ولأن الواحد منا يعرف بينه وبين نفسه أنه زائف، عرف القليل وتظاهر أمام الناس بالكثير، ورأى الظل وزعم للناس أنه قد رأى صاحب الظل وأمسكه بكلتا يديه، أقول إنه لما كان الزائف يعرف بينه وبين نفسه أنه زائف تراه لا يجاهد في سبيل فكرة يعرضها، وفيم الجهاد وهي ليست فكرته؟ فأقل نفخة هواء تلفحه بالخطر، تكفيه ليلقي بالفكرة في الوحل ليفر منها ومن تبعاتها، فهو كمن يبعثر مالا مسروقا لم ينضح جسده عرقا في سبيل كسبه، أو كمن يسكن دارا لا يملكها فلا يؤرقه أن يحدث لها ما يحدث من عوامل الدمار.
ليس الفكر الذي نحياه فكرنا، بل هو مستعار من سوانا، فإما هو فكر منقول عبر المكان من مصادره الغربية، وإما هو فكر منقول عبر الزمان من أسلافنا، ولا عيب في ذلك كله؛ لأن الحضارة اليوم ليست من صنعنا، فلا علينا أن نأخذ عنها ما نأخذه، ولأننا في الوقت نفسه أصحاب إرث ورثناه، فلا علينا أيضا إذا اغترفنا من ميراثنا، لكن العيب كل العيب، هو في عملية الخطف السريع، الذي تخطف به من هنا وهناك، في غير دراسة أمينة متأنية صابرة ثم تأخذنا خيلاء من يعرفون!
وبودي لو ذكرت للقارئ أمثلة حية مما صادفته في هذا الصدد، ليرى كم بلغت الخيانة الثقافية ببعضنا، برغم أنهم في حسابنا من القادة الكبار، لكني أتعمد ألا أذكر الأسماء ولا الصفات التي تنم عن أصحابها الكبار؛ لأن المهم عندي الآن هو تصوير المناخ الفكري العام الذي نتنفسه، والذي سرعان ما يؤدي بنا إلى مواقف الجبناء.
مرة ثانية أقولها: ليس الذي أعيبه هو النقل الثقافي في حد ذاته؛ لأنه لا مناص لنا من هذا النقل في ظروفنا الحضارية الراهنة؛ فالمذاهب السياسية منقولة، وأنظمة الحكم منقولة، والهيكل التعليمي منقول، وأشكال الأدب والفن منقولة، فضلا عن شتى فروع العلوم، فهي بالطبع منقولة، لا، ليس الذي أعيبه هو النقل في ذاته، بل الذي أعيبه هو النقل المخطوف، وهو الفهم السطحي المنقول، وهو انتحال الأصالة فيما ننقله، وهو رؤية الأصل المنقول من خلال الحجب المغلفة بالضباب.
لقد ظلت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تنقل عن أوروبا حتى منتصف القرن الماضي، وقبل ذلك المنتصف كادت أمريكا ألا تفرز من عندها فكرة واحدة، لكنهم كانوا ينقلون ويعلنون عن نقلهم، ثم هم كانوا ينقلون بعد دراسة تتعمق ما ينقلونه، إلى أن صاح فيهم «إمرسون» صيحته المشهورة بخطاب قصير ألقاه في إحدى جامعاتهم، وجعل عنوانه «الباحث الأمريكي»، مريدا بذلك أنه قد آن الأوان للأمريكي أن يقف على قدميه، وأن يكون له أبحاثه المبتكرة الخاصة به.
أما نحن فنخطف ذلك الخطف السريع وندعي لأنفسنا العلم المبتكر، فحتى لو صاح فينا رجل مثل إمرسون، قائلا لنا إنه قد آن الأوان للمصري أن يقف على قدميه، لما استجاب أحد لصيحته؛ لأنه لو استجاب كان بمثابة من يفضح نفسه ويكشف حقيقة موقفه، وليس في حاجة هنا إلى القول بأن الخطف من أسلافنا هو في الخطيئة كالخطف من الغرباء، بل ربما كان التشويه في الحالة الأولى أمعن في الضلال.
وأول ما ينبغي فعله هو أن يفصح الزائف - لنفسه على الأقل - عن مدى زيفه قبل أن يستحكم منه الغرور، وستأتي الخطوة التالية بعد ذلك تلقاء نفسها، وهي أن يظهر للمصري المعاصر ثقافة، يكون من حقه أن ينشرها في الناس موسومة بالمصرية الأصلية.
الولاء الأبكم
لقد حدث لي أن كتبت مقالة نقدية فور ظهور «الملك أوديب» لأستاذنا توفيق الحكيم، جاءت تعليقا على مقدمة قدم بها أديبنا مسرحيته تلك، وهي تقع في أكثر من خمسين صفحة، أثار فيها سؤالا هو: لماذا لم ينقل العرب عن اليونان أدبهم المسرحي؟ (على غرار ما نقلوه من فلسفتهم وعلومهم) ثم حاول الجواب، عارضا في سياق محاولته أكثر من رأي ومتناولا كل رأي بالتحليل الذي ينتهي به إلى رفض أو إلى قبول. وللقارئ أن يرجع إلى تلك المقدمة الممتازة إذا أراد الفائدة كاملة.
غير أنني أبديت في مقالتي التي أشرت إليها رأيا آخر، فقلت: «إن الأدب المسرحي - والقصصي - أيضا يستحيل قيامه بغير التفات إلى تميز الشخصيات الفردية بعضها من بعض، فلو نشأ الكاتب في جو ثقافي لا يعترف للأفراد بوجودهم، ويطمسهم جميعا في كتلة واحدة من الضباب الأدكن، لم يكن أمامه سبيل إلى تصوير هؤلاء الأفراد والشرق كله - في ثقافاته القديمة - قد طمس الفرد طمسا لم يترك له مجالا يتنفس فيه؛ فالأفراد في الثقافة الهندية كلهم «مايا» - أي إنهم وهم لا وجود له في دنيا الحقائق؛ إذ الموجود الحق هو الكون مأخوذا بمجموعه الكلي، دون أن يكون فيه تعدد للأفراد أو تكثر للمفردات، وقل مثل ذلك في الصين، وفي كل بلاد الشرق بصفة عامة.»
Shafi da ba'a sani ba