كانت كل تلك الأسئلة والإجابات تدور بينهما بهمس، حتى لو لم يكن هناك أحد يسمع، حتى عندما يكونان في أرض أحلامهما البعيدة ... في الفراش. كانت كقصة ما قبل النوم؛ حيث تصبح التفاصيل أكثر أهمية، وبحاجة إلى إضافات في كل مرة، وكل ذلك بإحجام وممانعة يشوبهما الإقناع، وبخجل وضحكات، بل وبذاءة. ولم يكن هو وحده الذي يشعر بالشغف والإثارة والامتنان، بل كانت هي أيضا كذلك؛ كانت حريصة على أن تسعده وتجعله يشعر بالإثارة، وأن تشعر هي نفسها بالإثارة، وكانت تشعر بالامتنان في كل مرة كان ينجح فيها هذا الأمر.
ولكن في جانب من عقلها كان ذلك حقيقيا؛ فقد كانت ترى ذلك العجوز الشهواني، وحركاته المشينة أسفل الملاءة، حيث كان طريح الفراش حقا، ولا يتحدث كثيرا في الغالب، ولكنه كان ماهرا في لغة الإشارة، ويعبر عن رغبته وهو يحاول أن يكزها أو يتلمسها؛ لكي يدفعها أن تشاركه فيما يريده من أفعال وعلاقة حميمية. لقد كان رفضها ضرورة، ولكنه مخيب لآمال كلارك إلى حد ما وبطريقة غريبة.
وبين الحين والآخر تأتي على ذهنها فكرة تحاول قمعها خشية أن تفسد كل شيء؛ فقد كانت تفكر في ذلك الجسد الهزيل الملفوف بالملاءة، وهو تحت تأثير المخدر ويزداد انكماشا كل يوم في فراش المستشفى المستأجر، والذي لم تلمحه سوى مرات قليلة عندما تنسى السيدة جاميسون أو الممرضة إغلاق باب الغرفة، وكانت هي ذاتها لا تقترب منه بما هو أكثر من ذلك.
وفي واقع الأمر، كانت تخشى الذهاب إلى منزل عائلة جاميسون، لكنها كانت بحاجة إلى النقود، وكانت تشعر بالأسف من أجل السيدة جاميسون التي كانت تبدو كما لو كانت ممسوسة أو مرتبكة، كما لو كانت تسير وهي نائمة. ولمرة أو مرتين انفجرت كارلا ضاحكة وفعلت أشياء تافهة لمجرد أن تلطف الأجواء، وهو الشيء الذي تفعله مع أي متدرب جديد يمتطي الحصان لأول مرة ويشعر بالإحراج والخزي بسبب قلة مهاراته، وكانت تفعل نفس الشيء مع كلارك عندما لا تكون حالته المزاجية على ما يرام، ولكن لم يعد الأمر يفلح معه، غير أن قصة السيد جاميسون كانت قد نجحت، بالقطع ودون شك. •••
ليس ثمة وسيلة لتفادي تلك الأوحال المتراكمة في الممر، أو الحشائش الطويلة المغمورة بطول الطريق، أو نباتات الجزر التي أينعت حديثا، ولكن الهواء كان دافئا بدرجة لم تشعر معها بأي برودة. لقد ابتلت ملابسها كما لو أنها كانت بسبب العرق المتساقط منها أو بسبب دموعها التي انسابت على وجهها واختلطت برذاذ المطر. خفت دموعها الآن، ولم تجد شيئا تمسح به أنفها - فلقد تشبعت المناديل الورقية بالمياه - فانحنت نحو الأرض المغطاة بالأوحال وأخرجت ما في أنفها بقوة.
رفعت رأسها وراحت تطلق صفيرا طويلا كالذي اعتادت عليه لتنادي على فلورا وعلى كلارك أيضا. انتظرت بضع دقائق ثم أخذت تنادي باسمها، وراحت تكرر ذلك عدة مرات؛ فتنادي على الاسم وتطلق صفيرها.
ولم ترد عليها فلورا.
وبرغم هذا، كان هناك إحساس بالارتياح لشعورها بأن الألم الذي تشعر به الآن ما هو إلا لفقد فلورا - ربما فقدها للأبد - وذلك مقارنة بالفوضى التي اجتاحتها بشأن موضوع السيدة جاميسون وتعاستها المتأرجحة مع كلارك. على الأقل لم يكن غياب فلورا بسبب غلط اقترفته كارلا. •••
في المنزل، لم يكن هناك ما تفعله سيلفيا سوى أن تفتح النوافذ فحسب، وأن تفكر - بشغف أثار خشيتها دون أن يكون سببا في دهشتها - في موعد مجيء كارلا.
تم التخلص من كل الأدوات التي كان يستعملها في فترة المرض، وتنظيف غرفة النوم الخاصة به هو وسيلفيا - وهي الغرفة التي توفي بها - وترتيبها وكأن شيئا لم يحدث فيها. لقد ساعدت كارلا في كل ذلك، وعاونت بكل طاقتها أثناء تلك الأيام العصيبة ما بين حرق الجثة والسفر إلى اليونان. وقد جمعوا كل قطعة من الملابس التي ارتداها ليون وتلك التي لم يرتدها - بما في ذلك بعض الهدايا التي أهدتها له أخته والتي ما زالت في تغليفها - وحزموها داخل حقيبة السيارة وأعطوها «لمحل بيع الأشياء المستعملة». وحتى أقراص الدواء الخاصة به، وأدوات الحلاقة، وزجاجات المقويات التي لم تفتح، والتي كانت تقيم أوده طيلة الوقت، وعلب مقرمشات السمسم التي كان يتناول منها بالعشرات، وزجاجات الملطف البلاستيكية التي كانت تريح ظهره، وجلد الغنم الذي كان يضطجع عليه؛ فقد جمعت في أكياس القمامة وتم التخلص منها، ولم تحاول كارلا أن تقول أي شيء؛ فلم تقل قط: «ربما يمكن أن يستفيد منها شخص آخر.» أو أن تشير إلى أن هناك صندوقا بأكمله من زجاجات الدواء لم يفتح بعد. وعندما قالت سيلفيا: «ليتني لم آخذ الملابس إلى المدينة، ليتني قمت بإحراقها جميعا في المحرقة.» لم تعبر كارلا عن دهشتها.
Shafi da ba'a sani ba