تركت السيارة تهبط من على التل ببطء. يا له من أمر غريب! لا يمكنك تخيل مدى غرابته! طوال الطريق إلى أسفل التل كنت أرى أشباحا، وخاصة أشباح الأسيجة والأشجار والأبقار. كنت كما لو أنني أنظر إلى عالمين في الوقت نفسه؛ ما يشبه الفقاعة الرقيقة لما كان موجودا في الماضي، مع ما هو موجود بالفعل وساطع من خلالها. هناك كان الحقل حيث كان الثور يطارد جينجر رودجرز! وهناك كان المكان حيث كان ينمو فطر الحصان! ولكن لم يكن هناك أي حقول أو أي ثيران أو أي فطر؛ بل كانت المنازل في كل مكان، منازل حمراء باردة صغيرة بستائر نوافذها الوضيعة، والخردة في الحدائق الخلفية التي لم تكن شيئا سوى رقعة من العشب الرديء أو بعض من نبات العائق الذي يكافح لينمو وسط الأعشاب. وكان الرجال يمشون ذهابا وإيابا، والنساء ينفضن الحصائر، والأطفال بأنوفهم التي يسيل منها المخاط يلعبون على طول الرصيف. كلهم غرباء! فقد جاءوا جميعا وتجمعوا هنا أثناء غيابي. ومع ذلك فهم من كانوا ينظرون إلي باعتباري غريبا، فلم يعلموا أي شيء عن لوير بينفيلد القديمة، ولم يسمعوا قط عن شوتير وويثرال، أو السيد جريميت وعمي إيزيكيال، وبالتأكيد لم يكن يهمهم أن يعرفوا شيئا.
من الأمور الطريفة سرعة الناس على التكيف. أعتقد أنه مرت خمس دقائق منذ أن توقفت عند قمة التل، وأنا متحمس قليلا في الواقع لفكرة رؤية لوير بينفيلد مرة أخرى. وبالفعل اعتدت على فكرة أن لوير بينفيلد قد ابتلعت ودفنت مثلها مثل مدن بيرو الضائعة. عززت شجاعتي وواجهت الوضع. فبعد كل شيء، ماذا تتوقع؟ يجب أن تنمو المدن، إذ يجب أن يعيش الناس في مكان ما. علاوة على ذلك، فلم تبد القرية القديمة؛ فهي لا تزال موجودة في مكان ما، بيد أنها أصبحت محاطة بالمنازل بدلا من الحقول. خلال بضع دقائق سوف أراها مجددا، حيث الكنيسة ومدخنة مصنع الجعة، ونافذة متجر أبي، ومعلف الخيول في السوق. وصلت إلى أسفل التل، وتشعب الطريق. اتجهت يسارا، وبعد دقيقة ضللت الطريق.
لم أستطع تذكر شيء، لم أستطع حتى أن أتذكر ما إذا كانت بداية البلدة من هذه الناحية أم لا. كل ما كنت أعرفه هو أن هذا الشارع لم يكن موجودا في الماضي . ولمئات الياردات، كنت أسير فيه - كان شارعا حقيرا شديد الوضاعة، وكانت المنازل متراصة على جانبيه، ومن حين لآخر كنت ترى متجرا للبقالة أو حانة قذرة صغيرة - وأتساءل إلى أين عساه أن يقودني. وأخيرا، توقفت بجوار امرأة مرتدية مئزرا قذرا، ولا ترتدي قبعة وكانت تسير على الرصيف. أخرجت رأسي من نافذة السيارة، وقلت لها: «عذرا، هل يمكنك أن تدليني على الطريق إلى السوق؟»
ردت بلهجة صعبة الفهم، قائلة: «لا أعلم.» بدا أنها كانت من لانكشير؛ فثمة العديد منهم في جنوب إنجلترا الآن، وقد فروا بأعداد كبيرة من المناطق المدمرة.
ثم رأيت رجلا في رداء عمل سروالي ومعه حقيبة أدوات آتيا نحوي، فحاولت مرة أخرى. جاءتني الإجابة هذه المرة بلهجة الطبقة العاملة، ولكنه كان عليه أن يفكر فيها لدقيقة أولا، ثم قال: «السوق؟ السوق؟ دعنا نرى. أوه، هل تعني السوق القديم؟»
أعتقد أنني كنت أعني بالفعل السوق القديم. «أوه، حسنا، انعطف يمينا ...»
كان طريقا طويلا. بدا لي أنه أميال، على الرغم من أنه في الواقع لم يكن يتعدى ميلا واحدا. المنازل، والمتاجر، ودور السينما، والكنائس الصغيرة، وملاعب كرة القدم، كلها جديدة، كل شيء جديد. مرة أخرى، انتابني هذا الشعور بأن نوعا من غزو الأعداء قد حدث في غيابي. كل هؤلاء الناس تدفقوا من لانكشير وضواحي لندن، وزرعوا أنفسهم هنا محدثين هذه الفوضى الموحشة، وهم لا يهتمون حتى بمعرفة أسماء المعالم الرئيسية للبلدة. ولكنني فهمت الآن السبب في أن ما كنا نطلق عليه قديما السوق أصبح الآن يعرف باسم السوق القديم؛ فقد أقاموا ميدانا كبيرا، على الرغم من أنه لا يمكنك أن تطلق عليه ميدانا بالتحديد؛ لأنه لم يكن له شكل محدد، وكان في منتصف البلدة الجديدة، تملؤه إشارات المرور وبه تمثال ضخم من البرونز لأسد يهاجم نسرا، لقد كان نصبا تذكاريا للحرب على ما أعتقد. إن كل شيء جديد! يا له من مظهر بارد ووضيع! هل تعرف شكل هذه البلدات الجديدة التي تضخمت فجأة كالبالون في السنوات القليلة الماضية: هايز، وسلاو ، وداجنهام ، وغيرها؟ ذلك الطوب الأحمر الساطع البارد في كل مكان، ونوافذ المتاجر ذات الطلاءات المؤقتة المليئة بالتخفيضات على أسعار الشوكولاتة وأجهزة الراديو. هذا ما كان الأمر عليه تماما. ولكني، فجأة، استدرت إلى شارع به منازل قديمة. يا إلهي! إنه هاي إستريت!
رغم كل شيء، لم تخني ذاكرتي. كنت أعرف كل بوصة فيه. بضعة مئات أخرى من الياردات وسأكون في السوق. كان المتجر القديم في الطرف الآخر من هاي إستريت. سأذهب إلى هناك بعد الغداء، وكنت أنوي الإقامة في حانة جورج. لي في كل بوصة ذكريات! أعرف جميع المتاجر، على الرغم من أن كل الأسماء قد تغيرت، والأشياء التي يبيعونها قد تغيرت أيضا في الغالب. ها هو متجر لوفجروف! وها هو متجر تود! وهذا المتجر الداكن اللون الكبير ذو الأعمدة والنوافذ الناتئة من السقف المائل كان متجر ليلي وايت للأقمشة، حيث كانت تعمل إلسي. وها هو متجر جريميت! يبدو أنه لا يزال متجرا للبقالة. والآن، إلى معلف الخيول في السوق. كانت ثمة سيارة أخرى أمامي، ولم أتمكن من رؤيته.
انعطفت جانبا ودخلت إلى السوق؛ ولكن معلف الخيول كان قد اختفى.
كان يوجد مكانه رجل من جمعية السيارات في مهمة مرورية. ألقى نظرة على السيارة، ورأى أنها لا تحمل شارة الجمعية، فقرر عدم إلقاء التحية علي.
Shafi da ba'a sani ba