والقصاص كما يقع عند الفتك بالأرواح يجري في الجراحات والجناية على الأطراف، قال الله تعالى:
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ، وهذه الآية يشملنا حكمها، وإن نزلت تبيانا لما كتب على الأمة الإسرائيلية؛ لأن ما يقصه الله علينا من شرائع الأمم المتقدمة، ولم يرد في الشريعة الإسلامية ما يخالفه - أخذنا به أسوة، وكان العمل بموجبه ضربة لازب.
ولمكان العناية بحفظ الدماء بنيت أحكامها على أساس الاحتياط؛ حتى لا يجد الأشقياء ذريعة إلى إهدارها، ومن هذا اتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتل الجماعة الكثيرة بالواحد، وإن كان القصاص يقتضي المساواة، وقتل عمر بن الخطاب سبعة من أهل صنعاء، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به. ويقتص ممن قتل في حال سكر وإن لم يكن متعمدا؛ لئلا يتخذ السكر وسيلة إلى إنهار الدماء في سبيل الأغراض.
وشرع الإسلام الدية على القاتل تخفيفا ورحمة، وأقامها مقام القصاص إذا رضي بها أولياء القتيل وآثروها على الأخذ بالثأر، فقد تكون الدية أصلح لهم من القصاص وأجدى نفعا، زيادة عما فيها من إبقاء نفس مسلمة تتناسل ذريتها في الإسلام.
هذا حكم القاتل عمدا تؤخذ الدية من ماله ويجلد مائة ويسجن سنة كاملة مزجرة له عن إتلاف النفس بغير حق، وأما إذا قتل خطأ فتفرض على العاقلة من قرابته، وليست الدية في قتل الخطأ من قبيل العقوبة على الذنب، حتى يشكل علينا وضعها على العاقلة بقوله تعالى:
ولا تزر وازرة وزر أخرى ، ونحوه من النصوص الدالة على أن الإنسان لا يؤخذ بزلة غيره، ولكنها فرضت للأخذ بخاطر المصابين وتخفيفا لوقع المصيبة عليهم، وإن كانت لا تخلو من حكمة التضييق على الجاني؛ ليأخذ حذره، ولا يتساهل في إهدار الدماء المعصومة. وإيجابها في ذمة القاتل وحده وهي مقدار جسيم من المال يضر به كثيرا؛ إذ لا يؤمن أن يتكرر خطؤه فتأتي على جميع ماله، وعدم قصده للجناية عذر يقتضي التخفيف عنه والرفق به، فناسب إيجابها على من عادتهم القيام بنصرته عند الشدائد، وهم عاقلته، ففرضت في أموالهم على وجه المساعدة والصلة الواجبة بحق القرابة، كما وجبت النفقات على بعض الأقارب، وكما يجب فكاك الأسير من بلد العدو.
لا يحل دم امرئ إلا لأسباب تكون الفتنة فيها أشد من القتل، مثل الزنا من المحصن، فإن الزاني يبذر نطفته على وجه تجعل النسمة المخلقة منها مقطوعة عن النسب إلى الآباء، والنسب معدود من الروابط الداعية إلى التعاون والتعاضد، فكان السفاح سببا لوجود الولد عاريا من العواطف التي تربطه بأولي قربى يأخذون بساعده إذا زلت به نعله، ويتقوى به اعتصابهم عند الحاجة إليه، وفيه جناية عليه وتعريض به لأن يعيش وضيعا بين الأمة مدحورا من كل جانب، فإن الناس يستخفون بولد الزنا، وتنكره طبائعهم، ولا يرون له في الهيئة الاجتماعية اعتبارا. ثم إن الغيرة التي طبعت في الإنسان على محارمه، والحرج الذي يعلو صدره عند مزاحمته على موطوءته مظنة لوقوع المقاتلات وانتشار المحاربات؛ لما يجلبه هتك الحرمة للزوج وذوي القرابة من العار الفظيع والفضيحة الكبرى، فاقتضى هذا الفساد الناقض لقاعدة العمران أن يفرض له حد وجيع هو الرجم إن كان ثيبا ، وهذا من الحدود المتوارثة في الشرائع السماوية كالقصاص والقطع في السرقة، وأما إن كان بكرا فيجلد مائة، قال تعالى:
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، واكتفي بإيلام بدنه بالجلد، ولم يعاقب بالقتل؛ لأنه لم يتقدم له نكاح كالثيب عرف به طريق العفاف، وشاهد منه كيف يقع الاستغناء عن الفروج المحرمة، وهذا شيء من العذر فارق به الثيب، وأوجب له عصمة دمه.
الحرية في الدين
قرر الإسلام في معاملة الأمم التي يضمها تحت حمايته حقوقا تضمن لهم الحرية في ديانتهم، والفسحة في إجراء أحكامها بينهم، وإقامة شعائرها بإرادة مستقلة، فلا سبيل لأولي الأمر على تعطيل شعيرة من شعائرهم ولا مدخل للسلطة القضائية في فصل نوازلهم الخاصة، إلا أن يتراضوا عن المحاكمة أمامها، فتحكم بينهم على قانون العدل والتسوية، قال تعالى:
Shafi da ba'a sani ba