تقديم
كان أفلاطون هو أول من ذكر الحكماء السبعة وأسماءهم في محاورته «بروتا جوارس (343ق.م.)، ثم جاء مؤرخ الفلسفة اليونانية ديوجينيس اللائرسي «حوالي سنة 220 بعد الميلاد» فروى في كنزه النفيس، وهو كتابه عن حياة الفلاسفة المشهورين وآرائهم، الكثير من أخبارهم وحكمهم الموجزة التي تلخص تجربة حياتهم، وأورد أسماءهم السبعة المعروفة، وقال: إن آخرين يضيفون إليهم «أناخارسيس»، و«ميسون»، و«فيريكيديس»، و«إبيمينيدس»، وربما زيد عليهم اسم الطاغية «بيزيستراتوس»، وأسماء أخرى تصل بهم إلى ثلاثة وعشرين حكيما! وظل الناس يتناقلون أنباءهم وحكاياتهم وكلماتهم من العصر اليوناني إلى عصر النهضة.
وكان من الطبيعي أن تتغير صورهم وأسماؤهم وتفسير الرواة لهم من عصر إلى عصر، حتى لقد وصل ذكرهم وطرف من أخبارهم إلى الشرق، فسجلت قصة من روائع الأدب الفارسي بعض أقوالهم الجامعة على لسان سندباد الحكيم والوزراء السبعة، في كتاب السندباد (سندباد نامه). وأشار إليهم بعض فلاسفة الإسلام ومؤرخي الحكمة وطبقات الحكماء إشارات لا تخلو من الطرافة «كالبيروني، والشهرستاني، وابن النديم، والشهرزوري، والمبشر بن فاتك».
لم يكن هؤلاء الحكماء فلاسفة بالمعنى الدقيق للكلمة. لقد كانوا - باستثناء «طاليس» أبي الفلسفة و«صولون» الشاعر والمشرع الأثيني المعروف - رجال عمل وبناة دول، اشتهروا بالأمانة والصدق وقهر النفس واحترام القوانين. وكانت تجارب حياتهم، بين القرن السابع والسادس قبل الميلاد، التي تبلورت في حكمهم وكلماتهم بمثابة البذور التي نمت بعد ذلك في أشكال فكرية حية. فأصبحت «اعرف نفسك» عند سقراط نظرية عن ارتباط الفضيلة بالعلم والمعرفة، وتطورت «لا تسرف في شيء» عند أرسطو إلى ما يسمى بنظرية الوسط الذهبي، وتغلغلت فكرتهم المحورية عن التزام الحد والاعتدال في روائع العقل والوجدان اليوناني في الفلسفة والشعر، وأناشيد الجوقة في المأساة.
التقيت بالحكماء السبعة في سنوات الطلب قبل ما يزيد على الربع قرن. فقد هداني الحظ - في لحظة نادرة من تلك اللحظات التي يفتر فيها ثغره عن بسمة ضنينة - إلى كتاب استوعب عباراتهم وحكاياتهم وأخبارهم الأصيلة، وحققه ونشره العالم الألماني الأستاذ برونو سنيل، «حياة الحكماء السبعة وآراؤهم، ميونيخ، سلسلة توسكولوم 1952م». ثم ظلت أمواج الأيام والأحداث تتقاذف قارب شوقي للكتابة عنهم، حتى سألني زميل كريم
1
أن أشارك في كتاب تذكاري عن مؤرخ الفلسفة العظيم وأستاذ الأساتذة، المرحوم يوسف كرم. وما كان لي أن أتخلف عن ركب الوفاء لهذا الحكيم الحق، الذي كان وسوف يظل القدوة والمثل الأعلى، خصوصا وأنا أشهد في جيلي وزماني مصرع الحكمة وسفهها وتشويهها على أيدي عدد من الصغار الذين ابتليت بهم، وبدأت العمل في المشروع القديم. وما لبثت المادة المترامية الأطراف أن أقنعتني بالتخلي عن صورة المقال والبحث التقليدية، وفرضت علي هذا الشكل الذي يجمع بين النثر والشعر، ويزاوج بين الفلسفة والمسرح، ويمر في حياة الحكماء والتأمل في مصير الحكمة بعدهم إلى الحد الذي يحرمهم من الدخول بين دفتي ذلك الكتاب ... ثم توالت أمواج الأيام والأحداث، فعصفت بشراع حياتي في محنة شخصية فجعتني في بعض الزملاء والأبناء، الذين توهمت ذات يوم أنهم ذخر البقية الباقية من العمر.
وقد علمتني المحنة أن الشر والغدر المتعمد وصمة على جبين البشرية كلها، كما علمتني في الوقت نفسه أن الظالم والمظلوم والقاتل والمقتول صائرون في النهاية إلى التراب الذي يسوي بينهم على صدر أمنا الأرض. ومع أن المحن الشخصية لا تكفي لإقامة علم ولا فن؛ إذ لا بد أن تجد معادلها الموضوعي، في شكل فكري أو أدبي باق، وأن تبلور دموعها في لآلئ صلبة صافية؛ فقد دفعتني بقوة الضرورة القاهرة لإتمام هذا العمل الذي تراه بين يديك. وهو عمل ربما أثار في نفسك، كما أثار في نفسي، شجونا تتصل بمحنتنا العربية التي لا تخرج المحن الفردية والجماعية المتوالية عن أن تكون صورا مصغرة منها، وشظايا وشرارات من نيران جحيمها الذي نصنعه لأنفسنا بأنفسنا.
ربما سألتني: لماذا الحكماء السبعة في زمن نعلم أن الحكمة غابت عنه، وصارت ضعفا واستسلاما أو يأسا وركودا وظلاما، وتحولت عند عدد كبير ممن جعلوها مهنتهم إلى كتب ميتة ومذكرات ركيكة، وإملاء وتلقين واجتراء وتكرار، تجني كلها على النشء جناية لا تغتفر؟ ما جدوى التذكير بهذه الشخصيات التي تنتمي إلى حضارة وثقافة أخرى، في ظروفنا الحضارية والثقافية التي أصبحت أزمات تدهورها وانهيارها غير خافية على أحد؟ وهل تستطيع بعض الشخصيات أو الكلمات المضيئة فوق بحار الظلمات التاريخية أن تمد طوق النجاة للسفينة الغارقة؟
إذا كانت الحكمة والحكماء قد غابا عن المسرح العالمي والمحلي (باستثناء قلة من شيوخنا ورعاتنا الأجلاء قد لا يزيد عددهم عن أصابع اليد الواحدة)؛ فإن ورثة الحكماء، وهم المثقفون، وسليلة الحكمة، وهي الثقافة، يستحقان أن نقف معهما قليلا، ونذكرهما بالماضي العريق والأجداد المنسيين. وأسارع فأبشر القارئ بأنني سأكفيه وأكفي نفسي عبء الجدل الممل العقيم عن تعريف الثقافة ومقوماتها، والفرق بينها وبين الحضارة والمدنية ... إلخ. وسأتجه مباشرة إلى حملة الثقافة وهم المثقفون، بل سأحصر نفسي في دائرة واحدة من دوائرهم الكثيرة، وهي دائرة المربين والمعلمين - وأنا واحد منهم - لعلنا نستطيع أن نستوحي الحكمة والحكماء، ونقيم لأنفسنا محاكمة نقف فيها أمام أنفسنا ونراجعها ونحاسبها، فمراجعة النفس ومحاسبتها، بالمعنى الكوني الشامل، قد كانت على الدوام جزءا لا يتجزأ من الحكمة.
Shafi da ba'a sani ba