إنه لا رجاء لنا في إعادة تشكيل الحياة من جذورها وفي صميمها، إلا أن يكون ذلك على أيدي المثقفين، الذين لا يعنون بالأمور السابحة على الأسطح عنايتهم بالمحركات الكامنة في دخائل النفوس، وتعال معي ننظر إلى جماعات المثقفين في مختلف الثقافات وعلى تعاقب العصور، لنرى أكانت الشئون السياسية مشغلتهم، أم كانت لهم هموم أخرى غير السياسة وأبعد منها مدى وأعمق منها جذورا وأدوم منها بقاء لدوام التغير الذي قد يتغير به وجه الحياة على أيديهم.
كان الجاحظ - وهو في رأيي أعظم المثقفين العرب على إطلاق - كان نقطة تحول في وجهة النظر العربية كلها؛ إذ نقلها من وجدان الشاعر إلى علمية الناثر؛ فبعد أن كانت الثقافة كلها (تقريبا) ترتكز على قصيدة الشعر، باتت ترتكز على فكرة النثر؛ ومن ثم استطاع التراث العربي أن يشتمل على ما اشتمل عليه من كنوز الفقه وعلوم اللغة والفلسفة وغير ذلك، كان الجاحظ - كما أسلفت - نقطة التحول في وجهة النظر، فاستحق بذلك أن يوصف بما نصفه به، ولو شغل نفسه بأمور السياسة لما ترك لنا إلا أقوالا كنا لنقرأها اليوم بجزء يسير من اهتمامنا؛ لأن أمور السياسة تذهب بانقضاء أوانها.
وذهب القرن التاسع بجاحظه العظيم، وجاء القرن العاشر بجاحظ آخر في دنيا الثقافة العربية، وهو أبو حيان التوحيدي، كما جاء القرن العاشر كذلك بجماعة إخوان الصفا، فماذا صنع هؤلاء جميعا سوى أن حاولوا تشكيلا جديدا لوجهة النظر العربية، ليجعلوها أقرب إلى النظرة العلمية العقلية الموسوعية، التي يخرج منها القارئ وقد استوعب عصره بكل ما كانت الحضارة الإنسانية قد حققته.
ولا نذكر إخوان الصفا ودورهم الثقافي في الحياة العربية، إلا ويقفز إلى أذهاننا جماعة «الفلاسفة» في عصر التنوير في فرنسا إبان القرن الثامن عشر؛ فالدور الذي اضطلعوا به هو هو نفسه الدور الذي اضطلع به إخوان الصفا؛ وأعني أنهم حاولوا تغيير الاتجاه من رومانسية العاطفة إلى علمية العقل وواقعيته، ولست أريد بهذا أن أقول إن ذلك هو التحول الوحيد الذي ينبغي لجماعة المثقفين أن يحدثوه؛ لأنه لو كان العقل قد طغى، فربما كانت مهمة الثقافة عندئذ أن تحد من طغيانه بالدعوة إلى شيء من حياة الوجدان، كما فعل روسو.
وانظر إلى «الجمعية الفابية» في إنجلترا في مطلع هذا القرن أو قبل ذلك بقليل؛ فهي الأخرى نموذج لما يضطلع به المثقفون، ولقد اتخذوا لأنفسهم صفة «الفابية» من اسم «فابيوس» القائد الروماني الذي هزم هانيبال، لا بمواجهته، بل بتدويخه؛ وذلك أن أخذ فابيوس يتقهقر على خطة يرسمها، بحيث ينهك هانيبال في تعقبه حتى الهزيمة؛ أي هزيمة لهانيبال، وعلى هذا الغرار نفسه أخذت الجمعية الفابية تخطط لتغيير المجتمع تغييرا يحوله إلى النظرة الاشتراكية، لا بالعنف والصراع، بل بإرهاق من بأيديهم زمام التحول.
وماذا صنع محمد عبده ولطفي السيد ومن تبعهما من أئمة الثقافة في حياتنا إلا شيئا كهذا؟ نعم قد كانت لهم مواقفهم السياسية من حيث هم مواطنون، لكن تلك المواقف لم تكن هي التي خلدتهم، بل ولا كانوا فيها أفضل وأقدر من سواهم، وإذا اختلف بعضهم مع بعض فيما يختص بالحياة الثقافية، جاء اختلافهم حول نقاط رئيسية في طريق التحول؛ أنرتد في استلهام الماضي إلى الحضارة الفرعونية، أم نكتفي بالوقوف عند الحضارة العربية؟ أنجعل محور الارتكاز في نقلنا عن أوروبا ثقافة اللاتين (فرنسا) أم ثقافة السكسون (إنجلترا)؟ أنكتب بأحرف عربية أم نستبدل بها حروفا لاتينية؟ أيكون للتراث قداسة تصدنا عن نقده، أم نتناوله تناول الأحرار بالنقد المنزه عن الهوى؟ وهكذا وهكذا.
تلك هي أمثلة من هموم المثقفين، وهي كفيلة بأثقالها الجسام أن تلهيهم عن كل ما عداها، ثم هي - فوق ذلك - ما يدوم لهم، وما يستطيعون بمواهبهم الفطرية أن يمتازوا فيه، فما الذي يغريهم اليوم بتركها ليخوضوا مع غيرهم في بحر السياسة؟ ألأن السياسة والاشتغال بها أسرع إلى الشهرة، أم لأن هموم الثقافة قد انزاحت عن صدورهم؟
كان العرب الأقدمون قد وقفوا من الثقافة الأوروبية وقفة شديدة الشبه بما نقفه اليوم، فكانت أوروبا بالنسبة إليهم يومئذ هي اليونان وثقافتهم، فكان أهم ما اهتموا له هو أن يلتمسوا لأنفسهم طريقا «يوفق» بين مضمون الثقافة اليونانية وأحكام الشريعة الإسلامية، ولو صنعنا نحن اليوم مثل صنيعهم لكان على رأس همومنا عملية «التوفيق» مرة أخرى، لكنها هذه المرة تلتمس الطريق بين «علم» أوروبا الحديثة من جهة، وما يقضي به موروثنا من أحكام أساسية هامة، من جهة أخرى، ولست أريد أن أترك فكرة «التوفيق» تمر دون أن أقول إن التوفيق بين مصدرين لا يعني قط أن نحذف أحدهما ونبقي الآخر، وإنما يعني أن نجد الطريق الثالث الذي يهضم الفكرتين معا وفي آن واحد.
هذا مثل جيد للمسائل التي هي من أهم هموم المثقفين اليوم، وهل هناك أمامهم ما هو أهم من رسم الطريق الحضاري الذي نسير عليه في مرحلتنا الراهنة؟ فنحن في ذلك؛ أولا نقتفي أثر الآباء، وثانيا نعالج حالة الضياع التي نعانيها، وإذا شئت فانظر إلى شبابنا في حيرته، لا يدري أيتعصب إلى حد التزمت لما يقال له إنه طبيعة الإسلام، أم يتمرد ليحيا كما يقال له إن الشباب في الغرب يحيون؟ هؤلاء وأولئك بيننا قائمون، أحوج ما يحتاجون إليه هو تحليلات من المثقفين تهديهم إلى طريق يجمع الطرفين، لكن المثقفين عن ذلك في صمم، جريا وراء مجادلات سياسية يرون فيها طريقا أسهل إلى شغل الناس.
لقد شرفتني وزارة الإعلام والثقافة بدولة الإمارات العربية المتحدة (أبو ظبي) وكذلك شرفتني الجامعة هناك، بدعوة تتم فيها لقاءات فكرية، فكانت فرصة أوضحت لي أمرين؛ أولهما أن تدبير أمثال هذه اللقاءات الثقافية الجادة هو من أوجب الواجبات بالنسبة لوزارات الثقافة في أجزاء الوطن العربي كله؛ لأنها من أفعل الوسائل نحو إيجاد ما نصبو إليه من «ثقافة عربية» معاصرة، والأمر الثاني هو أن معظم الأسئلة التي تتحرك بها أذهان المثقفين، يدور حول ما ينبغي فعله إزاء الحضارة العصرية، مع المحافظة كل المحافظة على هويتنا القومية بمعالمها الرئيسية، ولعلي لم أصادف في حياتي لقاء فكريا فيه النشاط وفيه الصدق وفيه العمق، ما يعدل لقائي مع أساتذة الجامعة هناك، ولقائي مع طائفة من المثقفين.
Shafi da ba'a sani ba