ولم يلبث أن استجاب بمقالة أرسلها طامعا في مكافأة سريعة، وهنا كانت المفاجأة المذهلة؛ فالمقالة التي بعث بها إلينا لم تزد على تخليط صبياني ساذج، من النوع الذي نعهده في «إنشاء» التلاميذ الصغار، فقابلنا الموقف بالصمت، وإذا به يرسل إلينا مقالة أخرى لعلها تصادف عندنا قبولا، ولكنها كانت أشد سذاجة وأمعن من سابقتها في القصور.
وكان موضع عجبي يومئذ هو هذا: كيف أمكن لإنسان واحد أن ينبض بمثل ما نبض به ذلك الشاعر من وجدان حي، وأن تكون له القدرة على نظمه في لغة تناسبه، حتى إذا ما كشف ذلك الإنسان نفسه عن عمقه الفكري، كان لا شيء، بل كان أسوأ من «لا شيء»؛ لأنه كشف عن نقص وتشويه في كيانه العقلي؟! إنه سؤال لا يزال - منذ ذلك اليوم - مصدر حيرتي، ولا أظن أني وقعت على جواب مقنع.
ومضت بعد ذلك بضع سنين، وأقامت وزارة الثقافة نظام التفرغ لرجال الأدب والفن (أظن ذلك قد كان سنة 1957م)، وكان لي شرف اختياري عضوا في تلك اللجنة، التي لبثت مشاركا فيها إلى أن «شرفني» أحد وزراء الثقافة - وكان من الجامعيين - بأن جعل أول مهامه في الوزارة إعادة قوائم اللجان الفنية، فكان أن محا اسمي محوا، وليس ذلك هو ما أردت قوله، لكنني أردت أن أقول إنني خلال مشاركتي في لجنة التفرغ، لاحظت أمرا ذكرني بشاعر الزنزانة الذي أجاد الشعر دون أن يكون لديه وراء ذلك الشعر ذرة من ثقافة الأفكار، وذلك أن عددا كبيرا ممن كانوا يطلبون التفرغ في أدب القصة القصيرة، لم يكن في رءوسهم وراء قدرتهم الأدبية تلك شيء ملحوظ من ثقافة، لا ثقافة العصر ولا ثقافة العصور السوالف، ولست أذكر الآن ماذا كانت شواهدي على هذا القصور فيهم، لكنها نتيجة وصلت إليها حينئذ، وأبقيتها في الذاكرة.
ذلك كله أرويه لأخلص منه إلى رأي أؤكده اليوم أكثر جدا مما تأكدت من صدقه فيما مضى، وهو أن حياتنا الثقافية لها ظاهر يخفي وراءه ضحالة فكرية، وكدت أقول إنه يخفي وراءه جهالة فاضحة، برغم التناقض البادي حين نقول إنها حياة «ثقافية» ثم نشفع هذا القول بوصف لتلك الحياة «الثقافية» نزعم فيه أنها حياة تضمر جهالة وراء سطحها.
جهالة بماذا؟ قد تسألني، فأجيبك بأنها جهالة بمعظم مقومات المثقف الصحيح؛ فهي حياة توشك أن تخلو من الإلمام بأهم القضايا الفكرية التي يطرحها عصرنا على أبنائه، كما توشك أن تخلو خلوا تاما من معرفة الأركان الأساسية التي يتكون منها تراثنا، ابتداء من اللغة ومفرداتها وطرائق تركيبها، وصعودا إلى الاتجاهات الفكرية الرئيسية التي شغل بها أسلافنا، فإذا كان «المثقف» اليوم، لا هو يشارك عصره، ولا هو يلم بتاريخه الفكري، فماذا يكون عنده بعد ذلك؟ نعم، إنه قادر على كتابة القصة حينا، وعلى نظم الشعر حينا، لكن حياتنا الثقافية - لسوء الحظ - قد خلت من النقد القوي الناقد، الذي يفضح تلك الجهالة المستورة وراء ظاهر من الإبداع الأدبي أو الفني.
ولست أريد بذلك أن أقول بأن كاتب القصة أو ناظم الشعر، مطالب بأن يسوق في أدبه «أفكارا» بصورة مباشرة، كلا؛ فأنا على أتم إدراك بأن الأديب ينبغي له أن يكتم في صدره أفكاره المباشرة، لا سيما إذا كانت أفكارا مجردة، لكنه يكتفي بإشعاعاتها فيما يكتبه؟ فإنه ليقال عن الشاعر الإنجليزي «وردزروث» إنه كان من أغزر أبناء عصره ثقافة، وإن مكتبته الخاصة كانت من أغنى المكتبات التي من نوعها، ومع ذلك فقد حرص أشد الحرص في شعره أن يجيء على صورة ريفية بسيطة الخواطر بسيطة الألفاظ، لكن كانت لثقافته الغزيرة المكتومة انعكاساتها في شعره.
ربما كان هذا الفقر الشنيع في جانب النقاد من هذا الجيل، نتيجة طبيعية للفقر الفكري العام، ولا أدري كيف يكون طريق الخلاص من هذه الحلقة المفرغة: فقر فكري فاضح أدى إلى فقر نقدي يناسبه، ثم يؤدي هذا الفقر النقدي بدوره إلى أن يظل الفقر الفكري العام مستورا وراء غطاء يسمونه «الإبداع »، لا، لست أدري كيف يكون الطريق إلى الخلاص من هذه الحلقة المفرغة، لكن نتيجة ملحوظة من نتائجها هي أنك تكاد توقن بأنه إذا شاءت لنا الأقدار أن يظهر فينا كتاب على شيء من العمق، فلن يجد ناقدا يعنى بقراءته ونقده، وكيف يستطيع حتى إذا أراد، وليست لديه الأجهزة الفكرية التي يزن بها الثقافة العميقة؟
وموقف كهذا يذكرني بما يقال إنه حدث في الحركة الثقافية في إنجلترا خلال العشرينيات؛ فلقد كان النقاد عندهم آنئذ على قليل من الأناة والصبر، فلم يكونوا يطيقون معالجة المستويات العليا من إنتاجهم، ولذلك كانوا كلما وجدوا أديبا يتعذر عليهم فهمه، حذفوه من صحيفة الأعلام، وذلك ما صنعوه بالنسبة لشعر «ملتون»، فقد أهملوه بحجة أنه لم يكن يستحق الاهتمام، مع أن حقيقة الأمر كانت أنهم لم يقووا على الارتفاع إلى ذروته، لكن الحركة الثقافية هناك أقوى من أن يطول معها مثل هذا الإهمال المنطوي على جهل وضعف، فما مضت بعد ذلك عشر سنوات حتى نهض نقاد قادرون ليحيوا «ملتون» مرة أخرى وليردوه إلى مكانته الرفيعة من تاريخهم الأدبي.
المأساة في حياتنا العقلية كلها اليوم، في أنها قد انجرفت في تيار «الفهلوة»؛ فلم يعد المهم هو أن تدقق النظر إذا فكرت، وأن تجيد الصياغة إذا كتبت، بل لم يعد المهم هو أن تفكر وأن تكتب على الإطلاق، إذا أردت أن تحسب في عداد المفكرين والكتاب، بل يكفيك أن تتقن فن الفهلوة التي تضعك في مساقط الضوء دون أن تكون قد مهدت لذلك بعمل فعلي تؤديه، ومن فنون الفهلوة في هذا السبيل أن تجد طريقك إلى عضوية اللجان الثقافية العليا، وأن يوضع اسمك مشرفا على هذا، ومراجعا لذاك، وأن تدلي برأيك فيما لم تقرأه، وأن تصطنع أمام الناس وجاهة أصحاب النفوذ والسلطان؛ لأن القادر على النفع والضرر لا بد أن يكون في أعين الناس أي شيء أراده لنفسه، بما في ذلك أن يكون «أديبا» أو «مفكرا» أو ما شاء من صفات.
لقد شاءت لي المصادفة صباح اليوم، أن أعيد قراءة مقدمة كنت قدمت بها كتابي «نحو فلسفة علمية» الذي صدر سنة 1958م، وإذا بي أجد الأسطر الآتية في خاتمة المقدمة، وها أنا ذا أعيدها، لأني ما زلت أرى صدقها: «لو حكمت على مصير هذا الكتاب، في ضوء ما قد أصاب إخوة له سبقته إلى النشر، لقلت قولة يائس إنه لن يظفر من فرسان الفلسفة، الذين يجيدون في ميدان الفروسية ركوب الجياد، ورماية الرمح، والمبارزة بالسيف، لن يظفر من هؤلاء بنظرة، لكنه رغم ذلك سيكون منهم موضع حكم يصدرونه عليه؛ لأنهم فاضلون، بلغ بهم حبهم للفضيلة أن يكون لهم الرأي فيما ليس يعلمون، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.»
Shafi da ba'a sani ba