Yakin Daular Manzon Allah (Sashe na Farko)
حروب دولة الرسول (الجزء الأول)
Nau'ikan
ومن ثم تخبرنا صدور كتب السير والأخبار، بتسامح مطاط في قبول أي دين وأي معتقد، مهما بدا شاذا وغير مألوف، شرط أن يكون دافعا لمزيد من الحضور التجاري، أو على الأقل شرط ألا يكون متضاربا مع المصلحة التجارية. وكان أمرا مفروغ الحدوث، أن يبلغ ذلك التناقض مداه على كافة المستويات.
فعلى المستوى الاقتصادي، كان تركز الثروة بيد أفراد دون آخرين داخل القبيلة، دافعا لمزيد من تناقض الشكل القبلي والمحتوى الطبقي. وكان مفترضا وصول التناقض لمرحلة التفجر لصالح المحتوى الطبقي، لولا أن الشكل القبلي كان يؤدي للقيادة المكية ولمصالح الملأ تحديدا، مكسبا أكبر من التحول النهائي نحو الشكل الطبقي؛ لأن بقاء القبيلة وإطالة أمدها، كان يعني مزيدا من التراكم الثروي لأرستقراطية مكة، وهو الأمر الذي يفسره المستوى الفكري.
وعلى المستوى الفكري: نحتاج بعض التأني هنا لنحاول وضع لوحة واضحة للمستوى الفكري والمحتوى المعرفي لهذه المرحلة.
معلوم أن عجز الإنسان وضعفه أمام ظواهر الطبيعة المتقلبة وقواها، مع قصور تجربته ومعرفته، كان هو الدافع لتصور قوى مفارقة «ميتافيزيقية»، هي التي تقف وراء متغيرات الطبيعة وثوراتها وغضبها وسكونها. ولأن تلك الظواهر لم تكن مفهومة، فقد جاءت تلك القوى أيضا غيبية؛ ولذلك ارتبطت عقائد الناس في أربابها بوسطها البيئي؛ حيث عبرت عن ذلك الوسط وأظهر مظاهره وأكثرها تكرارا وديمومة، ومن هنا قدس العربي أجرام السماء التي تظهر بكل وضوح في ليله الصحراوي المنبسط، دون حواجز حتى الأفق بدائرته الكاملة، كما قدس الأحجار بخاصة ذات السمات المتفردة منها، فبيئته رمال وصخور وأحجار وقد غلب انتشار الصخور البركانية في جزيرة العرب لانتشار البراكين فيها، وأطلقوا عليها اسم الحرات من الحرارة والانصهار.
لكن اتساع رقعة الجزيرة على خطوط عرض واسعة أدى إلى تباين ظروف البيئة والمناخ مما أدى إلى تعدد مماثل في الظواهر، وبالتالي تعددية في العبادات. هذا ناهيك عن وعورة المسالك في الجزيرة؛ والتي أدت إلى ما يشبه العزلة لمواطن دون مواطن، خاصة تلك التي في الباطن، مما أدى إلى احتفاظها بألوان من العقائد الموغلة في قدمها وبدائيتها، نتيجة عدم الاحتكاك بالثقافات الأخرى التي تساعد على تطور الراسب المعرفي، ومن ثم العقائدي.
وهكذا يمكنك أن تجد إضافة لعبادة أجرام السماء وعبادة الأحجار والصخور بقايا من ديانات بدائية كالفيتشية والطوطمية، وعبادة الأوثان وعبادة الأسلاف.
والفيتشية أكثر ديانات الجزيرة انتشارا بين أهلها، وهي تقدس الأشياء المادية كالأحجار؛ للاعتقاد بوجود قوى سحرية خفية بداخلها، أو لأنها قادمة من عالم الآلهة في السماء أو من باطن الأرض حيث عالم الموتى. وقد ظلت تلك العقائد قائمة حتى ظهور الإسلام.
أما الطوطمية، التي تعتقد بوجود صلة لأفراد القبيلة بحيوان ما مقدس، فتظهر في مسميات قبائل العرب (أسد، فهد، يربوع، ضبة، كلب، ظبيان ... إلخ)، لذلك كانوا يحرمون لمس الطوطم أو حتى التلفظ باسمه؛ لذلك كانوا يكنون عنه؛ فالملدوغ يقولون عنه السليم، والنعامة يكنى عنها الملجم، والأسد أبي الحارث، والثعلب ابن آوى، والضبع أم عامر، هكذا. هذا إضافة إلى تقديس الأشجار، مثل ذات أنواط التي كانوا يعظمونها، ويأتونها كل سنة فيذبحون عندها ويعلقون عليها أسلحتهم وأرديتهم.
كذلك عبد العرب كائنات أسموها «الجن» خوفا ورهبة، ودفعا لأذاها، وظنوها تقطن الأماكن الموحشة والمواضع المقفرة والمقابر. وكان العربي إذا دخل إلى موطن قفر حيا سكانه من الجن بقوله؛ عموا إظلاما، ويقف قائد الجماعة ينادي: إنا عائذون بسيد هذا الوادي. وتصوروا الجن كحال العرب، فهم قبائل وعشائر تربط بينهم صلات الرحم، يتقاتلون ويغزو بعضهم بعضا، ولهم سادة وشيوخ وعصبيات، ولهم من صفات العربان كثير، فهم يرعون حرمة الجوار ويحفظون الذمم ويعقدون الأحلاف، وقد يتقاتلون فيثيرون العواصف، ويصيبون البشر بالأوبئة والجنون. وقد نسبوا إلى الجن الهتف قبل الدعوة مباشرة، حيث كثرت الهواتف أي الأصوات التي تنادي بأمور وتنبئ بأخرى بصوت مسموع وجسم مرئي. وقد اعتمد الكهان على تلك الاعتقادات فزعموا أنهم يتلقون وحيهم عن الجن، وأن بإمكانهم الصعود إلى السماء والتصنت على مصائر البشر في حكايات الملأ الأعلى مع بعضهم عمن في الأرض، وإن الكاهن بإمكانه معرفة مصائر البشر عبر رفيقه من جواسيسه على السماء من الجان.
أما أشد العبادات انتشارا وأقربها إلى الظرف المكاني والمجتمعي، فهي عبادة الأسلاف الراحلين. ويبدو لنا أن تلك العبادة كانت غاية التطور في العبادة في العصر قبل الجاهلي الأخير، حيث كان ظرف القبيلة لا يسمح بأي تفكك نظرا لانتقالها الدائم وحركتها الواسعة وراء الكلأ، وهو التنقل الذي يلزمه لزوجة جامعة لأفرادها، تم تمثله في سلف القبيلة وسيدها الراحل الغابر، فأصبح هو الرب المعبود وهو الكافل لها الحماية والتماسك، بوصفها وحدة عسكرية مقاتلة متحركة دوما. فاستبدلت بمفهوم الوطن مفهوم الحمى، والذي يشرف عليه سيدهم وأبوهم القديم وربهم المعبود، حيث تماهى جميع أفراد القبيلة فيه. ومن هنا كان الرب هو سيد القبيلة الراحل القديم، الذي تمثلوه بطلا مقاتلا أو حكيما لا يضارع، ومن ثم تعددت الأرباب بتعدد القبائل، ونزعت القبائل مع ذلك نحو التوحيد. وهي المعادلة التي تبدو غير مفهومة للوهلة الأولى، لكن بساطة الأمر تكمن في أن البدوي في قبيلته كان لا يعبد في العادة ولا يبجل سوى ربه الذي هو رمز عزته ورابط قبيلته، ولا يعترف بأرباب القبائل الأخرى، وهو الأمر الذي نشهد له نموذجا واضحا في المدون الإسرائيلي المقدس، حيث عاش بنو إسرائيل ظروفا قبلية شبيهة، فيقول سفر الخروج: «من مثلك بين الآلهة يا رب.» أي أن القبلي كان يعرف أربابا أخرى لقبائل أخرى، لكن ربه هو الأعظم من بينها؛ لذلك كان البدوي في قبليته يأنف أن يحكمه أحد من خارج نسبه، لأن نسبه هو ربه هو سلفه، هو ذاته، هو كرامته وعزته؛ لذلك كانت عبادة الأسلاف أحد أهم العوامل في تفرق العرب القبلي، وعدم توحدهم في وحدة مركزية تجمعهم.
Shafi da ba'a sani ba