فالفلسفة التحليلية السائدة في إنجلترا، إنما خصت نفسها أساسا بتحليل العلوم وقضاياها، لتعرف الصورة الهيكلية التي ينصب فيها الفكر العلمي؛ والفلسفة البراجماتية في أمريكا قد خصت نفسها بالبحث عن الحق ما هو، كما يفهمه عصرنا، فتقول عن الحق إنما هو النتائج التي تعمل على حل مشكلات الحياة الواقعية؛ أي إنه إذا كان بين أيدينا فكرة، ثم أردنا أن نتبين من صوابها أو عدم صوابها، بحثنا عما يترتب عليها من فعل نجريه على أرض الواقع الحقيقي، من شأنه أن يحل مشكلة بعينها قصدنا إلى حلها؛ فإذا لم نجد الفكرة مؤدية إلى مثل هذا الفعل، ولا إلى المشكلات تحلها، علمنا أنها لا تستحق أن يطلق عليها اسم «فكرة» فضلا عن أن نصفها بأنها صحيحة.
وأما الفلسفة الوجودية، فلا تجعل محور اهتمامها تحليل البناء العلمي، ولا تحليل فكرة الحق حين نصف به هذه الفكرة أو تلك، ولكنها تعنى بالإنسان نفسه، فتقول إن الإنسان إنما يستمد إنسانيته من صنعه لنفسه عن طريق القرارات التي يتخذها هو لنفسه في المواقف المختلفة، على أن يكون مسئولا عما يقرره، وإنه ليهدر آدميته إذا هو تشكل على ما يقرره له سواه، وأخيرا تعنى المادية الجدلية بتحليل التاريخ وما يسيره من نظم وقيم وأفكار، فترى أن هذا المركب الثقافي بكل أجزائه إنما يتكون نتيجة لصراعات داخلية في بنيانه؛ إذ يكون في كل وضع معين ما يناقضه حتى يهدمه، ومن الوضع ونقيضه هذين يتألف موقف جديد، وهكذا ترى أن الفلسفة التي تسود غربي أوروبا وشرقيها على السواء، تشترك في أن الإنسان هو محورها، على حين أن الفلسفة كما هي قائمة في إنجلترا وأمريكا تجعل الفكر العلمي محورها؛ فلا تضاد بين هذه وتلك، وإنما هو تكامل لهما في وحدة شاملة تصور العصر وما فيه.
عصرنا من فلسفته
أهم المذاهب الفلسفية التي يتقاسمها عصرنا أربعة: الوجودية ، والمادية الجدلية والبراجماتية، والتحليل، وأن توزيع هذه المذاهب الأربعة ليوشك أن يكون توزيعا جغرافيا، بمعنى أن كل مذهب منها يتركز في إقليم جغرافي بذاته، ثم يشع منه إلى ما عداه؛ فالوجودية في غربي أوروبا، والمادية الجدلية في شرقيها، والبراجماتية في الولايات المتحدة الأمريكية، والتحليل في بريطانيا.
على أن العالم ليس كله أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية؛ فهناك قارات أخرى بأكملها، لكنها من الناحية الفكرية الفلسفية إحدى اثنتين: فإما جاءتها الغزوة من أوروبا وأمريكا وهي فيما يشبه الخلاء من ناحية الفكر الفلسفي، وإما جاءتها تلك الغزوة لتجد بين ظهرانيها تراثا خصبا عريقا؛ ففي الحالة الأولى انفرد الفكر الغازي فلم يحدث في نفوس الناس وعقولهم أزمة ولا ما يشبه الأزمة، وأما في الحالة الثانية فقد انقسم المثقفون قسمين، أحدهما جلس ليجتر ماضيه، وآخر جاهد ليجد لنفسه مخرجا، تارة بدمج الشعبتين في حياة واحدة ما استطاع إلى ذلك من سبيل، وتارة أخرى بإغلاق صفحات الماضي ليتفرغ للوافد الجديد.
وغني عن البيان أننا نحن الأمة العربية من الطراز الثاني؛ أعني الطراز الذي جاءته الفلسفة الغربية المعاصرة وهو على امتلاء ثقافي بما ورثه عن أسلافه، لكنه انشق على نفسه شطرين؛ فبينما تجد فريقا منه لا يكاد يعي من فكر عصره خردلة، مكتفيا بموروثه الغني، تجد فريقا آخر قد أتاحت له الفرصة أن يلم بفكر العصر قليلا أو كثيرا، فتأخذه الحيرة كيف يوفق في رأسه بين طارف وتليد.
وإذا نحن أخذنا الدراسة في جامعاتنا العربية نموذجا يوضح موقفنا من فلسفة العصر رفضا أو قبولا، وجدنا أقسام الدراسة الفلسفية في تلك الجامعات تضع الشرائح الزمنية التاريخية جنبا إلى جنب، تضعها متجاورة وهي في حياد كأن الأمر لا يعنيها؛ ففي هذه الفرقة الدراسية تدرس الفلسفة الإسلامية، وفي تلك الفرقة الدراسية تدرس الفلسفة الحديثة أو المعاصرة، مأخوذة من مصادرها الغربية، فيخرج دارس الفلسفة من الجامعة وهو ما يزال في الحيرة نفسها: هل يحاول التوفيق أو لا يحاوله؟ وإذا حاوله فكيف يكون ذلك؟ ولقد شهدت في حياتي أعواما اشتد فيها الصراع بين أساتذة الفلسفة الذين أنيط بهم تدريس الفلسفة الغربية؛ فكان كل منهم يتعصب لتيار غربي دون تيار، وكان هذا التيار أو ذاك هو من نتاجنا نحن، وانعكاسا لحياتنا نحن، ثم كأن هذه التيارات الغربية الأربعة يناقض بعضها بعضا تناقضا يجعل المتقبل لأحدها رافضا بالضرورة للثلاثة الأخرى، وكان أجدر بنا أن نتبين الأمر على حقيقته، وهي أن العصر الذي أنبت تلك التيارات الفلسفية المختلفة إنما هو عصر واحد، ذو حضارة واحدة، وأنها لتكون مفارقة عجيبة، لو أن هذا العصر الواحد يتمزق في مذاهب متعارضة في أسسها وجذورها.
ولقد كنت لسنوات طوال مخطئا بين مخطئين؛ لأنني كنت بدوري أتعصب لتيار فلسفي معين، على ظن مني بأن الأخذ به يقتضي رفض التيارات الأخرى، لكنني اليوم - مع إيماني السابق بأولوية فلسفة التحليل على ما عداها من فلسفات عصرنا - أومن كذلك بأن الأمر بين هذه الاتجاهات الفلسفية إنما هو أمر تكامل في نهاية الشوط، وليس هو أمر تعارض أو تناقض؛ فكل مذهب من المذاهب الأربعة الرئيسية التي تسود العصر، يسأل سؤالا غير الأسئلة التي تطرحها على نفسها بقية المذاهب، والتناقض لا يكون إلا إذا كان السؤال المطروح واحدا عند الجميع، لكن الإجابة عند هذا تجيء نافية للإجابة عند ذاك؛ فالمذاهب الفلسفية الأربعة التي أشرنا إليها، إن هي على وجه الجملة إلا إجابات أربع، لا على سؤال واحد بعينه، بل هي إجابات مختلفة عن أسئلة مختلفة، عني كل مذهب منها بسؤال، وأولاه اهتمامه، دون الأسئلة الثلاثة الأخرى، بحيث لا يكون معنى ذلك أنه بالضرورة رافض لمشروعية الأسئلة الأخرى، أو رافض للإجابة التي أجيب بها عن تلك الأسئلة.
وعلى سبيل التشبيه: افرض أن أربعة أشخاص اختلفت ميولهم واستعداداتهم، نظروا إلى سجادة يفحصونها، فاهتم أحدهم بالرسوم التي ظهرت على سطحها، من حيوان ونبات وزخارف وغير ذلك، بينما اهتم الثاني باللون متسائلا إن كان مصدر الصبغة كائنات عضوية أم كان مصدرها تركيبات كيماوية، وأما الثالث فقد وجه عنايته إلى نوع الصوف وطريقة نسجه، وطفق الرابع يبحث عن موطن الصناعة ماذا كان: أكان أصفهان أم كان شيراز؟ فهل يحق لنا أن نقول عن هؤلاء الأشخاص الأربعة إنهم «متعارضون» متناقضون متقاتلون إلى آخر هذه الحالات العراكية التي تصورناها نحن دارسي الفلسفة في الجامعات العربية بين مختلف الاهتمامات التي ظهرت في التيارات الفلسفية المختلفة في أوروبا وأمريكا؟
ولنبدأ بما شئنا من هذه التيارات الأربعة، التي هي: الوجودية، والمادية الجدلية، والبراجماتية، والتحليل، التي قلنا إنها هي الاتجاهات الفلسفية الأساسية في عصرنا الراهن، أقول: لنبدأ بأيها شئنا، لنرى ما هو لب رسالته؟ ثم ننتقل منه إلى مواقف أصحاب الاتجاهات الأخرى متسائلين: هل هم بحكم اتجاهاتهم تلك رافضون لتلك الرسالة في لبها وصميمها، أو أن الأصح هو أن يقال عن هؤلاء جميعا إنهم اختلفوا في اهتماماتهم وفي محاور ارتكازهم، مع استعداد كل منهم لقبول ما انتهت إليه أفكار الآخرين فيما جعلوا اهتمامهم له؟
Shafi da ba'a sani ba