من الواضح في قصة لوح بيليرفونتيس أن هوميروس قد تلقى عن مصدر شرقي - إضافة إلى قصة شرقية - فكرة «الرسالة القاتلة» المأخوذة من الحكايات الشعبية. تظهر الفكرة في القصة التوراتية عن داود وأوريا الحيثي، الذي يرسله داود إلى الخطوط الأمامية في الجيش ومعه رسالة تحوي أمرا بتعريضه لخطر مميت (إذ أراد داود أن يتزوج بثشبع زوجة أوريا: سفر صموئيل الثاني، الإصحاح 11: الآية 15). يبدو أن اسم بيليرفونتيس مأخوذ عن اسم إله الشرق الأدنى بعل إله الريح. يبعث الملك الليكي ببيليرفونتيس في مواجهة مخلوق الكمير، وهو تنويع على أسطورة عن قاتل تنين وجدت بالفعل على ألواح طينية يرجع تاريخها إلى حوالي عام 1400 قبل الميلاد من مدينة أوغاريت التي كانت تعد مركزا تجاريا دوليا على الساحل السوري بالقرب من قبرص: يقع إقليم ليكيا على الطريق الساحلي غرب أوغاريت (خريطة 1). والكمير هو وحش شرقي، ربما كان حيثيا. وهكذا جاءت الفكرة مع القصة. لم يعرف هوميروس شيئا عن «الكتابة»: وهو المطلوب إثباته. في زمن هوميروس، كان قد مضى على كتابة الكلام البشري أكثر من ألفي عام في الشرق الأدنى، ونحن نتساءل كيف ظل هوميروس جاهلا بالأمر، حتى إنه يشير إلى الكتابة مرة واحدة في 28 ألف بيت وبطريقة مشوشة. إن غياب الكتابة في عالم هوميروس لخير شاهد على انحصار وإقليمية المجتمع الهيليني بعد سقوط الحضارة الميسينية في حوالي 1150 قبل الميلاد، ودليل على العزلة الهيلينية عن مراكز الحضارة القديمة.
خريطة 1: البحر المتوسط في الأزمنة القديمة.
يبدأ الشكل الحديث للمسألة الهوميرية على يد فريدريش أوجست وولف؛ لأنه أدرك المشكلة بجلاء: إذا كان هوميروس لا يعرف شيئا عن الكتابة، فكيف حفظت قصائده بالكتابة؟ وذهب وولف، مفترضا كما فعل كثيرون (دون سبب وجيه) أن هوميروس عاش حوالي عام 950 قبل الميلاد، عندما لم تكن الكتابة معروفة في اليونان (وهو افتراض آخر من قبله)، إلى أن قصائد هوميروس لا بد وأن تكون قد حفظت على هيئة أناشيد قصيرة بما يكفي لأن تحفظ عن ظهر قلب دون الاستعانة بالكتابة. واعتقد وولف أن الأجيال قد تناقلت القصائد في هذه «الصيغة الشفهية» إلى أن دونت عندما ظهرت الكتابة لاحقا. ورأى وولف أنه في القرن السادس قبل الميلاد، في عهد الطاغية الأثيني بيسيستراتوس، جمع مصححون مهرة النصوص المكتوبة الأقصر وصاغوا ملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة» الرائعتين (تعتريهما بعض العيوب بالطبع) كما نعرفهما.
كان نموذج وولف متزامنا مع - ومستلهما من - الاكتشاف الذي حدث في أواخر القرن الثامن عشر والذي مفاده أن البانتاتيك (وتعني اللفائف (أو الكتب) الخمسة) التوراتية - وهي الأسفار الخمسة الأولى للكتاب المقدس - تشكلت من ثلاثة أو أربعة عناصر نصية مزجت ببراعة، ولكن بطريقة تنقصها السلاسة على أيدي المصححين، ولا شك في أن ذلك قد حدث أثناء سبي الطبقة الحاكمة اليهودية وإبعادهم من أورشليم إلى بابل (586-538 قبل الميلاد). وعلى الرغم من نسبتها إلى موسى - الذي ربما يكون قد عاش في أواخر العصر البرونزي حوالي عام 1200 قبل الميلاد - فإن البانتاتيك ترجع إلى حقبة متأخرة جدا بما لا يصح معه إسنادها إليه بأي سبيل يعتد به. في فترة ما من القرن السادس قبل الميلاد، جلس علماء دين يهود في غرفة وأمامهم لفائف مختلفة، بانتقائهم شيئا من هنا وشيئا من هناك، مزج هؤلاء المصححون نصوصا متباينة كانت موجودة من قبل ليصنعوا النسخة التي بين أيدينا اليوم. فأطلق البعض على الرب اسم يهوه (من الواضح أنها كانت روحا بركانية من [جبل] سيناء)، ودعاه آخرون إلوهيم (المرادف في اللغات السامية لكلمة «آلهة»). ولهذا السبب يحمل كلا الاسمين في سفر التكوين، وتلك فرضية يتفق عليها كل علماء العصر الحديث بشأن المصادر التي نشأ منها نص البانتاتيك.
كان دليل وولف على نظريته معقدا؛ فبعض الملامح الظاهرية المتصلة باللهجات تعكس على ما يبدو معالجة أو تنازعا أثينيين للنص، وهو ما يتفق مع نظرية مفادها أن النص «الشائع» الإسكندري كان قد جاء من أثينا. وبحسب شيشرون، الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد، أي قبل يوسيفوس بنحو 100 عام، كان الطاغية الأثيني بيسيستراتوس (605؟-527 قبل الميلاد) «أول من جمع كتب هوميروس بالترتيب الذي بين أيدينا، تلك التي كانت قبل ذلك مختلطة» (كتاب «في الخطابة» 3، 137). يبدو أن شيشرون يقصد أن «الكتب» - أي لفائف البردي - كانت تتداول من قبل بمعزل عن بعضها ومن ثم كان من الممكن أن تلقى بترتيب مختلف في كل مرة، حتى عهد بيسيستراتوس. عاش شيشرون بعد بيسيستراتوس بنحو 600 سنة، إلا أنه اعتمد على معلق هيليني، ربما كان يعرف شيئا ما.
يبدو أن ملاحظات شيشرون تتفق مع الزعم الذي يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد والوارد في المحاورة الأفلاطونية «هيبارخوس» (التي ربما تكون منسوبة لأفلاطون خطأ)، وهو تراث سبق وأن أشرنا إليه. في محاورة «هيبارخوس» يشير سقراط إلى هيبارخوس ابن بيسيستراتوس بأنه «أكبر أبناء بيسيستراتوس وأكثرهم حكمة، الذي كان - كواحد من ضمن براهين عديدة فائقة على الحكمة التي أبداها - كان أول من جلب قصائد هوميروس إلى بلدنا هذا وألزم رجالا يدعون «الرابسوديين» (وتعني رواة الملاحم الشعرية) في مهرجان عموم أثينا (المهرجان الأثيني الرئيسي) بأن يلقوها بالتتابع، رجل يعقب آخر كما لا يزالون يفعلون في زماننا هذا» (أفلاطون، محاورة «هيبارخوس» المنسوبة كذبا إلى أفلاطون، 228ب). إن كانت ثمة حاجة إلى قاعدة لتضبط الطريقة التي ينبغي أن تقرأ بها القصائد، فلا بد وأنه كان يوجد أوقات كانت تقرأ فيها بشكل آخر خلاف ذلك، أي دون اتباع ترتيب. وكانت هذه المعلومة تعني لوولف أن القصائد حتى ذلك الوقت لم تكن تشكل وحدة واحدة، وإنما وجدت أولا في قطع قصيرة ملائمة للحفظ عن ظهر قلب، وهو ما فرضته معيشة هوميروس في زمن لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة.
ارتأى وولف أنه في حين أن معظم القصائد التي دخلت في تشكيل المؤلف الجامع المستحدث في القرن السادس قبل الميلاد - والذي يعرف في الوقت الحاضر باسم «تنقيح بيسيستراتوس» - كانت من تأليف هوميروس، فإن بعض القصائد كانت من تأليف من يطلق عليهم «الهوميروسيين»، أي «سليلي هوميروس»، الذين قيل في مصادر متعددة إنهم كانوا يعيشون في جزيرة خيوس. ويأتي على ذكرهم بندار الذي كان يعيش في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد. ومع ذلك فليس ثمة شيء حقيقي معروف عن الهوميروسيين، باستثناء أنهم ألقوا قصائد هوميروس ورووا حكايات عن حياته. ومن المرجح أن يكون وجودهم على جزيرة خيوس هو أصل القصة القائلة إن هوميروس نفسه - الذي ليس معروفا عنه أي شيء البتة - جاء من جزيرة خيوس. وطرح وولف نظرية مفادها أن بيسيستراتوس ربما تلقى القصائد القصيرة من الهوميروسيين والتي جمعت بعد ذلك في شكل القصائد التي بحوزتنا في الوقت الحاضر.
خلاصة القول: لا يمكن أن يكون لديك قصائد طويلة مثل «الإلياذة» و«الأوديسة» دونما كتابة، بصرف النظر عن المزاعم المبالغ فيها بشأن مهارات التذكر لدى الشعوب القديمة. ولأن عالم هوميروس هو عالم من دون كتابة، فلا يمكن أن تأتي القصائد - الموجودة في صورة مكتوبة - مباشرة من هذا العالم. لا بد بطريقة ما أن تكون نتاج التطور. ولم يعد ينسب شكلها الحالي ولا محتواها إلى شخص ما كان يسمى هوميروس إلا بقدر ما ينسب إلى موسى كتابة الأسفار الأولى من الكتاب المقدس (التي تصف موت ودفن موسى). إن الإسنادات الباطلة - أي نسب العمل إلى غير كاتبه - متشابهة. قد يختلف الباحثون بشأن موقع هوميروس على منحنى التطور الذي يبدأ في عالم أمي يجهل الكتابة وينتهي بالقصائد التي بحوزتنا، ولكن في نظر وولف فإن موقع هوميروس كان في بداية المنحنى كمبتدع للقصائد القصيرة التي صنع منها المصححون الأثينيون «تنقيح بيسيستراتوس» في القرن السادس قبل الميلاد، الذي يعتبر الأساس الذي استند إليه النص الذي مر عبر الإسكندرية وصار نص الفولجاتا «النص الشائع» الحديث.
لم يختلف باحث ذو شأن مع نموذج وولف، ولأكثر من 100 سنة - طوال القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين - فحص باحثون نبهاء ومتفانون بدقة القصائد الهوميرية من كل زاوية من أجل تحديد الأناشيد المنفصلة، أو الإضافات، التي كان وولف قد أثبت أن القصائد قد جمعت منها. وحتى في الوقت الحاضر يوجد باحثون يأخذون بحجة وولف إلى حد بعيد. على سبيل المثال، يكتب أحد محرري نقد أكسفورد المعاصر ذي المجلدات الثلاث «للأوديسة» عن الكتاب رقم 21 من الأوديسة ما يلي:
يميل شاديوالت إلى القبول بوجود وحدة واضحة في التأليف في «الكتاب» الحادي والعشرين، وينسب الكتاب بكامله إلى المؤلف «أ» (مؤلف افتراضي) مستثنيا ثمانية أبيات؛ ألا وهي: تفاخر تليماك (تليماخوس) في الأبيات 372-375 (سبق وأن رفضها بيرار)، التي يستلزم استبعادها حذف تشبيه الخاطب في البيتين 376-377 والشطر والنصف الأول من البيت 378 (الذي بالتالي سيلزم إعادة كتابته)؛ وصاعقة زيوس في الأبيات 412-415. والأخيرة هي إقحام ميلودرامي، كما لاحظ فون دير مول.
Shafi da ba'a sani ba