قال: «لا يبدو أنهم قد أحرزوا تقدما كبيرا في قضية الساقين.»
قال الآخر: «لن يتمكنوا من حلها أبدا؛ إذ كيف يمكن معرفة شيء من زوج من السيقان؛ فكل السيقان متشابهة، أليس كذلك؟»
قال الأول: «قد يتعقبون الجاني من خلال قطعة الورق التي لفهما بها.»
في الأسفل يمكنك رؤية أسقف المنازل تمتد بلا توقف، وتلتف في كل اتجاه مع التفاف الشوارع، ولكنها تمتد بلا توقف كما لو كنا نمر فوق سهل ضخم. أيا كان الطريق الذي تأخذه إلى لندن، فستمر على عشرين ميلا تقريبا من المنازل الممتدة دون توقف. يا إلهي! كيف للطائرات القاذفة للقنابل ألا تضربنا عندما تأتي؟ فنحن رقعة كبيرة وواضحة في مركز الهدف. ستصيبنا دون سابق إنذار على الأرجح؛ إذ من ذا الذي سيكون بذلك الحمق حتى يعلن عن الحرب قبلها في هذه الأيام؟ لو كنت مكان هتلر، لأرسلت الطائرات القاذفة للقنابل في أثناء مؤتمر لنزع السلاح. يوما ما في صباح هادئ وفي أثناء تدفق الموظفين على جسر لندن، وبينما تغرد طيور الكناري وتنشر النساء العجائز السراويل النسائية على الحبال، سنسمع أزيز المدافع وأصوات قذف القنابل. ستتطاير حينئذ المنازل في الهواء، وتنغمر السراويل النسائية بالدماء، وتغرد طيور الكناري على الجثث.
أعتقد أنه أمر مثير للشفقة على نحو ما. نظرت إلى الأسطح الممتدة بلا توقف كالبحر الكبير، فرأيت أميالا وأميالا من الشوارع، ومتاجر الأسماك المقلية، والكنائس الصغيرة، وصالات السينما، والأزقة الممتلئة بالمطابع الصغيرة، والمصانع، والعمارات السكنية، والمشروعات الصغيرة، ومعامل الألبان ، ومحطات الوقود، وغيرها الكثير. إنه لمكان هائل! ويا لها من سكينة تامة تلك التي تغشاه! إنه كبرية كبيرة بلا وحوش؛ بلا إطلاق نار أو قذف بالقنابل اليدوية أو ضرب بالعصي المطاطية. إذا فكرت في الأمر، ففي إنجلترا بأكملها في هذه اللحظة ليس ثمة نافذة واحدة في غرفة نوم يطلق من خلالها أحد النار بمدفع رشاش.
ولكن ماذا بعد خمسة أعوام من الآن؟ أو عامين؟ أو عام واحد؟
4
سلمت أوراقي في مكتب لندن. كان وورنر أحد أطباء الأسنان الأمريكان الذين تمتاز أسعار خدماتهم بأنها منخفضة، وكانت غرفة الفحص لديه، أو «الردهة» كما يحب أن يسميها، في منتصف مبنى كبير من المكاتب، بين مكتب مصور ومكتب تاجر جملة للواقيات الذكرية. وصلت مبكرا عن موعدي، ولذا كان ثمة وقت لتناول بعض الطعام. لا أعلم ما الذي جعلني أذهب إلى حانة للوجبات السريعة من منتجات الألبان وغيرها، رغم أنني أتجنب تلك الأماكن عادة. نحن الذين نتحصل على خمسة إلى عشرة جنيهات أسبوعيا لا يمكننا الاستفادة كثيرا من أماكن تناول الطعام في لندن. إذا كنت ترى أن المبلغ الذي يجب أن ينفقه المرء في وجبة هو شلن وثلاثة بنسات، فأمامك إما ليون أو إكسبريس ديري أو إيه بي سي؛ وإلا فستأكل وجبة خفيفة كئيبة في إحدى الحانات؛ نصف لتر من الجعة المرة وشريحة فطيرة باردة، تكون شديدة البرودة حتى إنها تكون أكثر برودة من الجعة. خارج حانة منتجات الألبان، كان الأولاد يروجون للطبعات الأولى للصحف المسائية.
وخلف طاولة البيع الحمراء البراقة، كانت تقف فتاة بقبعة بيضاء طويلة أمام ثلاجة، وفي مكان ما في الخلف كان الراديو يصدر صوتا عاليا ومزعجا. ما الذي جاء بي إلى هنا بحق الجحيم؟ سألت نفسي هذا السؤال عندما دخلت. ثمة أجواء في تلك الأماكن تصيبني بالإحباط. كل شيء هناك أملس وبراق وانسيابي؛ فتوجد مرايا وطلاء مينا وألواح كروم، أينما نظرت، وكل الاهتمام بالديكور وليس بالطعام. لا يوجد هنا طعام حقيقي على الإطلاق، وإنما هي أشياء بأسماء أمريكية، وهي كأشياء وهمية لا يمكنك تذوقها، ويصعب التصديق في وجودها. كل شيء يأتي من كرتونة أو علبة من الصفيح أو يخرج من الثلاجة أو ينبعث من صنبور أو ينضغط من أنبوب. ولا توجد راحة أو خصوصية؛ فالمكان كله مجهز بتلك الكراسي المرتفعة التي لا ظهر لها، الموضوعة إلى مكان ضيق لتتناول الطعام عليه، والمرايا في كل مكان حولك. هناك نوع من الدعاية يطفو على الأرجاء مختلطا بضجيج الراديو، ما يشعر بأن الطعام لا يهم، وكذلك الراحة، وكذلك أي شيء عدا أن يكون كل شيء أملس ولامعا وانسيابيا. كل شيء انسيابي في هذه الأيام، حتى الرصاصة التي يحتفظ بها هتلر ليطلقها عليك. طلبت فنجان قهوة كبيرا وقطعتين من نقانق الفرانكفورتر. وضعت الفتاة ذات القبعة البيضاء الطعام أمامي بالفتور نفسه الذي تلقي به بيض النمل لسمكة زينة.
خارج الباب صاح بائع صحف: «ستار، نيوز، إستاندرد!» رأيت العنوان يرفرف أمام ركبتيه: «الساقان. اكتشافات جديدة.» هل لاحظت أنهم كتبوا كلمة «الساقان» فقط. إنها اختصرت إلى هذا. منذ يومين، وجدوا ساقي امرأة في غرفة انتظار بمحطة للسكك الحديدية، وكانت الساقان ملفوفتين بقطعة من الورق البني؛ ومع انتشار الخبر في طبعات الصحف المتتالية، كان من المفترض أن يهتم الشعب كله ويتعاطف مع صاحبة هاتين الساقين المدمرتين، لدرجة أنهم لا يحتاجون إلى مزيد من المقدمات الصحفية. وكانت الساقان الوحيدتان في الأخبار في ذلك الوقت. فكرت وأنا أتناول قطعة من الخبز، إنه لغريب أمر هؤلاء القتلة الكسالى اليوم؛ فبعد كل هذا التقطيع لأجسام الناس، يترك المجرم أجزاء منها في أنحاء القرى. أين ذلك من الدراما القديمة لتسميم أفراد العائلة، مثل قضايا كريبين وسيدون والسيدة مايبريك؟ الحقيقة على ما أعتقد أنه لا يمكنك ارتكاب جريمة قتل جيدة إلا إذا كنت تعتقد أنك ستشوى في الجحيم على إثرها.
Shafi da ba'a sani ba