إذ ضربه ابن تيلامون، الذي اندفع من بين الجموع، عن قرب شديد، على خوذته البرونزية ذات الجوانب الواقية للصدغ، فانشطرت الخوذة المزينة بعرف من خصلات من شعر الجياد تحت رأس الرمح؛ إذ أصابها الرمح العظيم واليد القوية، واندفع المخ عبر الجرح على طول مغرز الرمح، الذي تلطخ كله بالدماء ... (الإلياذة، 17، 293-298) [ترجمة عبد السلام البراوي، المركز القومي للترجمة (بتصرف)]
يتميز جمهور هوميروس بولع بالدم، وهو الولع الذي يشبعه وصف دقيق، ولكنه يأنف من الإشارة إلى التوظيفات الجسدية أو التوصيفات الصريحة للأفعال الجنسية، التي لا تتناسب مع العالم البطولي ومع إكباره لخصال الرجولة.
تعزز رغبة هوميروس في قول كل شيء - وهو الأمر الذي يبلغ حد التطرف - من مسألة تعديد الأسماء، التي يوجد منها الكثير في كلتا القصيدتين. ومن الأشكال الشائعة لتعديد الأسماء، سلسلة النسب، التي يعدد فيها البطل أسلافه ليثبت جدارته. وفي مشاهد المعارك يمكن لتعديد أسماء الضحايا أن يعظم الفعل ويضخمه، كما في الكتاب الحادي عشر من «الإلياذة» عندما يختبر أوديسيوس، المحاصر، معدنه: ... ولكنه ضرب أولا البطل الفذ ديوبيتيس بعد أن قفز فوقه وضربه أعلى كتفه برمحه الحاد، وبعد ذلك قتل ثوون وإنوموس، ثم انقض على خيرسيداماس وهو يثب من عربته وضربه برمحه في السرة من تحت درعه الضخم، فسقط في التراب وتشبث في الأرض بقبضته. وترك أوديسيوس هؤلاء وحدهم وهاجم خاروبس بن هيباسوس، شقيق سوكوس الثري، وقتله بضربة من رمحه. (الإلياذة، 11، 420-427)
ما مصدر الأسماء الألف التي تظهر في هذه القصائد؟ على ما يبدو أن هوميروس يأخذها من مستودع عام للأسماء (فلا نسمع بمعظم هؤلاء الناس أبدا قبل أو بعد هوميروس)، ذاك الذي يعد جزءا من ذخيرة المنشد الملحمي. ففي أكبر تعديد أسماء في الملحمتين، وهي قائمة السفن الشهيرة في الكتاب الثاني من الإلياذة، يرتب هوميروس معلومات جغرافية حقيقية تبعا لنسق معقد. ولتعديد الأسماء نظائر بارزة في أدب الشرق الأدنى. على سبيل المثال، يخصص قسم كامل تقريبا من ملحمة الخلق البابلية من بلاد ما بين النهرين «إنوما إليش»، (وهما ببساطة أول كلمتين في الملحمة) وتعني «عندما كانت السماوات العلى ...» تلك التي تحكي قصة انتصار الإله مردوخ خالق العالم على قوى الفوضى، لتعديد لأسماء مردوخ. فمما لا شك فيه أن في مجتمع شفاهي كان تعديد الأسماء وسيلة لتنظيم المعلومات، أخذه كتبة الشرق الأدنى الملمون بالقراءة والكتابة مثلما أخذوا خصائص أسلوبية أخرى يتسم بها الشعر الشفاهي.
ثمة سمة لافتة أخرى يتسم بها أسلوب هوميروس وهي ميله إلى «النظم الدائري»، أي أن يطرح المعلومة [أ]، و[ب]، و[ج] ثم يجيب عليها بترتيب معكوس أي [ج] ثم [ب] ثم [أ]. على سبيل المثال، عندما يلتقي أوديسيوس بأمه في العالم السفلي يسألها:
أي منية من منايا الموت المفجع ألمت بك [أ]؟ أكان مرضا طويلا، أم أن أرتميس، رامية السهام، أصابتك بسهامها النبيلة [ب]؟ وخبريني عن أبي [ج] وابني [د]، اللذين خلفتهما ورائي. هل ما زال الشرف [
geras ]، الذي كان لي، بين ظهرانيهما، أم إن رجلا آخر الآن يملكه، وهل يقول الناس إنني لن أرجع أبدا [ه]؟ وخبريني عن زوجتي المخلصة، عما تنويه وما يدور بخلدها. هل ما زالت إلى جوار ابنها، وتبقي كل الأشياء مصونة؟ أم إن من هو أفضل الآخيين قد تزوجها بالفعل [و]؟ (الأوديسة، 11، 171-178)
عندما تجيب والدة أوديسيوس (الأبيات 180-284)، فإنها تفعل ذلك بترتيب معكوس: فبينيلوبي لا تزال صامدة في المنزل [و]، ولا يحوز رجل آخر شرفه [ه]، وابنه ما زال على حاله [د]، وأبوه يعيش في الريف [ج] (تستفيض مطولا في الحديث عن معاناته). أما بشأن موتها، فلم تكن أرتميس [ب] هي التي قتلتها، وإنما الشوق إلى ولدها، أوديسيوس [أ]. وقد استنبط باحثون كثيرون أنماطا معقدة للنظم الدائري في القصيدة ككل وفي أجزائها المتنوعة. وهذه بالضبط هي الطريقة التي ننظم نحن بها المعلومات عندما نتحدث علنا ويكون حديثنا عفويا دون إعداد مسبق. ومجددا، تعكس سيطرة النظم الدائري على صعيد الأسلوب وفي أنماط أوسع، الأصول الشفاهية لهذه القصائد. (3) التشبيهات
ثمة سمة بارزة من سمات أسلوب هوميروس المتمهل تستحق اهتماما خاصا وهي التشبيه. والتشبيه، الذي يعد أكثر شيوعا بكثير في «الإلياذة» عنه في «الأوديسة»، هو وسيلة لإيقاف الحدث، والانسحاب منه والتعليق عليه، وإثرائه، وفي بعض الأحيان الحكم عليه. كما في وصف هوميروس لدرع آخيل، الذي هو نفسه عبارة عن تشبيه ممتد؛ إذ يرينا هوميروس عالما عاديا يقطنه أناس عاديون في منظومة معتادة؛ رعاة يحمون القطعان، ويحلبون الأبقار، ويحصدون القمح، أو نساء بسيطات يغزلن:
ثم بسرعة شق ابن أويليوس [أي أياس الأدنى شأنا] طريقه نحو المقدمة، وعلى مقربة بعده جرى أوديسيوس الإلهي. وأصبح على مقربة منه كدنو وشيعة المغزل من صدر امرأة ذات نطاق جميل، وهي تشدها بيديها بعناية وتسحب خيط الغزل عبر السداة، وتمسك العصا على مقربة من صدرها، هكذا بهذا القرب ركض أوديسيوس وراءه. (الإلياذة، 23، 758-763)
Shafi da ba'a sani ba