لذا حتى الرجل المسئول عن شئون التعليم في هذا المكان لا يعتقد أن التعليم له علاقة بالحياة العملية، وكانت جريس عندما تخبر أي أحد عما اجتازته في المدرسة - حيث كانت تتحدث عن ذلك لشرح سبب تأخرها في ترك المدرسة الثانوية - تسمع عبارات من قبيل: لا بد وأنك كنت مجنونة.
كلهم قالوا ذلك فيما عدا السيدة ترافرس التي أرسلت إلى كلية الأعمال (التي تقتصر على دراسات السكرتارية والإدارة) بدلا من أن تذهب لكلية حقيقية؛ لأن من حولها أخبروها أن عليها أن تكون مفيدة، وهي التي تقول الآن إنها تتمنى لو كانت قد حشت ذهنها بدلا من هذا أو قبله بما ليس له فائدة على حد قولهم.
قالت: «ورغم ذلك كان يجب عليك بالفعل العمل لكسب قوت يومك. على العموم، فإن صنع مقاعد الخيزران يبدو أنه شيء مفيد على أي حال، وسنرى.»
نرى ماذا؟ لم تكن جريس ترغب في أن تفكر بالمستقبل على الإطلاق؛ كانت تريد أن تستمر الحياة كما هي عليه الآن، وقد استطاعت من خلال تبادل مناوبات العمل مع فتاة أخرى أن تحصل على إجازة أيام الآحاد بدءا من وقت الإفطار إلى نهاية اليوم، وكان هذا يعني أن عليها أن تعمل حتى وقت متأخر في أيام السبت. وفي حقيقة الأمر فإن هذا معناه أن تستبدل الوقت الذي تمضيه مع موري بالوقت الذي تقضيه بصحبة عائلة موري. لم يكن باستطاعتها هي وموري أن يشاهدا أي فيلم معا الآن، أو أن يتواعدا ويمضيا وقتا معا، لكنه كان يمر ليصحبها عندما ينتهي عملها في نحو الحادية عشرة مساء، ويتنزها بالسيارة، ويتوقفا لتناول الآيس كريم أو الهامبورجر؛ فقد كان موري حريصا على ألا يأخذها إلى أي من الحانات؛ لأنها لم تبلغ الحادية والعشرين بعد، ثم ينهيا رحلتهما بالتوقف بالسيارة في أي مكان.
وقد اتضح أن ذكرياتها عن الأوقات التي كانا يتوقفان فيها بالسيارة - والتي كانت تستمر حتى الواحدة أو الثانية صباحا - أكثر تشويشا من ذكرياتها عن الأوقات التي كانت تجلس فيها حول مائدة الطعام المستديرة في منزل عائلة ترافرس، أو عندما ينهض الجميع من أمام المائدة - حاملين في أيديهم أقداح القهوة أو العصائر الطازجة - ويجلسون على الأريكة المصنوعة من الجلد بلونها الداكن، أو الكراسي الهزازة ومقاعد الخيزران ذات الوسائد الوثيرة في طرف الغرفة (لم يكن هناك أي ضجة بشأن غسل الصحون أو تنظيف المطبخ؛ فهناك امرأة، تلقبها السيدة ترافرس «بصديقتي البارعة السيدة آبل»، تأتي في الصباح لتقوم بذلك).
وكان موري يجذب عادة بعض الوسائد ويضعها على السجادة ليجلس عليها، أما جريتشن - التي لم تكن ترتدي شيئا على العشاء سوى بنطالها الجينز أو سروال الجيش - فعادة ما كانت تجلس القرفصاء على أحد المقاعد العريضة. كانت هي وموري ذوي أكتاف عريضة، وقد ورثا بعضا من ملاحة أمهما؛ بشعرها المموج بلون الكراميل، وعينيها البنيتين اللتين يطل منهما الدفء. أما موري فاختص بغمازتين في وجنتيه، جعلته «وسيما» كما أطلقت عليه بعض النادلات الأخريات، وكن يطلقن صفيرا خافتا مبدين إعجابهن به. ورغم جمال السيدة ترافرس فإن طولها كان خمسة أقدام بالكاد، ولم تبد سمينة أسفل ردائها الطويل الفضفاض، وإنما ممتلئة الجسم مثل الطفل الصغير الذي لم يشب عن الطوق بعد. أما ذلك البريق ونظرات العزم والتصميم التي تطل من عينيها فلا يستطيع أحد أن يقلدها ولا يمكن توارثها، ولا حالة التفاؤل والبهجة التي تغمرها طوال الوقت. ولم يزين وجنتيها سوى ذلك الاحمرار الشديد الذي يشبه الالتهاب، والذي يحتمل أن يكون ناتجا عن خروجها مهما كانت حالة الطقس دون التفكير في حماية بشرتها. وكقوامها الممتلئ، وفستانها الفضفاض كانت بشرتها تعكس مدى شخصيتها المستقلة.
وفي بعض الأحيان يأتي بعض الضيوف، بجانب العائلة، في أمسيات الآحاد هذه. ربما يأتي زوجان، وربما شخص واحد، وفي الغالب يقاربون السيد والسيدة ترافرس في العمر وفي الشخصية؛ حيث تجد النساء تتسم بالذكاء والتحمس، بينما تجد الرجال أهدأ وأبطأ، وأكثر تسامحا. وكانوا يقصون حكايات مسلية؛ حيث كانوا يتندرون في الغالب على أنفسهم (أصبحت جريس تنهمك في الحديث لفترات طويلة الآن لدرجة أنها قد تسأم من ذاتها في بعض الأحيان، وأصبح من الصعب أن تتذكر كيف كانت تبدو تلك الحوارات على العشاء شيئا جديدا بالنسبة لها في أول الأمر. ومن حيث أتت من مدينتها الصغيرة، كانت معظم الحوارات المرحة التي تدور هناك أساسها النكات الخارجة، والتي لم يكن ليشترك فيها بالطبع عمها أو عمتها. وفي مناسبات نادرة، عندما يكون لديهم صحبة، كان الحوار يأخذ شكل إطراء على الطعام أو اعتذار عنه، أو مناقشة بشأن أحوال الطقس تصاحبها رغبة شديدة في أن تنتهي الوجبة بأسرع وقت ممكن).
وإذا ما كان الطقس باردا بعد انتهاء العشاء في منزل عائلة ترافرس، فإن السيد ترافرس يقوم بإشعال المدفأة، وكانوا يلعبون ما أسمته السيدة ترافرس «لعبة الكلمات البلهاء»، وينبغي أن يكون الأشخاص الذين يلعبونها على قدر من الذكاء، حتى لو كانوا يفكرون في تعريفات سخيفة. وأثناء اللعبة تجد الشخص الذي كان هادئا وقت العشاء وقد بدأ يشارك ويتألق، وتتولد وتبنى المناقشات الساخرة حول بعض المزاعم السخيفة اللامعقولة. كان وات زوج جريتشن يقوم بذلك، ثم أصبحت جريس تشارك أيضا، الأمر الذي أسعد السيدة ترافرس وموري (فيهتف موري مثيرا بهجة الجميع فيما عدا جريس: «أرأيتم؟ ألم أقل لكم إنها تتسم بالذكاء؟») وكانت السيدة ترافرس نفسها هي التي تقود اللعبة بتكوين الكلمات وتدافع عنها بشدة، مؤكدة على أنه لا ينبغي أن تتحول اللعبة إلى الجد، أو أن يشعر أي لاعب بالتوتر الزائد.
والمرة الوحيدة التي لم يسعد فيها أي شخص باللعبة كانت عند حضور ميفيس - زوجة نيل ابن السيدة ترافرس - لتناول العشاء. وكانت ميفيس وطفلاها لا يقطنون بعيدا؛ بل كانوا يقيمون في منزل والديها بالقرب من البحيرة. ولم يكن موجودا في تلك الليلة سوى العائلة وجريس، وكان من المتوقع أن يصطحب كل من ميفيس ونيل طفليهما الصغيرين معهما، لكن ميفيس أتت بمفردها؛ لأن نيل - الذي يعمل طبيبا - كان مشغولا في عمله في نهاية هذا الأسبوع في أوتاوا. وشعرت السيدة ترافرس بخيبة أمل، لكنها استعادت بهجتها وقالت في حيرة مرحة: «لكن الطفلين ليسا في أوتاوا بالتأكيد؟» «لا، للأسف، ولكنهما ليسا لطيفين، وأنا على ثقة من أنهما سيصيحان طوال العشاء؛ فقد أصيب الرضيع بحرارة شديدة، والله وحده يعلم ماذا ألم بمايكي.»
كانت امرأة نحيفة القوام أكسبتها الشمس لونا برونزيا، ترتدي فستانا أرجوانيا، وقد عقصت شعرها الأسود الداكن للخلف بشريط أرجواني يتناغم مع ردائها. كانت جميلة، لكن تعلو جوانب فمها علامات الضجر والاستياء. تركت معظم طعامها في الصحن، موضحة أنها مصابة بالحساسية ضد الكاري.
Shafi da ba'a sani ba