بلل الرجل شفته السفلى بلسانه، وابتسم دون أن ينظر إليها، بدت ابتسامته مجرد تجاعيد في الجلد حول الفم، لم يكن أمامها إلا أن تمسك الإزميل، بينما هي ترفع ذراعها انطلقت منه الصرخة. - أتنوين قتلي؟!
هبطت ذراعها ولم تنطق. - من المؤكد أن الحوار انقطع. - يمكننا أن نبدأ من جديد. - كيف هذا؟ - يمكننا الوصول إلى حد أدنى من الاتفاق، ليس أمامنا إلا هدف واحد، أن نحمي أنفسنا من الموت، أليس كذلك؟ لحسن الحظ ما زلنا أشداء، ولنا سواعد قوية ونستطيع العمل، وهذا هو الهدف من بقائنا هنا، فالنفط رغم كل شيء أفضل من كائنات أخرى أشد قسوة، ويمكن للنفط أن يترفق بنا إذا استسلمنا له، لكنك لا تكفين عن المقاومة.
اتسعت عيناها ولم تنطق. - نحن لا نطلب إلا الرحمة، وكلنا نعلم أن المستفيد الوحيد من النفط هو صاحب الشركة، وصاحب الجلالة بطبيعة الحال، وهذا أمر منطقي، ما الخطأ في هذا؟ إنه حقهم بأمر السماء، ألا تكفين عن الطمع؟!
لم تكن تعرف عن يقين أنه صوت الرجل، ربما يعود الأمر كله إلى خيالها، وفي الخارج كانت أصوات النسوة كالغمغمة، وضحكات متقطعة كالنشيج. - ما بالك تدخلين في أمور لا تخصنا. - كيف؟ ألا نحمل البراميل؟ - عليها اللعنة، أصابتنا بوجع الدماغ وسوف تقضي علينا جميعا. - لا بد من التضامن لنصبح قوة. - لا حول ولا قوة إلا بالله.
كان الرجل قد شرع في العمل، رأته يحرك ذراعيه بهمة جديدة، وعضلاته نافرة، مسح العرق بكم قميصه وتوقف فجأة، حرك رأسه ناحيتها، لمحها من بعيد تحادث النسوة، لعب الفأر في عبه وحلق صقر في الأفق على ارتفاع منخفض، فرد جناحيه الكبيرين وحجب الشمس، تطلعت المرأة إلى السحب، بدا وجهها شاحبا تعلوه الذرات السوداء كالنمش، غامت عيناها وأصبح الدم في عروقها لونه أحمر، وانفتحت حقيبتها فجأة بقوة الريح، رأت أنفا طويلا يعبث بمحتوياتها يشبه أنف فأر، أخرج الإزميل، وراح يفتش داخل البطانة، اشتدت الريح وكادت تقتلعها من مكانها، تدفق الشلال كالمطر فوق وجهها، مسحته بكم جلبابها وفتحت عينيها، لم يكن فأرا وإنما هو الرجل، تكور حول نفسه فوق الأرض كالدودة، وراح يفتش جيوب الحقيبة. - هذا ليس حقك! - ما هذه الورقة؟ - لي أوراقي الخاصة. - أعندك زوج آخر؟!
كان له أصابع غريبة الشكل، والورقة كانت مطوية في القاع تحت البطانة، لا يمكن لأي أصبع أن يصل إليها، إلا بعد تدريب طويل في مدرسة البوليس، مدت ذراعها واختطفت الورقة، ألقت بها داخل حلقها وابتلعتها، هجم عليها بحركة مباغتة، أصبح فوقها يركبها كالحصان، أدخل أصبعه في حلقها ليخرج الورقة، يدور به تحت اللهاة، وبين ثنايا اللحم، أنفاسه تتدافع من فمه المفتوح، كالبخار يندفع من فوهة القطار، ثم أخرج أصبعه في النهاية بشيء صغير، يشبه حبة الفول، أو قطعة متجمدة من النفط. - أنت تستحق الشكر رغم كل شيء.
قالتها بصوت مفعم بالصدق، بدا جسمها أكثر قوة، وأنفاسها تدخل صدرها وتخرج بسهولة أكثر، لقد استطاع أن يخلصها من الغصة في حلقها.
يبدو أنه لم يسمعها، كان يرقب حركة الورقة داخل أحشائها، لم يحدث قط أن انتوى خداعها بهذا الشكل، سيراقب مواعيد دخولها إلى المرحاض، لن تفلت بأي حال. - لنفرض أنها عقد زواج فمن هو الرجل؟ وإن لم تكن عقد زواج فماذا تكون؟ رسالة حب ؟
بدا الحب في عينيه أقل خطرا من الزواج، فليس في الحب شيء ملزم، أخرج من جيبه سيجارة، انتفضت أصابعه وهو يشعل الكبريت، كان جالسا فوق برميل مملوء، وانتشر الدخان من حوله على شكل دوائر، ثم رفع عينيه إلى الأفق، كان الصقر قد حط فوق حافة البركة، وراح يأكل شيئا صغيرا، يتلوى بين أسنانه كالدودة. - إذا كان الأمر في نهاية المطاف مجرد الحب، فأي نوع من الحب يكون؟!
هكذا راح يسائل نفسه وهو ينفث الدخان، لم يكن يعرف من الحب إلا نوعا واحدا، ذلك الذي لا يدفع فيه شيئا.
Shafi da ba'a sani ba