ونظرة إلى هذا الفكر الحديث من جانبه العلمي، تدلنا للوهلة الأولى على أننا إنما نعيش في عصر تغير فيه المنهج العلمي ذاته من الأساس؛ فالمنهج الذي استخدمته العلوم، لم يكن خلال العصور الطويلة على صورة واحدة، بل كانت له صورة القياس الأرسطي - وأعني الصورة التي يبدأ فيها الباحث من مقدمات مفروض فيها الصدق، ثم يستولد نتائجه من تلك المقدمات - أقول كانت للمنهج العلمي هذه الصورة القياسية في المرحلتين القديمة والوسيطة من مراحل التاريخ، ولنتذكر هنا بأن المرحلة الوسيطة التي امتدت من القرن الخامس الميلادي إلى القرن الخامس عشر، كانت هي المرحلة التي شهدت أهم فترة من تاريخ الحضارة الإسلامية.
فلما انتقلت أوروبا من عصورها الوسطى إلى عصورها الحديثة في القرن السادس عشر، كان محور انتقالها ذلك هو أن بدلت منهجا علميا بمنهج؛ فأصبحت العلوم الطبيعية تبنى أساسا - لا على مقدمات مفروض فيها الصدق - بل على مقدمات يقينية الصدق، قوامها معطيات الحس المباشر، عن طريق المشاهدات المحققة والتجارب التي تقام عليها، على أنه ندر عندئذ أن يستخدم الباحث العلمي من أجهزة البحث إلا صورا ساذجة نستطيع أن نغض النظر عن ذكرها.
ولبث المنهج العلمي على هذه الصورة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر وجزء من التاسع عشر؛ حتى إذا ما انتصف هذا القرن - أي التاسع عشر - حدثت ثورة جذرية في طريقة البحث العلمي؛ إذ أصبحت الأجهزة هي الأساس المعول عليه، ثم أخذت هذه الأجهزة تزداد في الدقة وفي التنوع ازديادا سريعا، إلى أن باتت هي السمة البارزة في العصر كله إلى يومنا هذا، وهو ما نطلق عليه اسم «التكنولوجيا»، ولنلحظ جيدا ما طرأ على هذه الكلمة من خلط في الاستعمال؛ فبينما هي تعني «طريقة» البحث العلمي بوساطة الأجهزة، رأيناها وقد تحولت ليستخدمها الناس اسما على ما تنتجه البحوث العلمية من آلات.
والانتقال في منهج العلوم من مشاهدات العين العارية إلى الأجهزة، قد أحدث في محيط العلم وفي دنيا الحياة العملية آثارا بعيدة الآماد إلى حد يكاد يسبق خيال الإنسان، ويكفي هنا أن نذكر نقطة واحدة، وهي أن عصرنا بأجهزته العلمية هذه، قد استطاع أن يلم بالكون من طرفيه: طرفه البالغ في الصغر (وأعني الذرة والخلية) وطرفه البالغ في الكبر (وأعني أفلاك السماء)؛ وأما قبل عصرنا فلا الذرة والخلية عرفتا بمثل ما نعرفه اليوم عنهما، ولا جرؤ خيال الإنسان أن يطمع في الوصول إلى القمر وغير القمر من كواكب المجموعة الشمسية.
3
وإذا تركنا المنهج لننظر في علوم العصر من حيث مضمونها، مكتفين في ذلك بالرءوس الكبرى، أمكن القول بصفة تقريبية عامة إن تلك الرءوس أربعة، هي: دارون بنظريته عن التطور، وكارل ماركس برؤيته لتطور التاريخ، وفرويد بنظريته عن اللاشعور، وأينشتاين بنظريته عن النسبية، ونحن إذ نحصر المعالم الكبرى في هؤلاء الأربعة، فلسنا نزعم بذلك أن كلا من هؤلاء قد جاء بالحق الذي لا يعرف الباطل؛ لأننا نعلم أن النظريات الأربع جميعا هي موضع للتغيير والتعديل والتصحيح، لكن ذلك نفسه لا ينفي أنها ما زالت هي المحاور الرئيسية التي يدور حولها كثير جدا من نشاط الفكر الحديث، وعلى الرغم من أن هذه النظريات الأربع مختلفة في ميادينها؛ فنظرية دارون مختصة أساسا بعلم البيولوجيا، ونظرية ماركس معنية بالاقتصاد والاجتماع، ونظرية فرويد مجالها عالم النفس الإنسانية، ونظرية أينشتاين موضوعها علم الطبيعة، إلا أن النظرة الممعنة الفاحصة، تستطيع أن تنفذ خلالها جميعا إلى أساس مشترك، يربطها بعضها ببعض في مركب ثقافي واحد، بحيث يجوز القول عنه بأنه هو المركب الثقافي الذي يمثل عصرنا الحاضر، وهذا الأساس المشترك هو تذويب الفواصل الحادة التي كانت تفصل الأنواع الطبيعية للكائنات بالنسبة لنظرية دارون وتفصل العقل عن اللاعقل، أو تفصل الإنسان عن الحيوان في دوافع السلوك، بالنسبة لنظرية فرويد، وتفصل بين طبقات المجتمع الواحد، بالنسبة لنظرية ماركس؛ ثم بعد أن كانت البشرية تنظر إلى الحقائق العلمية كأنما هي مطلقة اليقين بغير قيد، جاءت نسبية أينشتاين لتجعلها حقائق تتفاوت في درجات احتمالها، فباتت أقل صلابة وقطعية مما كانت عليه.
أما نظرية التطور فقد جاءت لتقيم فلسفة قائمة على الدينامية والصيرورة، بعد أن كان الإنسان يتصور الكون على صورة سكونية ثابتة على حالة واحدة منذ الأزل؛ فليس المهم هنا أن يكون دارون قد أصاب أو أخطأ في تفصيلات نظريته، بل المهم هو أن تغيرت نظرة الإنسان إلى حقيقة العالم، نعم إن دارون قد أراد بنظريته الميدان البيولوجي وحده، ليقول فيه إن الكائنات الطبيعية الحية كلها، حلقات من سلسلة واحدة، لكن الباحثين بعد ذلك لم يلبثوا أن وسعوا من نطاق الفكرة لتشمل شتى جوانب الثقافة الإنسانية كلها، فنظم الحياة جميعا خاضعة للقواعد نفسها التي تخضع لها الكائنات الحية، وأهمها هو أنها إما أن تتكيف للبيئة وإما أن تموت، وأن البقاء بين النظم المتنافسة هو للأصلح من حيث التكيف للظروف؛ وكان من أبرز ما تغيرت به ثقافة عصرنا، نتيجة لمبدأ التطور، هو الإيمان بضرورة التغير والتحول وعدم الثبات الجامد؛ فكلما تغيرت الظروف من حولنا وجب أن نغير من أنفسنا لنلائم الوضع الجديد، ولا غرابة أن وجدنا عددا كبيرا من فلاسفة القرن العشرين، قد أداروا فكرهم الفلسفي حول محور التطور هذا، بمعان مختلفة عندهم، وعلى أشكال مختلفة أيضا، وحسبنا أن نذكر منهم رجلين: برجسون وهوايتهد، فضلا عن الفلسفة البراجماتية - أو العملية - التي ركزت على أهمية الفعل بالنسبة إلى مجرد التأمل النظري؛ فالحقيقة إنما تكمن في فعل نغير به الدنيا وفق أهدافنا، وليست الحقيقة - كما كانوا يتصورون قبل ذلك - أمرا يستنبطه الإنسان داخل رأسه وهو قابع في مكانه لا يغير من أوجه العالم شيئا.
أصبحت الحقائق مرهونة بطرائق تطبيقها، فإذا زعم لنا اليوم زاعم بأن لديه فكرة أو أفكارا ليست مما يصلح للتطبيق العملي، فاعلم أن ما لديه لا ينتمي إلى دنيا الفكر كما أصبح العالم يتصوره، ونحن إذ نقول إن الفعل والتطبيق والتنفيذ وتغيير العالم من حولنا، له الأولوية على التأمل السكوني، فكأننا قلنا - بعبارة أخرى - إن الإرادة قد أصبح لها الأولوية على التفكير الذهني الذي لا يحرك شيئا من مكانه، بل إن عملية «التفكير» نفسها - كما قلنا - قد أخذت هذا المعنى الجديد، وهو أن التفكير ليس إلا مجموعة الإجراءات العملية التي نحقق بها شيئا في دنيا الواقع، فإذا لم تكن ثمة إجراءات من هذا القبيل، لم يكن ثمة تفكير بالمعنى الذي يريده عصرنا بثقافته التي شكلتها من بعض وجوهها نظرية التطور.
ذلك عن نظرية دارون وما ترتب عليها في ثقافة عصرنا، وأما نظرية ماركس الاقتصادية الاجتماعية التي نظرت إلى التاريخ وكأنه حركة جدلية يقع فيها الصراع بين ضدين حتى يتولد منهما وضع جديد، لا يلبث بدوره أن يصارع ضده حتى يتولد وضع جديد آخر، وهلم جرا؛ فهي نظرية - بغض النظر عن كل ما فيها من خطأ وصواب؛ لأن ذلك ليس موضوعنا الآن - هي نظرية مشتقة في أساسها الجدلي هذا من فلسفة هيجل، وكان لها الأثر في لفت الأنظار إلى حقيقة هامة، وهي أن التغير إذا أردناه، كان علينا أن نستثير دوافعه من الداخل، لا أن نفرضه من الخارج؛ والأمر في ذلك شبيه بما يحدث للكائن الحي كالشجرة مثلا، فهي تعتمل من داخلها لتنمو، وليست تنمو بأن يضاف إليها فروع وورق من خارجها، فإذا أردنا أن نغير المجتمع على صورة معينة، وجب أن نغير من بنيته؛ أي أن نغير الإطار الذي أقيم عليه، ولا جدوى في أن يظل الإطار كما هو، ثم نطمع في التغير بمجموعة من القوانين تصدرها الحكومات.
ومثل هذا التصور الجدلي للتغير قد بات - مع نظرية التطور - جزءا أساسيا في ثقافة عصرنا، وننتقل إلى نظرية اللاشعور التي أخذ بها فرويد؛ فقد كان لها هي الأخرى أثر بالغ في توجيه نشاطنا الفكري في هذا العصر، لدرجة أنها لم تعد مقصورة على المختصين من العلماء، بل تسربت مفاهيمها إلى رجل الشارع، فأصبح مألوفا أن نسمع الناس في أحاديثهم العابرة يقول بعضهم لبعض أشياء عن مركبات النقص وعن الكبت وما شابه ذلك. ولقد أدت هذه النظرية - بغض النظر مرة أخرى عن كل ما فيها من صواب أو خطأ - إلى تحطيم الحواجز الحادة التي كنا نميز بها العقل المنطقي عند الإنسان من سائر مكونات فطرته التي جبل عليها من غرائز وانفعال وغير ذلك؛ وأصبحنا نرى سلوك الإنسان لا يصدر بهداية عقله، بقدر ما يصدر انبثاقا من مكونات دفينة ربما ارتدت إلى بذور بذرت فيه أيام الطفولة الباكرة، وإذا كان الأمر كذلك، كان حتما علينا أن نعنى بتربية أطفالنا ليجيء الإنسان الذي نريده سويا خاليا من العقد التي قد تنحرف به عن الجادة المستقيمة، دون أن تكون له في ذلك حيلة، ومن هنا أخذت تتغير وجهات النظر إلى انحراف السلوك عن العرف المألوف، بحيث أصبح يعد مرضا يستلزم العلاج، بعد أن كان جناحا يقومه العقاب؛ إذ ما دام سلوك الإنسان تشكله تلك العوامل الخافية فهل نعاقب الشجرة على أنها تنبت الشوك إذا كانت بذورها الأولى تحتم عليها أن يكون الشوك مصيرها؟
Shafi da ba'a sani ba