97

يلقي آخيل بجثة الشاب في نهر كسانثوس، مطلقا بذلك واحدة من أغرب وأكثر تسلسلات الأحداث خيالية في الأدب. كل الأنهار لها أرواح، أو هي أرواح في ذاتها، في عقيدة هوميروس، وفي مشهد «مجد آخيل» رأينا في تقسيم الآلهة كيف أن كسانثوس انضم إلى جانب الطرواديين. يمثل المشهد بانوراما سيريالية لمواقف تنطوي على مبالغات. تملأ جثث كثيرة جدا النهر لدرجة أنها تعلق بفروع شجرة مائلة إلى أسفل وتسد النهر حتى إنه يثور ويهاجم آخيل، ويكاد أن يغرقه. وينجو بمعجزة عندما يجفف هيفايستوس، المنوط به جانب الآخيين، المياه بعاصفته النارية.

تفصلنا الحالة الخيالية التي تسود المشهد عن مشهد قتل ليكاوون بدم بارد وتمهد للقتال الكبير القادم. إن آخيل بشري فان، بيد أن مشهد «المعركة مع النهر»، شأنها كشأن واقعة بناء الجدار أمام المعسكر السالف تناولها، قد ترجع جذوره إلى روايات أسطورية لأحداث القرون الأولى، حينما وجد العالم من التناقض بين الماء والنار. إن قصة المواجهة بين بطل وبين المياه المدمرة والماحقة هي قصة بالغة القدم، ونجدها مثبتة في قصيدة الشرق الأدنى من أوغاريت التي ترجع إلى حوالي 1400 قبل الميلاد، والتي فيها يتصارع إله العواصف إيل مع الإله يم، الذي يمثل البحار في القرون الأولى، ويتغلب عليه.

يتقاتل آخيل مع النهر، وهو ما ينتج عنه قتال هيفايستوس ضد كسانثوس، الذي يؤدي إلى مشهد «معركة الآلهة» الشامل، الذي فيه يشن الخصوم الذين كانوا مجتمعين في السابق هجوما شديد الوطأة بعضهم على بعض. فتدخل هيرا في صراع مع آريس في مشهد هزلي بعيد كلية عن حدث المذبحة الصارم وهالة الخطر الكوني اللذين شهدناهما في صراع آخيل في النهر. من شأن جمهور هوميروس أن يتهكم على أثينا وهي تتصرف مثل أياس وتلتقط حجرا ضخما وتصيب به إله الحرب نفسه بعدما يهاجمها برمح:

قال هذا وضرب درعها «أيجيس» المزين بالشرابات (شراشيب) - درع «أيجيس» الرهيب الذي لا تستطيع حتى صاعقة زيوس أن تتغلب عليه - ضربه آريس الملطخ بالدماء برمحه الطويل. تراجعت [أثينا] وأمسكت بيدها القوية حجرا أسود هائلا مسننا كان على أرض السهل، كان القدامى يضعونه علامة حدودية لحقل. ضربت به آريس الغاضب على عنقه فتراخت أوصاله. تمدد في سقطته على سبعة أفدنة وتوسخ شعره بالتراب وأصدرت دروعه حوله أصوات قعقعة. ولكن بالاس أثينا أطلقت ضحكة وقالت بكلمات مجنحة وهي تقف فوقه متفاخرة: «أحمق، لم تكن حتى بعد تعرف كم أنا أقوى منك، لدرجة أنك ضاهيت قوتك بقوتي. الآن تكفر بالكامل عن النقمات التي استنزلتها عليك أمك، التي تدبر لك الشر غضبا منك لأنك تخليت عن الآخيين وتمد يد العون للطرواديين المغترين.» (الإلياذة، 21، 400-414)

أيضا توجه أثينا لأفروديت ضربة في صدرها (في الموضع الذي يؤلم كثيرا). يرفض أبولو أن يشتبك مع بوسيدون، حتى إن أخته أرتميس توبخه إلى أن تبرهن هيرا البغيضة لمن تكون الزعامة:

عندئذ أمسكت بيدها اليسرى كلتا يدي الأخرى [أرتميس] من معصميهما وباليمنى أخذت القوس وعدته من على كتفيها وضربتها بهذه الأسلحة، وهي تبتسم طوال الوقت، بجانب أذنيها وهي تدور يمنة ويسرة، وتساقطت السهام السريعة من الجعبة. (الإلياذة، 21، 489-492)

لا يمكن للقتال بين الكائنات الإلهية إلا أن يكون مدعاة للسخرية. (25) «مصرع هيكتور» (الكتاب 21، من البيت 514 إلى الكتاب 22)

في بعض الأحيان يتقاطع عالما البشر والآلهة، وفي هذا المشهد يلاحق آخيل أبولو عبر السهل، وهو يحسب أنه يطارد أجينور، أحد نبلاء الطرواديين. عندما يكشف أبولو عن خدعته، يعود آخيل أدراجه صوب المدينة. يراه بريام، كنجم الشعرى اليمانية، يسطع لامعا، نذير سوء. في خطبة مطولة بإملال وتنطوي على رثاء للذات يتوسل بريام لهيكتور راجيا إياه أن يدخل. إن مصرع هيكتور لهو هلاك لطروادة، ويتصور بريام الهول الذي سيلاقيه عند موته هو نفسه:

أراني أنا نفسي في النهاية تمزقني كلاب متوحشة عندما تأتي إلى بابي، بعدما تنتزع الحياة من أوصالي بطعنة سيف برونزي حاد أو رمية سهم. نفس تلك الكلاب التي ربيتها في قاعات قصري وأطعمتها من أطايب مائدتي لتحرس بابي. وبعد أن تشرب دمي في وحشية تضورها، سوف تتمدد هناك في المدخل؛ فالشاب يبدو حسنا عندما يصرع في المعركة ويجندل ممزقا بالبرونز الحاد؛ إذ رغم أنه ميت، فالأمر كله جليل ومشرف، عندما يكون بمقدورك أن ترى كل جزء منه. ولكن عندما تلحق الكلاب الهوان بالرأس الأبيض الشعر واللحية البيضاء وفي عورة شيخ كبير ميت، فهذا أكثر شيء مدعاة للشفقة يصيب التعساء من البشر. (الإلياذة، 22، 66-76)

تكشف هيبوكا أم هيكتور ثدييها؛ فهو قد رضع من هذين الثديين وهو مدين لأمه بشيء. تتدافع الأفكار في ذهن هيكتور. هل يدلف إلى الداخل ويفقد السؤدد والشرف؟ هل يحاول أن يعقد صفقة مع آخيل ، ويعيد هيلين والأسلاب؟ ماذا لو مزق آخيل أوصاله مثل امرأة؟ لقد سبق السيف العذل بالفعل بالنسبة إلى هيكتور؛ فآخيل يوشك أن يلحق به. يفقد الطروادي العظيم رباطة جأشه ويجري بكل ما أوتي من قوة كأنما يجري خلفه أسد؛ إذ تغلب خوفه على شجاعته. إن آخيل الآن يستحق نعته «ذا القدمين السريعتين». في الطليعة رجل صالح ولى الأدبار، كان لديه أشياء مهمة يتوجب عليه الدفاع عنها وأمور كثيرة من شأنه أن يخسرها، ولكنه ملاحق من قبل رجل أشد قوة، دروعه وأسلحته من صنع الآلهة ومتفان في الانتقام. «ولم يكن سباقهما من أجل أضحية أو جلد ثور؛ تلك الجوائز التي تقدم لأسرع الرجال في سباقات الجري، ولكنهما كانا يتسابقان من أجل حياة هيكتور، مروض الخيول» (22، 159-162).

Shafi da ba'a sani ba