Hulal Sundusiyya
الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية (الجزء الأول)
Nau'ikan
إنما حداني إلى تذييل هذه الرواية أمران:
الأول:
إعانة القارئ على فهم الحوادث ومعرفة المواقع، بما تفقد بدونه لذة المطالعة.
والثاني:
ما رأيته من اختصار جرم الرواية، فآثرت إردافها بذيل يطيل من قدها، ويزيد في حجمها، ويكون فيه من حقائق الوقائع التاريخية ما لا يقصر فكاهة عن موهوم الرواية الغرامية، فجاءت روايتنا ذيالا، وإن لم نرج أن تكون طاووسا، وليست هذه أول مرة جرت فيها الروايات أذيالا، واتخذت القصص أذنابا طوالا.
وما أقصد بهذا الذيل استقصاء تاريخ الأندلس الإجمالي إلا ما اضطر إليه مساق الكلام. فقد كنت منذ نشأتي ممن لا يحبون التأليف فيما كثر فيه التأليف، وطال فيه المقال كأنما أعده تكرارا لسابق، أو إعادة لصدى، وأراه خلوا من كل براعة. وأخبار الأندلس مستفيضة في التواريخ شرقا وغربا، ومعروفة عند الأدباء بما لا يكون التأليف فيه سوى زيادة في عدد الكتب. وإنما يستحب الإنشاء في ما ندر فيه الكلام وعز البحث، وطمست الأعلام فإذا قرأته العامة، بل الخاصة، سقطت منه على جديد ذي طلاوة، ولم تسأمه النفوس، لعدم تداولها مطالعته المرة بعد الأخرى مدارسة كتب القواعد التي لا تتغير.
فأشد الأقسام عوزا إلى البحث من تاريخ هذه البلاد - التي لا نزال نحسبها عربية لكون أحسن أيامها ما كان من أيام العرب فيها - إنما هو القسم الأخير، وأحوج طائفة من أخبارها إلى التدوين ما تعلق بدور الجلاء، وعصر الخروج من بلاد كانت مدة الضيافة فيها ثمانمائة سنة، وذلك لأن هذا الحادث الكبير الذي هو أضخم الحوادث في الإسلام وقع على حين خمول من القرائح العربية، وبعد مرور زمن العلم والفلسفة عند معشر الناطقين بالضاد، ولدى إقحاط البلاد بالأدمغة المتوقدة، وعقم الأمة عن الرؤوس المولدة، بحيث فاته من التأليف والكتابة فيه ما لم يكن ليفوته لو وقع قبل ذلك بقرنين أو ثلاثة، فإنه لا عطر بعد عروس.
نعم لا أنكر أن (كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) للعلامة المقري هو من أوفى الكتب بأخبار الأندلس وآدابها: حقيبة أنباء، وقمطر حوادث وخزانة آداب، وكشكول لطائف، وديوان أشعار، وقد كان عهد تصنيفه على أثر النازلة الكبرى بباقي الأندلس، وامتصاص سؤر الكاس، وعفاء الأثر الأخير من سلطان المسلمين فيها، بحيث أمكن صاحبه ذكر سقوط مملكة غرناطة، واستيلاء الأسبانيول على الجميع، وختم الدولة الإسلامية في تلك الديار، ولكنه ككثير من مؤرخينا أو مؤلفينا الذين لا يرعون النسبة بين الأشياء ولا ينتبهون إلى قاعدة أن الحسن إنما هو تناسب الأعضاء، فقد بحث في هذا الخطب الجلل، والحادث العمم، بحثا هو دون حقه بدركات، وأتى عليه كما يأتي على واقعة متوسطة البال، من الوقائع التي أشار إليها في بطن كتابه واستوعبه في أوراق يسيرة، كانت لطافتها تكون في كثافتها، فإن التناسب يقضي بإعطاء كل مقام من المقال ما يكافيه، ويقوم بحقه ويجيء على قدره. ولو فسح الفاضل المقري رحمه الله لواقعة سقوط مملكة غرناطة، وحادث انقراض أمر الإسلام بالأندلس، ما فسحه في تاريخه للنثر الكثير، الذي يغني عن كله بعضه من المخاطبات التي صدرت عن لسان الدين بن الخطيب، أو وجهت إليه، أو إلى غيره، أو الشعر الغزير الذي كثير منه حقيق بالإسقاط من ذلك المجموع، والقصص التي يرويها عن بعض المشايخ مع طول أناة غريب في الاستقصاء، مع أنه ليس فيها ما يرفع أقدارهم إلى السماء، لكان ذلك أجزل فائدة وأسنى موقعا، وكانت الناس قد شفت غليلها من خبر هذه الطامة التي لكل الحوادث سلوان يسهلها، وليس لها سلوان، كما قال أبو البقاء الرندي، ولكفينا مؤونة النقل عن كتب الإفرنج فيما يختص بالعرب، وحسبك أنه ذكر جميع وقائع السلطان أبي عبد الله بن الأحمر، وعمه الزغل، وذهاب تلك المملكة، وما جرى في ضمنه من الحروب وما حصر من المدن، في مسافة من التاريخ، استوعبت أطول منها رسالة، واحدة صادرة عن ذلك السلطان إلى الشيخ الوطاسي صاحب فاس في موضوع أبرد ما فيه، مع طوله، أنه اعتذار عن سقوط آخر ممالك المسلمين بالأندلس على يده، بأن الخطب غير نادر المثال، وأن بغداد، دار خلافة بني العباس، قد أصابها ما أصاب غرناطة! فانظروا هل هذا مما يؤثر على طوله، أو مما ترتاح الأنفس إلى قبوله، على فرض صحة تمثيله؟ وإن كان العذر في ذلك ما يقال من أن صاحب النفح قد ألفه وهو نضو أسفار، خال من الأسفار، ليس لديه من العدة ما يستعين به على الإطالة، والأخذ بالأطراف، فسبحان الله! كم يتلهى بعض علمائنا بحفظ ما لا ينفع عن تعليق ما ينفع؟! وهذا الفاضل المقري قد أملى عن ظهر قلبه أربعة مجلدات كبار، أودعها من التاريخ والجغرافية والقصص والنكات، وحشاها من الشعر والنثر والتراجم والتصوف. غثا وسمينا، ما لا أظن حافظة تتمكن من اختزانه بين صدغين، وتركنا في التاريخ المهم من تفصيل الوقائع الشداد، والمعارك التي سالت فيها أنهر الدماء، في دور النزع الأخير، عيالا على الإفرنج، مضطرين إلى الأخذ من مصنفاتهم، فكنا وإياهم في أخذ تاريخنا عنهم كما كنا في أخذ لغتنا عن صحاح الجوهري.
475
ولا لشك أن في ديار المغرب من التواريخ عن كارثة الأندلس الأخيرة ما يستوفي شرحها
Shafi da ba'a sani ba