عاد الدانانيون يتدفقون بين السفن المجوفة، وتصاعد صخب واستمر. ومثلما، من فوق الذروة المطلة لجبل شاهق يبعد زيوس جامع الصواعق غيمة كثيفة عنه، فتبين قمم الجبال والمرتفعات والوهاد ويتدفق من السماء النسيم العليل المتواصل، هكذا كان الدانانيون عندما كانوا يبعدون نار [الطرواديين] الآكلة عن السفن، ويستريحون استراحة محارب قصيرة، مع أن الحرب لم تتوقف. (الإلياذة، 16، 295-302)
ما نقطة الالتقاء هنا؟ من الواضح أنها قصر فترة استراحة الدانانيين من الحرب. لا يقول هوميروس إن الغيمة المكفهرة ستعود سريعا لتغطي الجبل، ولكن علينا أن نخمن ذلك. ففي البداية ثمة عتمة تكسو الجبل، ثم يسطع بنور الشمس، ثم يعود معتما ثانية. كذلك ينغمس الدانانيون في الحرب، ويجدون متنفسا، ثم يعودون للانغماس في الحرب . نستخلص من ذلك أن جمهور هوميروس المثقف يقدر التصوير المبدع ويميل إلى الفكر الراقي. (4) هوميروس وحبكة القصة
إن الصيغ والعبارات المدبجة، والوصف المفصل، والعداء للتشويق، والتشبيهات المتقنة، كلها وجدت لتدعيم القصة التي يرويها هوميروس، التي تمثل البناء الذي تقوم عليه الحبكة، والتي هي بمثابة العمود الفقري الذي يقوم عليه الأسلوب السردي. إننا نعتبر الحبكة أمرا مسلما به في وسائل الترفيه الحديث، في الروايات والأفلام الروائية الطويلة، ولكن ثمة القليل من الدلائل على وجودها في آداب عصر ما قبل الهيلينية. ثمة استثناء بالغ الأهمية وهو ملحمة «جلجامش»، التي تحتوي بالفعل على حبكة بدائية، على الأقل في الصيغة المحفوظة على الاثني عشر لوحا التي عثر عليها في مدينة نينوى. إن المعنى الذي نعرفه لمفهوم الحبكة يرجع مباشرة إلى هوميروس، ولكنه في هذه المسألة، مثلما في مسائل أخرى كثيرة، بنى على إنجازات سابقة.
قد يبدو الأدب السردي وكأنه يشبه الحياة، بيد أن في الحياة ليس ثمة حبكة؛ فالتشبه بالواقع في الأدب ليس إلا وهم. ما هي الحبكة، ذلك المحرك لقصائد هوميروس؟ كان أرسطو (384-322 قبل الميلاد) أول من حلل عناصر الحبكة، التي يدعوها
muthos (ما نسميه نحن «الأسطورة» أو «الخرافة»). وأغلب تفكيره يدور حول الدراما الإغريقية، التي هذبت فيها مبادئ أرساها هوميروس وحولت إلى الحبكة المعاصرة التي نألفها في زمننا الحاضر:
إن الترتيب الصحيح للحوادث ... هو أول وأهم نقطة في المأساة. لقد قررنا أن المأساة هي محاكاة فعل [
mimesis praxeos ] تام وله مدى معلوم؛ لأن الشيء قد يكون تاما دون أن يكون له مدى. والتام هو ما له بداية ووسط ونهاية. البداية هي ما لا يعقب شيئا آخر بالضرورة، ولكن يعقبه شيء آخر، يوجد أو يحدث كنتيجة طبيعية له والنهاية على العكس من هذا، هي ما يترتب بالضرورة أو أحيانا على شيء آخر، ولكن لا يعقبه شيء. أما الوسط فهو ما يترتب على شيء آخر ويترتب عليه شيء آخر. ومن ثم لا يجب للحبكات [
muthoi ]، حين يجاد تأليفها، أن تبدأ وتنتهي كيفما اتفق، بل يجب أن تنسجم مع المبادئ التي أوردنا ذكرها. (أرسطو، «فن الشعر»، نقله إلى الإنجليزية دبليو هاميلتون فايف (بتصرف)، القسم 1450ب)
إذن للحبكة عناصر ثلاثة: بداية، ووسط، ونهاية. وهذه العناصر ليست قابلة للتبادل فيما بينها وإنما لها خصائص متفردة. وقد ظهرت تلك العناصر، حسبما رأى أرسطو، أول ما ظهرت في شعر هوميروس:
إذ إنه حينما ألف «أوذوسيا» [الأوديسة] لم يرو جميع حوادث حياة أوديسيوس - مثلا، أنه جرح على [جبل] فارناسوس [بارناسوس] وتظاهر بالجنون حينما احتشد الإغريق - لأن هذين الحادثين لا يرتبطان بحيث إذا وقع الواحد وقع الآخر بالضرورة [أو] احتمالا، وإنما ألف «أوذوسيا» بأن جعل مدار الفعل [
Shafi da ba'a sani ba