لهما قسط عظيم في تهوين الحياة وتيسيرها على الإنسان، فإذا كنت أقول إن تلك الطريقة ترد بصري حسيرا فإني متفق مع نفسي وشعوري، ولا أريد حقيقة أن أقبلها مهما يكن فيها من تحقيق منفعة أو صحة أداء.
على أنه ما هي تلك المنفعة أو الصحة التي سمعت ذكرها؟ أهي تجعل الناس يقرءون العربية قراءة مضبوطة؟ كلا، ثم كلا. إنها - كما ترون مما رسمته لكم بحسبها - موقعة في اللبس الشديد؛ إذ تلك الزوائد تشتبه الكسرة منها بالميم أو الهاء الساقطة. أو كما قال الأستاذ الشيخ حمروش في رده الذي وزع علينا أيضا ضمن ما وزع أول من أمس: إنها تشتبه بالياء في إحدى طرق الرسم العربي، وإن الضمة فيها تشتبه بالدال، خصوصا إذا كانت في آخر الكلمة. ويشتبه التنوين المضموم بالهاء الأخيرة في بعض طرق الرسم، كما قال الأستاذ الشيخ حمروش أيضا. وتشتبه الواو الساكنة بالفاء والمضمومة بالقاف، وهكذا مما ترون أمامكم من ملاحظاتي وملاحظات الأستاذ الشيخ حمروش.
كلنا يعلم أن الكتابة إما مخطوطة باليد، وإما حاصلة بآلات الطباعة. فلئن كان المشروع مقترحا فيه من جهة الطباعة أن تسبك قوالب خاصة لهذه الحركات والسكنات والشدات والتنوينات توضع في مواطنها إلى جانب الحروف منفصلة قائمة بذاتها، لئن كان هذا، فإن الذي يكتب بيده لا يضع هذه العلامات منفصلة، بل حركة يده المستمرة هي التي تؤديها فتصلها حتما بالحروف فتخرج الكتابة الخطية فضلا عن تشويهها مرتبكة معقدة داعية إلى اللبس والاختلاط.
ثم إذا كان ما يلاحظ على طريقة الحروف اللاتينية أنها غير اقتصادية في الوقت ولا في العمل، فإن طريقة هذا المشروع بما فيه من الزوائد تربو كثيرا على ما يزيد في العمل والوقت إذا استعملت الحروف اللاتينية.
ومن جهة أخرى فإننا جميعا نشكو من الطباعة ومن التصحيف الذي يجري فيها فيحرف الكلمات ويشوش المعنى على القارئ. لكنا لو فكرنا قليلا لوجدنا أن العلة الأساسية لهذا التصحيف إنما هي ملل عامل الطباعة عندنا من صعوبة عمله؛ إذ بينما قوالب الحروف اللاتينية لا تزيد على (25 أو 26) خمسة وعشرين أو ستة وعشرين، وهو عدد حروف أبجديتها، فإن حروف الهجاء العربية فيها ثلاثة وعشرون حرفا، لكل واحد منها قوالب أربعة بحسب ما يكون منفردا، أو في أول الكلمة، أو في وسطها، أو في آخرها، فهذه (92) اثنان وتسعون قالبا. ثم الستة الباقية وهي الألف والدال والذال والراء والزاي والواو لكل منها قالبان بحسب ما يكون متصلا بغيره أو منفردا. فهذه اثنا عشر قالبا بها تكون جملة قوالب الهجاء العربي (104) مائة قالب وأربعة قوالب؛ أي أربعة أمثال قوالب اللاتينية. فتعدد القوالب يكسر قلب العامل، ويورثه السآمة والملل، فيخاطر بفضيلة الإتقان ويهرب منها؛ لأن وقته في العمل محسوب عليه، وتردده بين صناديق القوالب المختلفة للحرف الواحد يوقعه حتما في الخطأ ووجع الدماغ. لكن المشروع يلزم عاملنا فوق هذه المشقة بمشقة أخرى؛ هي أن يرجع أيضا لصناديق الضمة والكسرة والسكون والتنوين البسيط والتنوين المشدد مضموما ومفتوحا ومكسورا!
كل ذلك إذا فرضنا أن مراد المشروع هو استبقاء قوالب الحروف العربية بحسب ما هي عليه اليوم، في عددها وهيكلها الموجودين الآن، وأن تلك الزيادات إنما تأتي مجاورة لها غير متصلة بها. أما إذا فرضنا أن المراد هو أن تعمل في قوالب الحروف فجوات تتلبس بها هذه الشكلات، أو فرضنا أن المراد أن تكون بعض تلك الزوائد جزءا أصليا من بنية الحروف، إذا فرضنا ذلك فإن المصيبة على عامل المطبعة تكون أدهى وأمر.
لئن كان كل كتاب من كتبنا الأدبية أو العلمية التي تطبع الآن ينتهي بصحيفتين، أو أكثر لبيان ما وقع في الطبع من الخطأ وبيان صوابه؛ فإن زيادة العمل التي أتى بها المشروع ستضاعف الأغلاط والتصويبات.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الحروف اللاتينية إذا كانت تقطع بين الجديد والقديم، كما أشار إليه حضرة الأستاذ الجارم بك في رده الكتابي علينا، فإن طريقته تقطع بينهما أيضا؛ لأن من يتعودها لا يستطيع أن يقرأ رسم الكتابة الحالي. على أني كنت أود من صميم قلبي أن توجد طريقة لتيسير الكتابة العربية مع استبقاء حروفها الحالية ، ولا زلت أتمنى هذا، ولكني لم أظفر، وأتخيل أني لن أظفر بتحقيق هذه الأمنية المحببة لنفسي ولأنفس أهلي وأهل العربية. ومن يحقق لي هذه الأمنية - وهي جعل كل حرف في الكلمة يدل بذاته على صورته الصوتية دلالة صادقة - فإني أعده وعدا حقا بمكافأته جهد استطاعتي على أحسن وجه يكافأ به فاعل هذا الخير العميم.
مزايا استعمال الحروف اللاتينية (أ)
مزية
لا تخل بشيء من نغمات الحروف العربية، بل هي تبرزها جميعا بلا استثناء، وكل نغمة منها يشخصها كما هو الحال الآن حرف واحد لا يشترك غيره معه في أدائها، خلافا للحاصل في بعض النغمات التي يستعمل الإنجليز والفرنسيون والألمانيون والإيطاليون مركبا حرفيا لإبرازها. ثم هي لأدائها جميع نغمات العربية تفضل الطريقة التركية التي لا تؤدي الحروف المتخذة لها كل ما في اللغة التركية من نغمات اللسان التركي الأصلي، ولا من نغمات بعض حروف النغمات التي كانت مستعارة من العربية وغيرها. (ب)
أن حروف الهجاء العربية الموجودة الآن عدتها ثمانية وعشرون حرفا بعد استبعاد اللام ألف (لا) التي لا تؤدي نغمة خاصة. من هذه الثمانية والعشرين حرفا ثلاثة عشر فقط غير منقوطة، أما الخمسة عشر الباقية - وهي أكثر من النصف - فكلها منقوطة؛ منها ما له نقطة واحدة من تحته أو من فوقه، ومنها ما له نقطتان من تحته أو من فوقه، وما له ثلاث نقط من فوقه.
أما الحروف المقترحة فعدتها تسعة وعشرون حرفا، منها عشرون غير منقوطة، أما التسعة الباقية فمنها خمسة حروف فقط هي المنقوطة، وهي «ج، خ، ض، ظ، غ»، وكلها مأخوذة من العربية، ولكن كلا منها ليس له إلا نقطة واحدة من فوقه ما عدا الجيم، أما الأربعة الأخرى فقد أضيف للأصل اللاتيني لكل منها شرطة أفقية لتحديد النغمة التي اتخذ لها، كما أن حروف الحركة ليس منقوطا منها سوى
i
المتخذ للكسرة.
وبما أن كثرة النقطات واختلاف أعدادها ومواضعها هي، كالشكل، من الأسباب المشوشة للرسم، المضللة للقارئ، الموقعة في ضروب من الخطأ والتصحيف؛ فلا شك أن طريقة الحروف اللاتينية التي لا يكثر فيها النقط ولا تختلف أعداده ولا جهات مواضعه، بل ينزل إلى وحدته الصغرى وتقل مواضعه وتتوحد جهتها (ما عدا الجيم) - لا شك أن لها فائدة كبرى من هذه الناحية التي تعم فيها بلوى الرسم العربي وتكثر منه الشكوى، وعلى الأخص في المخطوطات. (ج)
أن اتخاذ حروف الحركة يضبط كيفية أداء الكلمة ويحصر هذا الأداء في وجه واحد بعينه لا يحتمل شكا ولا اشتراكا، فأوزان الأفعال المجردة والمزيدة والماضي منها والمضارع والمبني للمعلوم والمبني للمجهول وأوزان الاسم، والممنوع من الصرف، وحركات البناء وحركات الإعراب جميعها؛ من فتح وضم وكسر وسكون وشد وتنوين بسيط وتنوين مشدد، ومواطن الشد في الأسماء والأفعال والحروف، كل ذلك يؤديه رسم الكلمة بذاته على ذلك الوجه المعين الموحد بدون احتياج لشكلات أو زيادات أو أية وسيلة أخرى. وهذا منتهى ما يتمناه كل محب للعربية. (د)
أن الحروف اللاتينية ترسم في المطبوعات كل بأصل هيكله المعين له، وتوضع في الكلمة الواحدة متجاورة فقط لا متصلا بعضها ببعض ولا مجنيا على أصل هيكلها باتصال متعدد الهيئات، كما هو الشأن في الرسم الحالي. ثم هي في المخطوطات اليدوية ترسم كذلك غير متصلة إلا بذنباتها الطرفية مع بقاء جوهر هيكلها سليما محفوظا من كل تغيير مضلل. هذا الرسم البسيط المدرجة في غضونه حروف الحركات، فيه ما لا غاية بعده من تسهيل القراءة الصحيحة على الكافة. وحسب معلمي الأطفال أن يفهموهم نظرية المقاطع - وهي بسيطة كما أسلفنا - حتى يستطيع الطفل أن يقرأ أي مطبوع بعد نحو شهرين أو ثلاثة فقط، كما دلت عليه التجربة في تركيا، وكما هو مشاهد كل يوم في أولادنا الذين يتعلمون لغة أجنبية في مدارس الحكومة أو غيرها. فإنهم بعد زمن وجيز جدا يستطيعون قراءة أي نص مطبوع منها قراءة مضبوطة لا تحتمل شكا ولا تصحيفا. بينما هم قبل ابتدائهم تعلم اللغة الأجنبية، أو في الوقت نفسه الذي ابتدءوا فيه تعلمها، يكونون قد حوول تعليمهم العربية، لكنهم مع الجد في تعلمها وزيادة ساعات الحصص المقررة لها، يقضي الواحد منهم كل سني الدراسة من أولي وابتدائي وثانوي وعال أو جامعي، ويخرج بعد هذا الزمن الطويل العريض غير مستطيع - بسبب سوء الرسم - قراءة أي نص مطبوع - بله المخطوط - من لغته العربية قراءة صحيحة. وهي خصوصية جهل لا تتحقق في أمة من الأمم المجاورة لأوروبا إلا في أهل العربية، حتى ليصح أن يعرف الواحد منهم - أنا أو غيري ممن ليسوا هنا - بأنه «كائن عريض الأظفار، كاتب، قارئ، جاهل قراءة ما يكتب هو وما يكتب له قراءة صحيحة!» يا للخسار، ويا للعار والشنار!
وبعد هذا يتهمون المعلمين بالقصور أو التقصير، ويفرضون لهذا المجمع اللغوي قوة سحرية لم يهبها له الله ولم يكسبها أحد من أعضائه بعمله، فيطلبون إليه تحسين شأن العربية! كيف يكون هذا التحسين والوسيلة الأساسية إليه خائبة كما ترى؟! (ه)
أن طريقتنا التي توجب كتابة كل كلمة قائمة بذاتها من أسماء ظاهرة وضمائر وصفات وظروف وحروف، وعدم وصل كلمة بأخرى إلا عند التعذر كما سبق البيان، وأن يكون رسم كل كلمة مستوفيا صورته اللغوية الوضعية، وأن يكتب الحرف الأول من الأسماء وحدها بخط كبير (في كتب الهجاء والتمرين للأطفال فقط)، هذه الطريقة فيها كل تسهيل للتعليم والتعلم؛ إذ المبتدئ بمجرد نظرة يلقيها على النص المكتوب يدرك الاسم ويدرك الضمير ويدرك الظرف ويدرك كل حروف المعاني التي اعتادها، فتضيق الدائرة التي يبحث فيها عن الفعل وعن المصادر والصفات، وهي فائدة لا تخفى على أحد. (و)
إن المعلمين ليخدعون أنفسهم عندما يصححون ورقة الإنشاء الذي هو أهم ما يقصد من التعليم، ذلك بأن التلاميذ لا يستعملون الشكل، بل يكتبون الكلمة محتملة لأوجه مختلفة من الأداء؛ فالمعلم يقرؤها على الوجه الصحيح، فيظن أن التلميذ كتبها على هذا الوجه، وغالبا ما يكون هذا غير موافق للواقع من نية التلميذ. فإذا كتب التلميذ فعل «ظفر يظفر» من غير شكل فإن المعلم يقرأه على هذا الوجه الصحيح (المشكول هنا)، ولو أنه سأل التلميذ قراءته فغالبا ما يقرؤه «ظفر يظفر أو يظفر» على هذا الوجه غير الصحيح. لكن الأستاذ لا يسأل أحدا من تلامذته قراءة ورقة الإنشاء. وهذا كتم للدم على القبح. أما لو أن كتابة التلميذ كانت بالحروف اللاتينية لما انخدع المعلم ولما بقي التلميذ قارا على خطئه. (ز)
بل كما يخدع التلميذ معلمه - بقصد أو بغير قصد - فإن رسم العربية الحالي ييسر لكثير من الكتاب أن يعيشوا بجهلهم على حساب سلامة نية القراء؛ فبعض من يضعون مقالات ويرسلونها - مثلا - إلى الأستاذ أنطون الجميل بك لنشرها في جريدة الأهرام التي يديرها، إذا هم كتبوا فعل «ظفر» ماضيا أو مضارعا كما كتبه التلميذ، فإن حضرة أنطون بك يقرؤه صحيحا كما يقرؤه المعلم، ويظن أن نية محرر الرسالة عند الكتابة إنما هي تعمد الوجه الصحيح. فيستمر محرر الرسالة على جهله لأن المدير في الغالب لا يراه ولا يلاحظ له على رسالته شيئا. لكن لو أن الكتابة هي بالحروف اللاتينية لألقى كل كاتب باله لما يكتب؛ لأن خطأه يكون بارزا يلحظه مدير الجريدة وغيره عند القراءة ويقدر درجة علمه بالأوضاع العربية أو جهله بها. وإلقاء البال مفيد جدا في تعويد الكتاب أوضاع الفصحى ومفيد في تعميمها. (ح)
أن الطفل متى انتهى في زمن وجيز - بسبب الحروف اللاتينية - إلى صحة القراءة، توافر له الزمن ولو للعب وتنمية جسمه. ومتى شب وقراءته صحيحة استفرغ مجهوده للعلم دون سواه. وهذه مزية كبرى. (ط)
أن هذا الطفل متى تعود من صغره صحة النطق بالألفاظ العربية أصبحت هذه الصحة عادة له في كتابته وقراءته، وامحت من خلايا مخه الأوضاع الخاطئة، وأصبح ينكر كل خطأ منها ويعده شذوذا. وهذه من أكبر المزايا المرقية للعربية والداعية لتعميمها. (ي)
أن بلاد العربية بسبب موقعها الجغرافي وكونها الممر الطبيعي بين الشرق والغرب، وزيادة طرق المواصلات العالمية، وعدم إمكان إغلاق حدودها أبدا دون الأجانب، لا بد لأهلها من تعلم لغة من اللغات الأجنبية الحية حتى يسايروا غيرهم من الأمم وينقلوا عنهم ما عندهم من العلوم والفنون والصناعات التي تيسر سبيل الحياة. وهذه حقيقة أدركتها مصر وغيرها، فلا تخلو بلد منها من تعليم لغة أجنبية كالإنجليزية أو الفرنسية، بل وكالإيطالية والألمانية وغيرها - على التوزيع - في معظم مدارسها. فالطفل الذي يتعلم العربية على الطريقة التي نقترحها يسهل عليه جدا سرعة تعلم أية لغة من تلك اللغات الحية؛ وذلك بسبب توحيد أشكال الحروف بينها وبين العربية، وعدم وجود ثنائية
11
في هذه الحروف وفي طريقة الكتابة تتعب الطفل وتوقعه في الارتباك، كما نشاهد جميعا في أطفالنا الذين يتعلمون لغة أجنبية مع العربية في آن. (ك)
طريقة الحروف اللاتينية تسهل قراءة الأعلام الأجنبية والكلمات المعربة، ومنها الاصطلاحات العلمية وهي كثيرة، وتسهل على الأخص ما كان من تلك الكلمات والمصطلحات فيه جزء من أصل يوناني أو لاتيني؛ إذ هي تعين على فهم معناها فهما صحيحا بفهم ذلك الجزء اليوناني أو اللاتيني القديم. وهذه ميزة من أكبر الميزات؛ فكلنا يعلم أن كتابة تلك الأعلام والمصطلحات بالرسم العربي تنكر المعنى وتشوه طريقة أداء الأصل بحسب ما يؤديه به أهله المنقول هو عنهم. (ل)
من مزايا هذه الطريقة أنها تسهل على الأجانب تعلم العربية، وقد تمنعهم من تشويه أعلامنا وتنكيرها علينا، نحن أهل العربية، كما شوهوا أسماء: محمد وابن سينا وابن رشد والقاهرة مثلا، فجعلوها «مهمت، أفيسين، أفيرويس، كيرو أو كير.» ولا شك أن للعربية ولأهلها مصلحة كبرى في نشرها بين الأجانب، كما أن لها ولهم مزية كبرى في عدم تشويه أسماء رجالها العظام وتنكيرها هي والأعلام الجغرافية وغيرها، لدرجة أن قارئها منا بلغتهم لا يفهم غالبا حقيقة علمنا المشوه. (م)
أن بعض النغمات الخاصة بالعربية ما دام لها حرف مفرد واحد فالإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها، لا بد أن يفكر أهلها يوما ما في اتخاذ حروفنا المفردة بدل مركباتهم المزجية، فيستعملوا حرف
t (وعليه شرطة ثانية) وحرف «خ» بدل
Kh. Ch. Th. . ويستعملوا «ح، ع» فيما ينقلونه عن العربية بدل استعمالهم حرفي
a, h
اللذين لا يؤديان النغمة. وفي هذا تسهيل علينا لفهم ما يقصدون . (ن)
أن طريقة الحروف اللاتينية تسهل الطباعة تسهيلا كليا علينا وعلى غيرنا ممن يطبعون شيئا من نصوصنا العربية، ففيها اقتصاد عظيم في العمل وفي الزمن، ثم في النفقات أيضا لاشتراك معظم الحروف بيننا وبين غيرنا. (س)
أنها تطمئن مؤلفي الكتب الأدبية وتؤمنهم مما يتقون من تصحيف الطابعين والقارئين، وتوفر عليهم ما نجده في كتبهم من قولهم - تحديدا لنغمة حروف الكلمات وحركاتها: «بالنون، بالتاء المثناة، بالثاء المثلثة، بالباء الموحدة، بالقاف المثناة.» وقولهم في ضبط كلمة «وضم» مثلا: «بفتح الواو، تتلوها ضاد موحدة الفوقية وزان قمر.» وهكذا من التوصيفات التي تشغل بالهم وتزيد عملهم وتضيع وقتهم، والتي لا نجد لها مثيلا في أي كتاب أدبي أجنبي نقرؤه. (ع)
أنها تعفي كتبنا الأدبية والعلمية من الدلالة الإشارية لعبارة «جل من لا يسهو.» أي من معرة الأخطاء الكثيرة والتصويبات التي لا يخلو منها آخر؛ أي كتاب عربي. وتعفينا من تصوير مصحح الكتاب لملله وحرق نابه على الطابعين؛ إذ يقول بعد صحف الخطأ والصواب: «وهناك بعض أخطاء مطبعية لا تخفى على القارئ.» والواقع أن الذي هناك لا بعض أخطاء، بل جمهرة من الأغلاط يخشى صاحب الكتاب أو مصححه أن يلح على الطابع في تصحيحها فلا يلقى منه إلا المهاترة والإعنات.
خلاصة
ها قد علمتم أضرار الرسم الحالي، وأنه هو علة العلل في صعوبة لغتنا العربية، وأنه هو المنفر منها والمانع من جريان الألسن بها، ورأيتم ضرر رسمها المقترح بالأحرف العربية المستعملة الآن مع وصلها بجميع الشكلات، ما عدا الفتحة، وقليلا من غيرها في صور استثنائية قليلة، وأن هذا الرسم، فوق كونه قاطعا أيضا بين الحديث وبين القديم من آثار السلف، سواء في المطبوعات والمخطوطات، فإنه دميم الديباجة، ظاهر التعسير، بعيد عن التيسير.
علمتم ورأيتم هذا وذاكم، ورأيتم طريقة الحروف اللاتينية التي أقترحها، وعلمتم أنها الوسيلة الوحيدة المتعينة لتجلية لغتنا الفصحى في جلالها وجمالها على الوجه الواحد المتعين من أوجه النطق بكلماتها، وأن هذا متى تحقق اعتادها الناس من أول تنشئتهم بدور التعليم، وامتنعت الاشتراكات اللفظية والمداورات والتصحيفات المتفشية ، وسهلت أعمال الطباعة في المطابع أو بالآلات الكاتبة، وأن هذا هو خير ما ييسر الفصحى ويعممها في بلاد العربية ويستميل لها من يريد من الأجانب. وفي اعتقادي أن هذا خير ما يخدم به مجمعكم لغتنا الجميلة الأبية، المستعصية على طلابها، وأن كل الأبحاث الأخرى التي يشتغل بها هي دون هذا في الأهمية بمراحل.
كلمة أخيرة
إني أتحسس أنكم، وإن كنتم متبينين صحة اقتراحي، وأنه هو الطريقة الوحيدة التي تخدم بها العربية وأبناؤها، إلا أنكم تقفون أمامه متهيبين أن ينسب لكم الأخذ به.
أتحسس هذا مما أراه الآن فيكم من الإمساك عن الاعتراف بصدق شيء من المزايا التي بينتها، هذا الإمساك الذي ليس في نظري سوى محاكاة لمن ينكر ضوء الشمس وهي طالعة، أتحسسه وأتحسس علته أيضا عند الحاضرين منكم والغائبين.
فأما أحدكم حضرة الأستاذ الجارم بك، ذلكم الرجل اللغوي النحوي الأديب الشاعر العالم الذي لا يكل من العمل ولا يمل، فعلة انكماشه أن «كل فتاة بأبيها معجبة!»
وأما حضرة الأستاذ جب، ذلكم المستشرق العلامة الكبير الذي تحفز في الجلسة الماضية لإيصاد الباب دفعة واحدة في وجه اقتراحي، فإنه رجل من أهل التدقيق والتمقيق والتحقيق، ورسم الكتابة إذا تغير انهارت الأرض واختفى موضوع عمله، وأنس من نفسه عدم الرضا؛ لأن مشاقه أصبحت هينة. والرجل العظيم لا يرضى عن نفسه إلا إذا حملها أشد المشاق، و«على قدر أهل العزم تأتي العزائم.»
وأما رجلنا النابغة الدكتور طه بك حسين فإنه من خير عشاق العربية. وهو شخصيا يود أن لو استطاع تعليمها للناس وتفقيههم فيها في يوم واحد وليلة. لكنه بإغراقه في تمني هذا المستحيل أصبح - كما أشرت إليه في بعض الجلسات السابقة - لا يمل المحاردة والمناكفة بسببها كلما طاف به طيفها، فقارن بين حالها وحال ما يتقنه من لغة أجنبية حديثة أو قديمة. حتى لقد أصبحت هذه المناكفة بسبب العربية ديدنا له، ومن أخص لوازمه البادية للناس أجمعين. فلكأني به يريد استبقاء الرسم الحالي كيما يبقي الفرصة سانحة لمحاردة معلمي العربية بالمدارس في كل سنة وإسماعهم من قبل رجال وزارة المعارف وغيرهم تلك العبارة التي توجه لهم بقصد استنهاضهم من أنهم قاصرون أو مقصرون، ولو اتخذت الحروف اللاتينية لضاعت عليه تلك الفرصة المحببة إلى نفسه المتوثبة. لكني أعود فأقول إنه متى جد الجد زأر وحارد نفسه، وأبى أن يجعل عقله مطية لهواه.
وأما أستاذنا صديقي لطفي باشا السيد، فإن له في الأشياء والأحداث نظرة تعلو نظرتي ونظرة غيري. إنه رجل حكيم، تحمله فلسفته على اعتبار كل ما في هذا الوجود مستغلقا، وأن النافع والضار إنما هما وصفان لحقيقتين اعتباريتين، أو على الأكثر نسبيتين، وأن الحقيقة الحق عنقاء مغرب لا يعلمها إلا واجب الوجود. أما ابن آدم فلا يستطيع بعقله المحدود إدراك كنهها، بل إن شأنه في الحياة إنما هو محاولة تعليل ما يزعم أنه الحق، وإن كان هذا الحق الذي يزعم بعيدا عن حقيقة الحق بعد الأرض عن السماء!
ومن أجل هذا نسمع أستاذنا لطفي باشا كثيرا ما يردد قول شيخ المعرة جليس الدكتور طه بك وأنيسه:
إنما نحن في ضلال وتعل
يل فإن كنت ذا يقين فهاته
ومن أجل هذا فسيان عنده أن تبقى حروف العربية كما هي أو تستبدل بها الحروف اللاتينية أو الصينية.
أما باقي إخواننا الأجلاء - وهم في الطليعة من علمائنا وأدبائنا وشعرائنا - فعلة إمساك أغلبهم الخوف من قيام قيامة الناس - لا قيامة الحق - عليهم لو مسوا القديم. وكأني بهم يحبون ألا يذكروا من القواعد المعروفة إلا قاعدة «بقاء القديم على قدمه.» وعلى الأخص الأستاذ الشيخ المغربي الذي تحفز هو أيضا في الجلسة الماضية للحيلولة دون استيفاء بياني. لكني أصارحهم بما يعلمون ويهملون، أصارحهم بقاعدة «الضرر يزال»، وقاعدة «الضرورات تبيح المحظورات»، وقاعدة «درء المفاسد أولى من جلب المصالح» وأصارح الأستاذ المغربي بما تكرر وروده في القرآن الشريف من النعي على من يقولون:
إنا وجدنا آباءنا على أمة ... وأستغفر الله من أن أريد بالإشارة إلى الآيات الكريمة مثل المقام الذي نزلت فيه، وإنما ما ذكرت هو خير عبارة عربية أقتبسها للتعبير عن مرادي. ثم أصارحه بأن رسم العربية الحالي لم ينزل الله به من سلطان.
أصارح بهذا ثم أسترعي سمعكم إلى أن قصور رسم الكتابة العربية يحز في صدور أهل العربية من زمن طويل. ولو أعدتم الاطلاع على محاضر الجلسات التي وزعت عليكم من نحو عشرة أيام لرأيتم بمحضر جلسة 8 فبراير سنة 1941 أن نادي دار العلوم - وكل رجاله من معلمي العربية - قد اهتم من عهد بعيد بشيء بسيط من مسألة تيسير الكتابة العربية ولم يسفر اهتمامه عن نتيجة. ثم رأيتم أن هذه المسألة عرضت على مؤتمر المجمع في دورة سنة 38-39 أي من نحو خمس سنوات. وأن المؤتمر عين لبحثها لجنة مشكلة من حضرات الأساتذة المحترمين: الجارم بك، وإبراهيم حمروش، والخضر حسين، وعبد القادر المغربي. وأنه بجلسة 2 فبراير سنة 1941 تجدد اقتراح النظر فيها، بل إن وزارة المعارف أصدرت قرارا في 6 فبراير سنة 1941 عهدت فيه إلى المجمع بحثها كيما تصبح الكتابة بحيث «لا يتعرض قارئها للخطأ واللحن.» وطلبت إلى المجمع أن يفيدها بنتيجة بحثه لغاية سنة 1941، ولكن لم يستطع أحد إجابة وزارة المعارف بشيء، على أن البحث استمر. وبعد كل هذا الزمن الطويل لم نظفر إلا بذلك المشروع الذي قدمه حضرة الأستاذ الجارم بك بعد الكد والجد والاستعانة بثقة من الثقات الاختصاصيين في فني الخط العربي والطباعة. ولئن كنت اعترضت على ذلكم المشروع، إلا أني عندما يأتي دور النظر فيه سأبين لحضراتكم عيوبه تفصيلا ثم بالكتابة أيضا إذا شئتم.
12
على أني إذ أصارحكم بما قدمت، فإني في قرارة نفسي أشكو إلى الله وحده بثي وحزني من أن تلجئني ظروف العربية إلى اقتراح العدول عن رسمها إلى رسم أجنبي لا نحن منه ولا هو منا. إنها مرارة أتجرعها وأطلب إليكم أن تتجرعوها، وهذا علينا جميعا كثير جدا وجد أليم. غير أن المسألة مسألة حياة للعربية أو إزمان مرض، ثم موت يعجل به ما يبدو من الأمم القوية من العمل المتواصل على تبسيط لغتها لنشرها بين أمم الشرق الضعيف. وعملها هذا إذا كان - كما هو الواقع - من الضرورات الحيوية لنا سياسيا واجتماعيا، فإن ثمنه - بالبداهة العقلية - تراخينا في خدمة لغتنا، فإنه ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. واللغات كالسلع ينفق منها البسيط الرخيص ويكسد الغالي المتين. وليس بنافع في علاج لغتنا أن يقترح حضرة الأستاذ كرد علي بك - عقب مقاله التاريخي الضافي الذي تلاه على المؤتمر بالجلسة الماضية - إيجاب تعليم العربية تعليما عمليا بالتخفيف من قواعدها وبمضاعفة العناية - في المدارس - بتعويد الأطفال صحة النطق بها «أي سجية» كما كان ينطق الجاهليون، أو أهل صدر الإسلام. إنه اقتراح نظري ظريف، ولكن ما السبيل إلى تحقيقه مع تعقد الرسم الحالي؟
لقد فكرت كثيرا في إمكان تعديل الرسم العربي بصورة تؤاتي الناس في صحة النطق بالكلمات، فعجزت بعد طول التفكير، ويئست من إمكان تحقيق هذه الأمنية إلا «بالشكل» المتعذر في المخطوطات والجالب للضرر في المطبوعات، ورأيت أن لا سبيل سوى اتخاذ الحروف اللاتينية وما فيها من حروف الحركات، فاعتقدت بضرورتها. والضرورات - كما أسلفت - تبيح المحظورات.
ألا إن الأفراد بائدون، كل في ميقات يوم معلوم. أما النوع فباق إلى يوم يبعثون. ألا وإن أمم العربية أمامها في الوجود دهور ودهور لا يحصيها إلا ربك واجب الوجود الذي لا يعلم الغيب إلا هو.
ألا وإن الأحياء الذين يبغون استبقاء ما ألفوا، لو أرخوا أوكية صدورهم وخلوا بين دخائل أنفسهم وبين ألسنتهم، لنطقت هذه الألسن فشهدت عليهم أنهم إنما يحافظون لا على اللغة العربية، بل على ما في قماطرهم من ذخائر مؤلفات، كلفتهم هم وأسلافهم الهيل والهيلمان، وأن هذه الكتب بعينها لو وجدوها - بين غمضة عين وانتباهتها - قد رسمت لهم بأي رسم جديد ضابط لصحة أداء كلماتها، واق من شر التصحيف ومرارة التأويل، لهللوا وخروا لله سجدا على ما أفاء عليهم من هذا الفضل العظيم الذي وضع عنهم وطأة الإنفاق، وكفاهم شر الإملاق، وأن المسألة عندهم إنما هي مسألة مالية بحتة لا شأن لها باللغة التي يفيدها الرسم الجديد بما ييسر من صعوبتها. ثم لاستطردت فقالت - مترجمة عن باطنهم - إن كثيرا منهم أثرون، مبدؤهم: «أحيني اليوم وأمتني غدا!»
ألا إن باطنهم هذا الذي تشهد به ألسنتهم لو أطلقوها من عقالها، إنما هو وهم وخطأ بعيد! ليعش منهم من كتب الله له أن يعيش عمر نوح، ليعش ما شاء عاكفا على خزائن كتبه وليقرأها بذاتها إلى أن يموت، فإن أحدا لن يصادرها ولن يحرمه تسريح عينيه وتقريحهما فيها، ولن يسلبه ملكة قراءتها، ولكن ليشفق على العربية وعلى بنيه وذراريه، وعلى أمته وبلاد العربية جميعا! وهذه الشفقة لا تكلفه في حياته شروى نقير. وهو إذا مات فقد فات وانقطع عمله من الدنيا. وربما غفر الله ذنبه بدعوة صالحة يفيض بها قلب واحد ممن أراحهم الله من سوء رسم العربية!
ألا إني أحب العربية حبا جما، وأحب وطني وأرجو الخير له ولسائر بلاد العربية، وقد بدا لي أن ما أعرضه حق تدفع إليه الضرورة، فماذا أنتم فاعلون؟
لئن كنتم لاحظتم أني صريح في القول لا ألف ولا أداور، فإني أيضا ألاحظ هذا كمثلكم وعلى غراركم.
وليت شعري ما مبعث هذا الذي نلاحظه معا؟ أهو ضعف من جانبي في أدب السلوك؟ أم هو استحياء من الحق ألا آخذ بيده في مأزق يصطرع فيه مع الباطل؟ أم هو ضعف أمام نفسي التي تزعم لي أنها أكبر مني سنا وأسد رأيا، فتشمس علي وتتأبى أن أجشمها شيئا من المصانعة في الحق أو المداورة فيه؟ لا أدري!
ولكن الذي أدريه يقينا هو أني أؤمن بالله وحده وأكفر بآلهة التاريخ المعبودة من دونه. فسيان عندي ما تبرم تلك الآلهة في مغاور تزييفها من القالات والأساطير وما تنقض، وما تسجل في ألواحها الهبائية وما تمحو. ولكأن هذا هو مبعث ما لاحظتموه.
والآن فالخيرة لكم، إن شركتموني في وجهة نظري فذاكم، وإلا فبحسب نفسي رضا أني صدعت في قومي بكلمة أراها حقا.
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
13
عبد العزيز فهمي
ملاحق
ملحق رقم 1: بيان أحرف الهجاء العربية مرسومة بالأحرف اللاتينية وما لزم من العربية مع أسمائها
ملحق رقم 2: طريقة رسم بعض الأمثلة الواردة بالاقتراح (أ)
أنواع مقاطع الكلمات: (1) متحرك واحد. و(2) متحرك وساكن. و(3) متحرك وساكنان. و(4) متحرك وثلاثة سواكن. وقد وضع تحت كل مقطع رقم نوعه إن كان من النوع الأول، أو الثاني، أو الثالث، أو الرابع (فقرة 46): (ب)
الهمزة في أول الكلمة ممدودة أو غير ممدودة (فقرة 49): (ج)
همزة الوصل في درج الكلام (فقرة 49): (د)
وجوب وضع حرف حركة الضمة أو الكسرة قبل الواو أو الياء الممدودتين (فقرة 49):
ملحوظة: في التنوين يمكن أن يستغنى عن حرف الحركة والنون بوضع علاماته العربية الضمتين والفتحتين فوق الحرف المنون متى كان مفردا، أو فوق الحرف الثاني من المشدد، وبوضع الكسرة تحت المفرد أو الثاني من المشدد، فكلمات: بكر، بكرا، بكر، وبر، برا، بر. ترسم هكذا:
ملحق رقم 3: مقارنة الطريقة المقترحة بطريقة تيسير الكتابة مع الاحتفاظ بالحروف العربية
هاك عبارة ثم بيت شعر مرسومين بالطريقة الحالية، ثم بطريقة التيسير مع الاحتفاظ بالحروف العربية، ثم بطريقة الحروف اللاتينية. (1) خير البر ما تعهد به المرء نفسه وخير بر النفس أن تربأ بها عن مواقف الاعتذار الاعتذار.
السيف أصدق إنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب (2) (3)
Shafi da ba'a sani ba