فإذا انتقلنا إلى زاوية الفلسفة التحليلية ننظر منها إلى العبارة المذكورة، كان من أهم ما يلفت نظرنا في مفرداتها لفظتا «واجب محتوم» لأنهما من الألفاظ التي لا تسمي أشياء بذواتها، فماذا تعني يا ترى؟ من الذي أوجب ومن الذي حتم؟ إنهما لفظتان تحملان معنى الأمر، فمن ذا الذي أمر؟ هل ثمة من سلطان خارجي يفرض علينا هذا الواجب؟ فإن كان فما هو؟ وهكذا يركز فيلسوف التحليل جهوده في توضيح أمور كهذه تجري في كلام الناس دون أن يتنبهوا إلى مدى غموضها.
ثم ننظر نظرة ثالثة، هي نظرة الفيلسوف البراجماتي، فلا نجد ما يدعونا إلى معارضة شيء مما قاله الوجودي عن ضرورة أن تنبثق الإرادة من صميم الذات التي تريد لنفسها وتقرر لنفسها، ثم لا نجد ما يدعونا إلى معارضة شيء مما قاله فيلسوف التحليل في توضيح الغوامض التي تكتنف ألفاظنا؛ إذ القول الواضح في معناه أدعى إلى رسم الطريق في دنيا الفعل، لكننا ننظر من الزاوية البراجماتية إلى عناصر الموقف الراهن، وفي الطريقة التي يمكن أن يعاد بها ترتيب تلك العناصر، ليخرج لنا من ترتيبها الجديد موقف جديد، هو «القومية العربية، كما أردناها بادئ ذي بدء.
وتبقى لنا بعد هذا كله زاوية رابعة ننظر منها إلى العبارة السالفة الذكر، هي زاوية المادية الجدلية، فإذا كانت القومية العربية المنشودة غير متحققة الآن، فذلك لعوائق مادية اعترضت قيامها كالظروف الاجتماعية أو الاقتصادية أو غير ذلك من ظروف ظهرت في مراحل التاريخ، ولا سبيل إلى تحقيق القومية العربية إلا إذا أزلنا تلك العوائق من الطريق، لأننا إذا ما افتعلنا تلك القومية افتعالا، مع بقاء العوامل التي عارضت قيامها فسرعان ما تعود تلك العوامل نفسها لتفعل فعلها من جديد.
زوايا أربع كما ترى، يكمل بعضها بعضا أكثر جدا مما ينقض بعضها بعضا؛ فلكل منها سؤال يراد الجواب عنه يختلف عن الأسئلة الثلاثة الأخرى التي تطرح عند الزوايا الأخرى؛ فالسؤال عند الوجودية هو: من؟ والسؤال عند التحليل هو: ما المعنى؟ والسؤال عند البراجماتية هو: ما الهدف، والسؤال عند المادية الجدلية هو: كيف حدث وكيف يتغير؟ ... وكلها أسئلة ضرورية للموقف الواحد.
على أني أشعر بعد هذا كله بسؤال خامس، يلح على عقلي إلحاحا إلى أن يجد له جوابا مقنعا، وهو: إن هذه المواقف الأربعة التي تقسم فيما بينها عصرا واحدا - هو عصرنا الراهن - لا بد أن تلتقي جميعا عند جذر واحد وإلا لتمزقت وحدة العصر وفقد طابعه الذي يميزه ويجعله عصرا يجيء حلقة في سلسلة العصور، فماذا عسى أن يكون ذلك الجذر الواحد المشترك؟ جوابي (وهو جواب شخصي، يستطيع من شاء أن يصححه بما شاء) هو أن ذلك الجذر المشترك في فلسفات عصرنا، هو التصور الذي يجعل الإنسان محورا يدير نفسه ولا يدار من خارجه؛ فهو الذي يقرر بنفسه لنفسه (وجودية) وهو الذي يوضح بنفسه لنفسه (تحليل)، وهو الذي يضع لنفسه الأهداف ابتغاء تحقيقها (براجماتية)، وهو الذي يتلمس عوائق السير ليزيلها (مادية جدلية)، وإذن فالمحور الفلسفي الرئيسي لعصرنا هو النظرة الإنسانية التي تجعل من الإنسان مبدأ وغاية، وتجعل هذه الحياة هي الأولى والأخيرة.
لكن هذه النظرة لا تلتئم مع الوقفة الإسلامية العربية التئاما كاملا؛ لأن هذه الوقفة الإسلامية العربية من شأنها أن تجعل هذه الحياة مرحلة أولى لها ما بعدها من حياة آخرة، ها هنا تكمن المشكلة أمام الفيلسوف العربي المسلم - إذا وجد - فيكون سؤاله الخاص هو: كيف أضيف البعد الخامس إلى الأبعاد الأربعة التي ذكرناها مميزة لعصرنا؟ وبالإجابة عن سؤال كهذا، يمكن للإنسان المسلم العربي أن يحيا عصره وتراثه معا.
ترجمة الماضي إلى حاضر
ماذا نصنع لنعيش بماضينا في حاضرنا؟ هذا هو السؤال الذي طرحناه على أنفسنا ألف مرة، وحاولنا الجواب ألف مرة، ولا أحسبنا قد انتهينا إلى صيغة واحدة يرضى عنها الماضي والحاضر معا، ودليل ذلك قريب، وهو أننا إلى يوم الناس هذا نجد بيننا من لا يزال يتشكك في العلم وقيمته وفي العقل الإنساني وقدرته.
شاء لي الله أن يصلني منذ وقت قريب كتابان في يوم واحد، أحدهما لكاتب مرموق ولامع وذي جذب شديد لجماهير القراء والسامعين والمشاهدين - السامعين للراديو والمشاهدين للتلفزيون - والآخر لمؤلف لم أكن قد سمعت باسمه، لكنني استنتجت من قوة عبارته أنه لا بد أن يكون ذا وزن في محيطه الخاص، وأما الكاتب الأول فقد أراد بكتابه أن يقول إن العلم «يتبجح» (هذه هي اللفظة التي استخدمها) وإن الحياة المثلى هي في التصوف، وأما الكتاب الثاني فقد أراد صاحبه أن يقول إن الأرض لا تدور، وإن كل ما يقوله العلم غير ذلك فهو خطأ وضلال، ومن الأسانيد التي أعلن أنه ارتكز عليها في الوصول إلى تلك النتيجة، الآيات الكونية في القرآن الكريم.
فإذا كان المناخ الثقافي الذي نتنفسه، قد أمكن أن يفرز لنا مثل هذه الكتب، وأستطيع أن أجزم بأن أحد الكتابين السابقين - على الأقل - قد بيعت منه عشرات الألوف من النسخ؛ أي إنه كان غذاء تطلبه النفس العربية في يومنا، فلا بد - إذن - أن يكون المثقفون العرب بعيدين بعدا شاسعا عن أن تكون لهم صيغة ثقافية واحدة تجمع بينهم، ودع عنك أن تكون هذه الصيغة الواحدة مما يدمج الماضي في الحاضر دمجا عضويا متكاملا؛ لأن الحاضر أساسه علم وصناعة، وها قد أقبل ألوف القراء على من يقول لهم إن العلم يتبجح، ولست أدري كم منهم قد أقبل كذلك على قراءة ما جاء ليزعم لهم أن الأرض لا تدور.
Shafi da ba'a sani ba