<73> قال الحبر، بل علمهم فيها كعلمنا، حدها الفيلسوف بأنها المبدأ والسبب الذي به يتحرك ويسكن الشيء الذي هو فيه بالذات لا بالعرض.
<74> قال الخزري، كأنه يقول إن الشيء الذي يتحرك من ذاته ويسكن من ذاته له سبب ما به يتحرك ويسكن، وذلك السبب هو الطبيعة.
<75> قال الحبر، هذا الذي يريد تحذق كثير وتدقيق وتفريق بين ما يفعل بالعرض عما يفعل بالطبع، وأشياء تروق السامعين، ولكن حاصل علمهم بالطبيعة هذا.
<76> قال الخزري، فما أراهم إلا أضلونا بهذه الأسماء ، وجعلونا مشركين بالله في قولنا الطبيعة حكيمة فاعلة، وربما قلنا خالقة على فحوى كلامهم.
<77> قال الحبر، نعم لكن للعناصر والقمر والشمس والكواكب أفعال بطريق التسخين والتبريد والترطيب والتيبيس وتوابعها من غير أن ينسب إليها حكمة، بل سخرة. وأما التصوير والتقدير والتبريز وكل ما فيه حكمة لغرض فلا ينسب إلا للحكيم القادر القاهر. فمن سمى هذه التي تصلح المادة بالتسخين والتبريد طبيعة لم يضر إذا نفى عنها الحكمة كما ينفي عن الرجل والمرأة خلقة الولد إذا اجتمعا. وإنما هما من أعوان المادة القابلة لصورة الإنسان والصورة من عند المصور الحكيم فلا تستبعد ظهور آثار إلهية شريفة في هذا الأدنى إذا تهيأت تلك المواد لقبولها. وهذا هو أصل الإيمان وأصل العصيان.
<78> قال الخزري، وكيف يكون أصل الإيمان هو أصل العصيان؟
<79> قال الحبر، نعم إن الأشياء التي تصلح لقبول ذلك الأثر الإلهي ليست في وسع البشر ولا يمكنهم أن يقدروا كمياتها وكيفياتها، ولو علموا ذواتها فلن يعلموا أزمنتها وأمكنتها وقرائنها والتهيؤ لها، فيحتاج في ذلك إلى علم إلهي تام مشروح غاية الشرح من عند الله، فمن ورد عليه هذا الأمر وامتثله على حدوده وشروطه بنية خالصة فهو المؤمن. وما رام إصلاح أشياء لقبول ذلك من حذق وقياس وظنون مما يوجد في كتب المنجمين من استنزال الروحانيات وعمل الطلاسم فهو العاصي، لأنه يقرب القرابين ويبخر البخورات عن قياس وعن ظن، فلا يدري حقيقة ما الذي ينبغي، وكم، وكيف، وفي أي مكان، وفي أي وقت، ومن من الناس، وكيف ينبغي أن يتناول ذلك، وقرائن كثيرة يطول وصفها، فكان كالجاهل الذي دخل إلى خزانة طبيب مشهور بأن أدويته نافعة. والطبيب قد عدم، والناس يطلبون تلك الخزانة طلبا للمنفعة، وذلك الجاهل يفرق عليهم من تلك الأواني، وهو لا يعرف الأدوية، ولا كم يصلح ان يسقى من دواء لشخص شخص، فقتل خلقا بتلك الأدوية التي كانت تنفعهم. وإن اتفق أن ينفع أحدهم بإناء من تلك الأواني مال الناس إليه وقالوا إن ذلك هو النافع، حتى إذا خانهم أو رأوا لغيره نفعا بالعرض، مالوا أيضا إليه، ولم يدروا أن النافع بذاته إنما كان رأي ذلك الطبيب العالم الذي كان دبر تلك الأدوية، ثم كان أسقاها على ما ينبغي وكان يأمر العليل أن يستعد بما يصلح لدواء دواء من غذاء وشراب ورياضة وسكون ونوم ويقظة وهواء ومرقد وغير ذلك. فهكذا صار الناس قبل موسى، حاشا القليل، ينخدعون للنواميس النجومية والطبيعية، وينتقلون من ناموس إلى ناموس، ومن إله إلى إله، وربما تمسكوا بكثير منها، وينسون مدبرها ومصرفها، وجعلوها سبب منافع، وهي بأعيانها سبب مضار بحسب التهيؤ والاستعداد. وأما المنفعة بذاته فهو الأمر الإلهي، والضار بذاته هو عدمه.
<80> قال الخزري، ارجع بنا إلى الغرض وأعلمني كيف نشأ دينكم، ثم كيف فشا وظهر، وكيف تألفت الكلمة بعد ما اختلفت، وفي كم من المدة تأسس الدين وانبنى حتى تشيد وتم. لأن مبادئ الملل لا محالة إنما تكون بأفراد يتضافرون على نصرة الرأي الذي يشاء الله إظهاره، فلا يزالون يكثرون وينصرون بأنفسهم، أو يقوم لهم ملك ناصر الجماهير على ذلك الرأي.
<81> قال الحبر، إنما يقوم وينشأ على هذه الصفة النواميس العقلية التي مبدؤها من الإنسان، وإذا ظهر وصحبه التوفيق قيل انه مؤيد من الله ملهم وما أشبه هذا. وأما الناموس الذي مبدؤه من الله فإنما يقوم دفعه، قيل له كن فكان، مثل خلقة العالم.
<82> قال الخزري، لقد هولت علينا يا حبر.
Shafi da ba'a sani ba