8- من كتابه في حجج النبوة
Shafi 221
فصل من صدر كتابه في حجج النبوة
الحمد لله الذي عرفنا نفسه، وعلمنا دينه، وجعلنا من الدعاة إليه، والمحتجين له. فنحن نسأله تمام النعمة، والعون على أداء شكره، وأن يوفقنا للحق برحمته، إنه ولي ذلك، والقادر عليه، والمرغوب إليه فيه، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
Shafi 223
ثم إنا قائلون في الأخبار، ومخبرون عن الآثار، ومفرقون بين أسباب الشبهة، وأسباب الحجة، ثم مفرقون بين الحجة التي تلزم الخاصة دون العامة، ومخبرون عن الضرب الذي يكون الخاصة فيه حجة على العامة، وعن الموضع الذي يكون القليل فيه أحق بالحجة من الكثير، ولم شاع الخبر وأصله ضعيف؟ ولم خفي وأصله قوي؟ وما الذي يؤمن من فساده وتبديله مع تقادم عصره، وكثرة الطاعنين فيه، وعن الحاجة إلى رواية الآثار، وإلى سماع الأخبار، وعن أخلاق الناس وآبائهم، ومذاهب أسلافهم، وعن سير الملوك قبلهم، وما صنعت الأيام بهم، وعن شرائع أنبيائهم، وأعلام رسلهم، وعن أدب حكمائهم، وأقاويل أئمتهم وفقهائهم، وعن حالات من غاب عن أبصارهم في دهرهم، ولم كان الإخبار على الناس أخف من الكتمان؟ ولم كان الصمت أثقل عليهم من الكلام؟ وما الضرب الذي يقدرون على كتمانه وطيه، والضرب الذي لا يقدرون إلا على إذاعته ونشره؟ ولم اجتمعت الأمم على الصدق في أمور، واختلفت في غيرها؟ ولم حفظت أمورا ونسيت سواها؟ ولم كان الصدق أكثر من الكذب؟ ولم كان الصمت أثقل والقول أفضل؟
والعجب من ترك الفقهاء تمييز الآثار، وترك المتكلمين القول في تصحيح الأخبار، وبالأخبار يعرف الناس النبي من المتنبي، والصادق من الكاذب، وبها يعرفون الشريعة من السنة، والفريضة من النافلة، والحظر من الإباحة، والاجتماع من الفرقة، والشذوذ من الاستفاضة، والرد من المعارضة، والنار من الجنة، وعامة المفسدة من المصلحة.
فإذا نزلت الأخبار منازلها وقسمتها، ذكرت حجج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلائله وشرائعه وسننه، ثم جنست الآثار على أقدارها، ورتبتها في مراتبها، وقربت ذلك واختصرته، وأوضحت عنه وبينته، حتى يستوي في معرفتها من قل سماعه وساء حفظه ، ومن كثر سماعه وجاد حفظه، بالوجوه الجليلة، والأدلة الاضطرارية.
Shafi 224
ولم أرد في هذا الكتاب جمع حجج الرسول عليه السلام، وتفصيلها والقول فيها، لنقض مسها، أولوهن كان في أصلها من ناقليها والمخبرين عنها، أو لأن طعن الملحدين نهكها وفرق جماعتها، ونقض قواها. ولكن لأمور سأذكرها وأحتج.
وكيف تقصر الحجة عن بلوغ الغاية، وتنقص عن التمام، والله تعالى المتوكل بها، ومسخر أصناف البرية ومهيج النفوس على إبلاغها، وقد أخبر بذلك عن نفسه في محكم كتابه عز ذكره، حين قال: " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ". وأدنى منازل الإظهار إظهار الحجة على من ضاره وخالف عليه.
وقال عز ذكره: " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ".
وأخبر أنه أمر الأحمر والأسود، ولم يكن ليأمر الأقصى إلا كما يأمر الأدنى ويأمر الغائب على الحاضر، قال الله تعالى لنبيه عليه السلام: " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ".
Shafi 225
فأقول: إن كل مطيق محجوج، والحجة حجتان: عيان ظاهر، وخبر قاهر. فإذا تكلمنا في العيان وما يفرع منه فلا بد من التعارف في أصله وفرعه منه. ولا بد من التصادق في أصله، والتعارف في فرعه. فالعقل هو المستدل، والعيان والخبر هما علة الاستدلال وأصله، ومحال كون الفرع مع عدم الأصل، وكون الاستدلال مع عدم الدليل. والعقل مضمن بالدليل، والدليل مضمن بالعقل، ولا بد لكل واحد منهما من صاحبه، وليس لإبطال أحدهما وجه مع إيجاب الآخر.
والعقل نوع واحد، والدليل نوعان: أحدهما شاهد عيان يدل على غائب، والآخر مجيء خبر يدل على صدق.
ثم رجع الكلام إلى الإخبار عن دلائل النبي صلى الله عليه وسلم وأعلامه، والاحتجاج لشواهده وبرهانه، فأقول:
Shafi 226
إن السلف الذين جمعوا القرآن في المصاحف بعد أن كان متفرقا في الصدور، والذين جمعوا الناس على قراءة زيد، بعد أن كان غيرها مطلقا غير محظور، والذين حصنوه ومنعوه الزيادة والنقصان لو كانوا جمعوا علامات النبي صلى الله عليه وسلم، وبرهانه، ودلائله وآياته وصنوف بدائعه، وأنواع عجائبه في مقامه وظعنه، وعند دعائه واحتجاجه في الجمع العظيم، وبحضرة العدد الكثير الذي لا يستطيع الشك في خبرهم إلا الغبي الجاهل، والعدو المائل، لما استطاع اليوم أن يدفع كونها وصحة مجيئها، لا زنديق جاحد، ولا دهري معاند، ولا متطرف ماجن، ولا ضعيف مخدوع، ولا حدث مغرور؛ ولكان مشهورا في عوامنا كشهرته في خواصنا، ولكان استبصار جميع أعياننا في حقهم كاستبصارهم في باطل نصاراهم ومجوسهم، ولما وجد الملحد موضع طمع في غني يستميله، وفي حدث يموه له.
ولولا كثرة ضعفائنا مع كثرة الدخلاء فينا، الذين نطقوا بألسنتنا، واستعانوا بعقولنا على أغبيائنا وأغمارنا، لما تكلفنا كشف الظاهر، وإظهار البارز، والاحتجاج الواضح.
إلا أن الذي دعا سلفنا إلى ذلك، الاتكال على ظهورها واستفاضة أمرها.
Shafi 227
وإذ كان ذلك كذلك فلم يؤت من أتي من جهالنا وأحداثنا، وسفهائنا وخلعائنا إلا من قبل ضعف العناية، وقلة المبالاة، ومن قبل الحداثة والغرارة، ومن قبل أنهم حملوا على عقولهم من دقيق الكلام قبل العلم بجليله ما لم تبلغه قواهم، وتتسع له صدورهم، وتحمله أقدارهم، فذهبوا عن الحق يمينا وشمالا، لأن من لم يلزم الجادة تخبط، ومن تناول الفرع قبل إحكام الأصل سقط، ومن خرق بنفسه وكلفها فوق طاقتها، ولم ينل ما لا يقدر عليه تفلت منه ما كان يقدر عليه.
Shafi 228
فإذا كانوا كذلك فإنما أتوا من قبل أنفسهم، ولم يؤتوا من سلفهم، أو لأن الله تبارك وتعالى صرف أسلافنا بنسيان أو غيره ليمتحن بذلك غيرهم في آخر الزمان، وليعرضهم لطاعته بالذب عن دينه، والاحتجاج لنبيه صلى الله عليه وسلم، وليجري هذا الخير على أيديهم، كما أجرى أكثر منه على أيدي أسلافهم، لئلا يبخس أحد خليقته من العلماء والفقهاء، ولأن يجعل فضله مقسما بين جميع الأولياء، وإن كان الأول أحق بالتقديم، والآخر أحق بالتأخير، للذي قدموا من الاحتمال، وأعطوا من المجهود، ولأنهم أصل هذا الأمر ونحن فرعه، والأصل أحق بالقوة من الفرع. وهم السابقون ونحن التابعون، وهم الذين وطئوا لنا، وكلفونا ما لم نكن لنكلفه أنفسنا، فتجرعوا دوننا المرار، ومنحونا روح الكفاية. ولأن الله تعالى اختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولأن القرآن نطق بفضيلتهم؛ والله تعالى أعلم بمن بعدهم، والذي جمع أسلافنا الذين جمعوا الناس على قراءة زيد، دون أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود، والذين رأوا من قول عبد الله في المعوذتين، وقول أبي في سورتي الحفد والخلع. ومن تعلق الناس بالاختلاف، فكانوا لا يزالون قد رأوا الرجل يروي الحرف الشاذ، ويقرأ بالحرف الذي لا يعرفونه، فرأوا أن تحصينه لا يتم إلا بحمل الناس على المقروء عندهم، المشهور فيما بينهم، وأنهم إن لم يشددوا في ذلك لم ينقطع الطمع، ولم ينزجر الطير، لأن رجلا من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة، طويلة أو قصيرة، لتبين له في نظامها ومخرجها، وفي لفظها وطبعها، أنه عاجز عن مثلها. ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها. وليس ذلك في الحرف والحرفين، والكلمة والكلمتين.
ألا ترى أن الناس قد كان يتهيأ في طبائعهم، ويجري على ألسنتهم أن يقول رجل منهم: الحمد لله، وإنا لله، وعلى الله توكلنا، وربنا الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وهذا كله في القرآن، غير أنه متفرق غير مجتمع؛ ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة، طويلة أو قصيرة، على نظم القرآن وطبعه، وتأليفه ومخرجه لما قدر عليه، ولو استعان بجميع قحطان ومعد بن عدنان.
Shafi 229
ورأوا بفهمهم وبتوفيق الله تعالى لهم أن يحصنوه مما يشكل، ويمكن أن يفتعل مثله من الحرف والحرفين، والكلمة والكلمتين، وقد كانوا عرفوا الابتداع الكثير على البلغاء والشعراء، وخافوا إن هم لم يتقدموا في ذلك أن يتطرفوا عليه، كما تطرفوا على الرواية، لأنهم حين رأوا كثرة الرواية في غير ذوي السابقة، ورأوا كثرة اختلافها، والغرائب التي لا يعرفونها، لم يكن لهم إلا تحصين الشيء الذي عليه مدار الأمر، وإن كانوا يعلمون أن الله بالغ أمره.
فعلى الأئمة أن تحوط هذه الأمة، كما حاط السلف أولها، وأن يعملوا بظاهر الحيطة، إذ كان على الناس الاجتهاد، وليس عليهم علم الغيوب. وإنما ذلك كنحو رجل أبصر نبيا يحيي الموتى فعرف صدقه، فلما انصرف سأله عنه بعض من لم ير ذلك ولا صح عنده، فعليه أن لا يكتمه، وإن كان يعلم أن الله تعالى سيعلمه ذلك من قبل غيره، وأنه عز ذكره سيسمعه صحته على حبه وكرهه.
ورأوا أن قراءة زيد أحق بذلك، إذ كانت آخر العرض، ولأن الجمع الذين سمعوا آخر العرض أكثر ممن سمع أوله، فحملوا الناس على قراءة زيد، دون أبي وعبد الله، وإن كان الكل حقا، إذ كان رب حق في بعض الزمان أقطع للقيل والقال، وأجدر أن يميت الخلاف، ويحسم الطمع. فتركوا حقا إلى حق العمل به أحق.
Shafi 230
ولو أن فقيها رأى إطباق العلماء على صوم يوم عرفة، واستنكارهم الإفطار فيه، فأفطر وأظهر ذلك ليعلمهم موضع الفريضة من النافلة، أو خاف أن يلحق الفرض على تطاول الأيام ما ليس فيه كان مصيبا، ولكان قد ترك حقا إلى أحق منه.
وللحق درجات، وللخلاف درجات، وللحرام درجات. ألا ترى أن لولي المقتول أن يقتل ويصفح، وأنه إن قتل قتل بحق، وإن صفح صفح بحق، والصفح أفضل من القتل.
ولو أن رجلا أخرج ساكنا بيتا له، أو اقتضى دينا له ساعة محله، أو طلق زوجته وما دخل بها لكان ذلك له، ولحق فعل. وغير ذلك الحق أولى به.
وكيف لا يكون أولى به وهو أحسن، والثواب فيه أعظم، وإلى سلامة الصدور أقرب.
وقد يكون الأمران حسنين، وأحدهما أحسن. وقد يكون الأمران قبيحين، وأحدهما أقبح.
وبعد، فعلى الناس طاعة الأئمة في كل ما أمروا به، إلا فيما تبين أنه معصية. فأما غير ذلك فإنه واجب مفروض، ولازم غير مرفوع.
وعلموا أيضا أنهم لا يبقون إلى آخر الزمان، وأن من يجيء بعدهم لا يقوم مقامهم، ولا يفصل الأمور تفصيلهم. ولو عرفوا كمعرفتهم، وأرادوا ذلك كإرادتهم، لما أطيعوا كطاعتهم.
Shafi 231
وعلموا أن الأكاذيب والبدع ستكثر، وأن الفتن ستفتح، وأن الفساد سيفشو، فكرهوا أن يجعلوا للمتطرفين علة، ولأهل الزيغ حجة.
بل لا شك أنهم لو تركوا الناس عامة يقرءون على حرف فلان وكل ما أجاز فيه فلان عن فلان، لألحق قوم في آخر الزمان بهم ما ليس منهم، ولا يجري مجراهم، ولا يجوز مجازهم.
فصل منه في الاحتجاج للجمع على قراءة زيد
ولو كان زيد من آل أبي العاص، أو من عرض بني أمية، لوجد ابن مسعود متعلقا.
ولو كان بدا زيد عبد الرحمن بن عوف لوجد إلى القول سبيلا.
ولو كان ابن مسعود رجلا من بني هاشم لوجد للطعن موضعا.
ولو كان عثمان رضي الله تعالى عنه استبد بذلك الرأي على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وسعد وطلحة والزبير رحمهم الله، وجميع المهاجرين والأنصار، لوجد للتهمة مساغا.
فأما والأمر كما وصفنا ونزلنا، فما الطاعن على عثمان إلا رجل أخطأ خطة الحق، وعجل على صاحبه. ولكل بني آدم من الخطأ نصيب، والله عز ذكره يغفر له ويرحمه.
Shafi 232
والذي يخطىء عثمان في ذلك فقد خطأ عليا وعبد الرحمن وسعدا، والزبير وطلحة، وعلية الصحابة.
ولو لم يكن ذلك رأي علي لغيره، ولو لم يمكنه التغيير لقال فيه، ولو لم يمكنه في زمن عثمان لأمكنه في زمن نفسه، وكان لا أقل من إظهار الحجة إن لم يملك تحويل الأمة، وكان لا أقل من التجربة إن لم يكن من النجح على ثقة، بل لم يكن لعثمان في ذلك ما لم يكن لجميع الصحابة، وأهل القدم والقدوة. ومع أن الوجه فيما صنعوا واضح، بل لا نجد لما صنعوا وجها غير الإصابة والاحتياط، والإشفاق والنظر للعواقب، وحسم طعن الطاعن.
ولو لم يكن ما صنعوا لله تعالى فيه رضا لما اجتمع عليه أول هذه أول الأمة وآخرها. وإن أمرا اجتمعت عليه المعتزلة والشيعة، والخوارج والمرجئة، لظاهر الصواب، واضح البرهان، على اختلاف أهوائهم، وبغيتهم لكل ما ورد عليهم.
فإن قال قائل: هذه الروافض بأسرها تأبى ذلك وتنكره، وتطعن فيه، وترى تغييره.
Shafi 233
قلنا: إن الروافض ليست منا بسبيل، لأن من كان أذانه غير أذاننا، وصلاته غير صلاتنا، وطلاقه غير طلاقنا، وعتقه غير عتقنا، وحجته غير حجتنا، وفقهاؤه غير فقهائنا وإمامه غير إمامنا، وقراءته غير قراءتنا، وحلاله غير حلالنا، وحرامه غير حرامنا، فلا نحن منه ولا هو منا.
ولأي شيء حامت عن قراءة ابن مسعود، فوالله ما كان أحد أفرط في العمرية منه، ولا أشد على الشيعة منه، ولقد بلغ من حبه لعمر رضي الله عنه أن قال: لقد خشيت الله تعالى في حبي لعمر. فلم يحامون عنه وهو كان شجاهم لو أدركهم.
فصل منه
فآمن الله رجلا فارقهم ولزم الجماعة، فإن فيها الأنسة والحجة، وترك الفرقة فإن فيها الوحشة والشبهة. والحمد لله الذي جعلنا لا نفرق بين أئمتنا، كما جعلنا لا نفرق بين أنبيائنا.
فصل منه
والذي دعانا إلى تأليف حجج الرسول ونظمها، وجمع وجوهها وتدوينها أنها متى كانت مجموعة منظومة، نشط لحفظها وتفهمها من كان عسى أن لا ينشط لجمعها، ولا يقدر على نظمها، وجمع متفرقها، وعلى اللفظ المؤثر عنها، ومن كان عسى أن لا يعرف وجه مطلبها، والوقوع عليها.
Shafi 234
ولعل بعض الناس يعرف بعضها ويجهل بعضها.
ولعل بعضهم وإن كان قد عرفها بحقها وصدقها فلم يعرفها من أسهل طرقها، وأقرب وجوهها.
ولعل بعضهم أن يكون قد عرف فنسي، أو تهاون بها فعمي، بل لا نشك أنها إذا كانت مجموعة محبرة، مستقصاة مفصلة، أنها ستزيد في بصيرة العالم، وتجمع الكل لمن كان لا يعرف إلا البعض، وتذكر الناسي، وتكون عدة على الطاعن.
Shafi 235
ولعل بعض من ألحد في دينه، وعمي عن رشده، وأخطأ موضع حظه أن يدعوه العجب بنفسه، والثقة بما عنده، إلى أن يلتمس قراءتها، ليتقدم في نقضها وإفسادها، فإذا قرأها فهمها، وإذا فهمها انتبه من رقدته، وأفاق من سكرته، لعز الحق، وذل الباطل، ولإشراف الحجة على الشبهة، ولأن من تفرد بكتاب فقرأه ليس كمن نازع صاحبه وجاثاه، لأن الإنسان لا يباهي بنفسه، والحق بعد قاهر له. ومع التلاقي يحدث التباهي، وفي المحافل يقل الخضوع، ويشتد النزوع.
ثم رجع الكلام إلى حاجة الناس إلى استماع الأخبار، والتفقه في تصحيح الآثار، فأقول: إن الناس لو استغنوا عن التكرير، وكفوا مئونة البحث والتنقير لقل اعتبارهم. ومن قل اعتباره قل علمه، ومن قل علمه قل فضله، ومن قل فضله كثر نقصه، ومن قل علمه وفضله وكثر نقصه لم يحمد على خير أتاه، ولم يذم على شر جناه، ولم يجد طعم العز، ولا سرور الظفر، ولا روح الرجاء، ولا برد اليقين، ولا راحة الأمن.
وكيف يشكر من لا يقصد، وكيف يلام من لا يتعمد، وكيف يقصد من لا يعلم. وما عسى أن يبلغ قدر سروره من لا يحسن من السرور إلا ما سر به حواسه ومسه جلده.
Shafi 236
وكيف يأتي أربح الأفعال، وأبعد الشرين من ركب في شراسة السباع وغباوة البهائم، ثم لم يعط الآلة التي بها يستطيع التفرقة بين ما عليه وله، والعلم بمصالحه ومفاسده، فيقوى بها على عصيان طبائعه، ومخالفة شهواته، وبها يعرف عواقب الأمور، وما تأتي به الدهور، وفضل لذة القلب على لذة البدن.
وإن سرور الجاهل لا يحسن في جنب سرور العالم، وإن لذة البهائم لا تعشر لذة الحكيم العالم.
وأي سرور كسرور العز والرياسة، واتساع المعرفة، وكثرة صواب الرأي، والنجح الذي لا سبب له إلا حسن النظر والتقدم في التدبير، ثم العلم بالله وحده، وأنك بعرض ولايته والجاه عنده، وأنه الذي يرعاك ويكفيك، وأنك إذا علمت اليسير أعطاك الكثير، ومتى تركت له الفاني أعطاك الباقي، ومتى أدبرت عنه دعاك، ومتى رجعت إليه اجتباك، ويحمدك على حقك، ويعطيك على نظرك، لنفسك ولا يفنيك إلا ليبقيك، ولا يميتك إلا ليحييك، ولا يمنعك إلا ليعطيك. وأنه المبتدىء بالنعمة قبل السؤال، والناظر لك في كل حال.
وهذا كله لا ينال إلا بغريزة العقل. على أن الغريزة لا تنال ذلك بنفسها، بما باشرته حواسها، دون النظر والتفكر، والبحث والتصفح.
Shafi 237
ولن ينظر ناظر ولا يفكر مفكر دون الحاجة التي تبعث على الفكرة، وعلى طلب الحيلة. ولذلك وضع الله تعالى في الإنسان طبيعة الغضب، وطبيعة الرضا، وطبيعة البخل والسخاء، والجزع والصبر، والرياء والإخلاص، والكبر والتواضع، والسخط والقناعة، فجعلها عروقا. ولن تفي قوة غريزة العقل بجميع قوى طبائعه وشهواته، حتى يقيم ما اعوج منها، ويسكن ما تحرك، دون النظر الطويل الذي يشدها، والبحث الشديد الذي يشحذها، والتجارب التي تحنكها، والفوائد التي تزيد فيها. ولن يكثر النظر حتى تكثر الخواطر، ولن تكثر الخواطر حتى تكثر الحوائج، ولن تبعد الرؤية إلا لبعد الغاية وشدة الحاجة.
Shafi 238
ولو أن الناس تركوا وقدر قوى غرائزهم، ولم يهاجوا بالحاجة على طلب مصلحتهم والتفكر في معاشهم، وعواقب أمورهم، وألجئوا إلى قدر خواطرهم التي تولد مباشرة حواسهم، دون أن يسمعهم الله تعالى خواطر الأولين، وأدب السلف المتقدمين، وكتب رب العالمين، لما أدركوا من العلم إلا اليسير، ولما ميزوا من الأمور إلا القليل. ولولا أن الله تعالى أراد تشريف العالم وتربيته، وتسويد العاقل ورفع قدره، وأن يجعله حكيما، وبالعواقب عليما، لما سخر له كل شيء، ولم يسخره لشيء، ولما طبعه الطبع الذي يجيء منه أريب حكيم، وعالم حليم.
كما أنه عز ذكره لو أراد أن يكون الطفل عاقلا، والمجنون عالما، لطبعهم طبع العاقل، ولسواهم تسوية العالم، كما أراد أن يكون السبع وثابا، والحديد قاطعا، والسم قاتلا، والغذاء مقيما؛ فكذلك أراد أن يكون المطبوع على المعرفة عالما، والمهيأ للحكمة حكيما، وذو الدليل مستدلا، وذو النعمة مستنفعا بها.
فلما علم الله تبارك وتعالى أن الناس لا يدركون مصالحهم بأنفسهم، ولا يشعرون بعواقب أمورهم بغرائزهم، دون أن يرد عليهم آداب المرسلين، وكتب الأولين، والأخبار عن القرون، والجبابرة الماضين طبع كل قرن من الناس على أخبار من يليه، ووضع القرن الثاني دليلا يعلم به صدق خبر الأول؛ لأن كثرة السماع للأخبار العجيبة، والمعاني الغريبة، مشحذة للأذهان، ومادة للقلوب، وسبب للتفكير، وعلة للتنقير عن الأمور.
Shafi 239
وأكثر الناس سماعا أكثرهم خواطر، وأكثرهم خواطر أكثرهم تفكرا، وأكثرهم تفكرا أكثرهم علما، وأكثرهم علما أرجحهم عملا. كما أن أكثر البصراء رؤية للأعاجيب أكثرهم تجارب، ولذلك صار البصير أكثر خواطر من الأعمى، وصار السميع البصير أكثر خواطر من البصير.
وعلى قدر شدة الحاجة تكون الحركة، وعلى قدر ضعف الحاجة يكون السكون، كما أن الراجي والخائف دائبان، والآيس والآمن وادعان.
Shafi 240
وإذا كان الله تعالى لم يخلق عباده في طبع عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا، وآدم أبي البشر، صلوات الله عليهم أجمعين، وخلقهم منقوصين، وعن درك مصالحهم عاجزين، وأراد منهم العبادة، وكلفهم الطاقة، وترك العنان للأمل البعيد، وأرسل إليهم رسله، وبعث فيهم أنبياءه، وقال: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل "، ولم يشهد أكثر عباده حجج رسله عليهم السلام، ولا أحضرهم عجائب أنبيائه، ولا أسمعهم احتجاجهم، ولا أراهم تدبيرهم لم يكن بد من أن يطلع المعاينين على أخبار الغائبين، وأن يسخر أسماع الغائبين لأخبار المعاندين، وأن يخالف بين طبائع المخبرين، وعلل الناقلين، ليدل السامعين، ومن يجيب من الناس.
على أن العدد الكثير المختلفي العلل، المتضادي الأسباب، المتفاوتي الهمم، لا يتفقون على تخرص الخبر في المعنى الواحد، وكما لا يتفقون على الخبر الواحد على غير التلاقي والتراسل إلا وهو حق. فكذلك لا يمكن مثلهم في مثل عللهم التلاقي عليه، والتراسل فيه.
ولو كان تلاقيهم ممكنا، وتراسلهم جائزا لظهر ذلك وفشا، واستفاض وبدا.
ولو كان ذلك أيضا ممكنا، وكان قولا متوهما لبطلت الحجة، ولنقضت العادة، ولفسدت العبرة، ولعادت النفس بعلة الأخبار جاهلة، ولكان للناس على الله أكبر الحجة. وقد قال الله جل وعز: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل "، إذ كلفهم طاعة رسله، وتصديق أنبيائه ورسله وكتبه، والإيمان بجنته وناره، ولم يضع لهم دليلا على صدق الأخبار، وامتناع الغلط في الآثار، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
Shafi 241