فلقد كانت الفكرة المستقرة في هذا الصدد، أن المبادئ التي ينبغي أن تقام عليها طرائق الحياة وأساليب التعامل، ثابتة ثبات الحقائق العلمية الموضوعية، فلا سبيل إلى تبديلها أو تحويرها؛ مهما تعاقبت العصور وتغيرت ظروف العيش؛ فما هو صواب يظل صوابا إلى الأبد، وما هو خطأ يظل خطأ إلى الأبد كذلك، وكان لتلك المبادئ الثابتة، بعد روحي، يقضي بأن يعلو الإنسان بنفسه عن شهوات جسده، فلا يلقي بزمامه إلى غرائزه، بل عليه إلجامها، ليحيا حياة العفة والتضحية والطهر والنقاء.
ثم جاء عصرنا ومعه متغيرات جديدة، أحدثت عند الناس ما أحدثته من حيرة وتردد؛ ومن تلك المتغيرات ما أجراه علماء الأنثروبولوجيا - أعني دراسة أنماط الحياة عند المجموعات البشرية المختلفة - ما أجراه هؤلاء العلماء من بحوث، كشفت عن التنوع الواضح فيما يأخذ به الناس هنا وهناك من مبادئ يسلكون على أساسها؛ فما هو واجب الأداء عند أولئك، محرم عند هؤلاء؛ ومعنى ذلك أن مبادئ السلوك ليست أمورا مطلقة محتومة، بل هي أحكام نسبية تمليها الظروف؛ ولو كانت مبادئ السلوك ثابتة يحتمها منطق العقل في كل مكان وزمان، لاتفقت عليها شعوب الأرض جميعا، لكن تلك الشعوب تتفرق في ذلك تفرقها في الأهداف والمنافع.
لقد انتقل محور السلوك في عصرنا من العقل إلى اللاعقل؛ أعني أنه انتقل من سلطان المنطق الصارم إلى ليونة المشاعر وروغانها، وحتى حين يخفي الإنسان عن نفسه حقيقة نفسه بطلاء ظاهري من وقار العقلانية الخلقية التي كانت، ترى التحليلات العلمية تلاحقه بإزاحة القناع الزائف عن سحنته لينكشف الخبئ؛ فأكثر القديسين ورعا وتقوى - كما يقول نيتشه - يخفي وراء زهده حافزا للسيطرة، وأرفع آيات الفن والأدب - كما يقول فرويد - يكمن الجنس خلف أستارها، وأعلى القيم الإنسانية - كما يقول ماركس - تخبئ في طيها مصالح أرباب المنافع.
هذا هو العصر وما قد بات يضطرب بين جنباته من أفكار تزعزع ما كنا قبلناه قبولنا للمسلمات الثابتة؛ فماذا يصنع المثقف العربي إزاء هاتين النظرتين؟ كيف يوفق بينهما ليستحدث الصيغة التي يريدها، والتي تجمع بين موروثنا ونتاج العصر الحاضر؟ أنقول له: تنكر للجديد لأنه ليس منا، وتشبث بالقديم الثابت لأنه تراثنا؟ إنه لو فعل ذلك بمثل هذه البساطة، لأغمض عينيه عن جموع شبابنا التي لم تنتظر ما يقرره لها المترددون، بل أخذت تتخبط بين مبادئ تلقن لهم تلقينا فيحفظون لفظها عن ظهر قلب، وسلوك فعلي يسلكه الشباب في حياته كما يحياها على نقيض تلك المبادئ؛ وهكذا وقع في ازدواجية مخيفة وضعته بين المطرقة وسندانها؛ ومن هنا كان جانب كبير من فساد النفاق القبيح الذي يملأ حياتنا بظواهر الخوف والجبن؛ فاللسان في حياتنا يحكي شيئا، والأبدان تسلك شيئا آخر.
فهل يغمض المثقف المسئول عينيه عن ذلك كله، مكتفيا بوعظ يلقيه فيجنبه الأذى؟ لا، ليست المسألة بهذا اليسر كله؛ فالسؤال العميق الذي تنطوي عليه النقلة التي قفز بها عصرنا في مجال السلوك من فلك إلى فلك، هو هذا: عن أي طريق تحقق الشخصية الإنسانية ذاتها في ظروف عصرنا؟ أتحققها عن طريق الزهد أم تحققها عن طريق المتعة؟ أتكون أخلاقية التحريم أجدى عليه، أم أخلاقية الإباحة؟
وعلى المثقف العربي أن يجيب بما يقنع الشباب العصري، لكنه لا يعرف كيف يجيب وهو مطمئن إلى الصواب؛ ومن ثم كان جانب من جوانب أزمته.
4
وننتقل من مجال السلوك ومبادئه، إلى مجال العلوم ومنهاجها؛ فالنظرة العلمية هي بلا جدال أبرز طابع يميز هذا العصر الذي يقلنا على أرضه ويظلنا بسمائه، ومكمن الأزمة التي تكتنف المثقف العربي في صدد العلم، هو أن العلم الطبيعي قوامه واقع مادي من جهة، وإدراك له بالحواس من جهة أخرى؛ فليس من العلم ما لا يرتد آخر الأمر إلى عالم التجربة عند التطبيق؛ ولما كانت جذورنا الثقافية العميقة نابتة من وراء الواقع المادي، والإدراك عندها لا يكون بالحواس وإنما يكون بالإلهام؛ فلقد نشأت في نفوسنا كراهية لما هو مادي يندرج في نطاق الحواس؛ وكان حتما علينا أن يجيء إيماننا بالعلم الطبيعي - الذي هو أبرز سمات العصر - إيمانا تساوره شكوك.
على أن هذا الإيمان المنقوص بالعلم الطبيعي، لم يمنعنا من العيش في نعيم نتائجه، فننعم في حياتنا اليومية بالطيارة والسيارة والثلاجة ومكيف الهواء، كما ننعم بكشوفه الجبارة في ميادين الطب واستنبات القفر واستخراج ما في باطن الأرض من كنوز.
ومن هنا انشطرت حياتنا بازدواجية أخرى؛ فمن الوجهة النظرية نتشكك في العلوم وقدراتها، ومن الوجهة العملية نقبل بكل نفس راضية، على ما تنتجه تلك العلوم من ثمرات، وبين الوجهة النظرية والوجهة العملية يقع المثقف العربي في أزمته، إنه إذا جعل الأولوية الأولى لأحكام العلم أغضب الجمهور، لكنه كذلك إذا ساير الجمهور في مشاعره، تنكر للعصر في أبرز سماته.
Shafi da ba'a sani ba