تقلبت في موضعها تتأملها، جلبابها أسود طويل، لها ملامح خالتها، عنقها يلتوي تحت الثقل، إلى جوارها طشت الغسيل، أمسكت قطعة حجر وراحت تدعك قدمها المشققة، تزيل عنها الطبقة السوداء، تصقلها بقوة كأنما هي قدم تمثال النصر، أحدث الدعك في رأسها خدرا لذيذا، لم تعرف ما علاقة القدم بالرأس.
لولا ضربة الشمس كان يمكنها الاستمتاع أكثر بعملية الغسل، ولولا أيضا بعض الحياء، فهي امرأة غريبة عنها وليست خالتها، وهي تخلع ملابسها كلها، كان العري مفزعا، لم يحدث قط أن تعرت أمام امرأة أو رجل، على الأخص زوجها، كانت في نظره طاهرة كالعذراء مريم، ورئيسها في العمل كان يسميها الست الطاهرة، حتى دخل فجأة في حملة تفتيشية. - أين المنشور؟ - ماذا؟ - المنشور الذي أخفيته. - لم أخف شيئا. - رأيته معك بخط يدك ضد صاحب الجلالة. - لم أكتب شيئا. - ارفعي ذراعيك!
رفعت ذراعيها إلى أعلى، أحست أصابعه تفتش بين نهديها، وتهبط إلى أسفل حيث المنطقة المحرمة. - هذا انتهاك لحرمة الجسد!
حين ثابت إلى وعيها كانت تصيح: أين حقوق الإنسان؟ رأت نفسها راقدة في الفراش، من حولها النسوة حاملات البراميل، فوق عيونهن سحابة، طبقة داكنة من النفط تحجب النني، وكان هناك أمر من صاحب الجلالة: «أي امرأة تضبط وفي حوزتها ورقة وقلم تقدم للمحاكمة.»
كلما نظرت في عيونهن اشتدت وطأة الألم، اختفت الواحدة وراء الأخرى، بدأت واحدة منهن وتبعتها الأخريات، سمعت أصواتهن عبر الجدار ، يلهثن بصوت متقطع، طقطقت فقرات أعناقهن تحت البراميل، وقد أقدامهن فوق الأرض مكتوم، تحمله الريح إلى بطن الجسر حيث بيوت القرية، نباح الكلاب يأتي من بعيد، والسؤال يدور في رأسها: هل تهرب وحدها أم تكشف لهن الخطة؟ •••
لم تكن الخطة مكشوفة بعد، وكتب رئيسها في العمل تقريرا سريا، كانت التقارير عنها لا تكتب إلا في السر، امرأة أخرى احتلت مكانها في القسم، تراها جالسة في مكتبها تحملق حولها في فضول، لن تكف عن الحملقة حتى تعرف السر، تفتح أدراجها تفتش الأوراق، تقبض بأصابعها على رسالة حب قديمة، أبيات من الشعر تقرؤها، بين كل بيت وبيت ترتفع أنفاسها في تنهيدة طويلة، في الملف السري تعثر على تاريخ ميلادها، صورة خالتها من حول رأسها المنديل، تتوقف عيناها فوق البيت، غرفة بلا دورة مياه في الزقاق، يدفعها الفضول إلى النظر من شق الباب، ترى الغرفة راقدة في الظلمة عارية من الأثاث، بحركة جانبية من عينها تلمح زوجها جالسا يقرا الصحيفة، يحرك رأسه قليلا فترى أنفه من الجانب، كبير ومقوس يشبه أنف صاحب الجلالة، لكن صورته غير منشورة واسمه مجهول، جالس بلا حراك صامت تماما، يشي الصمت بغيابها، تمتلئ نفسها بالحسد لأنها استطاعت أن تهرب، كيف هربت؟ خرجت في إجازة ولم تعد؟ تكتم السر في قلبها ثم ينفجر رغما عنها، تنتشر الإشاعة في قسم الحفريات، يتهامس الزملاء والزميلات وتطفو فوق عيونهم نظرة تنم عن الغيرة.
لم تكن الغيرة أمرا مضادا للعقل، كانت طبيعية تماما في عيون الموظفين، فليس هناك إنسان أشد غيرة من الموظف، خاصة في قسم الحفريات، يرى الناس من حوله تتحرك وهو حبيس مكتب من الخشب، يتحدث الناس عن المستقبل وهو يعيش في الماضي مع الحفريات، والحياة تمضي في طريقها بدونه، لا يتغير شيء في الكون إن عاش أو مات، ليس أمامه إلا النعاس وهو يقرأ الصحيفة، أو البحث عن الآلهة في بطن الأرض، نوع من العشق الإلهي، يقوده إلى الحنين للموت، أو الخروج في إجازة. ••• - هل حدث بينكما شجار؟ - أبدا.
رد زوجها على السؤال في غرفة التحقيقات، أدار رجل البوليس جسمه مع الكرسي. - أتظن أنها انتحرت؟ - أبدا. - ألم تكن تحن للموت؟ - أبدا. - كيف تفسر اختفاءها إذن؟ - لا شيء. - لا شيء؟ - نعم لا شيء!
مط زوجها شفتيه وهو يقول لا شيء، تثاءب حتى طقطقت عظام فكيه، حرك وجهه ناحية الصحفيين، انطلق شعاع الفلاش وحرق سطح عينيه، ظهرت صورته في الصفحة الداخلية، فكه مربع والوجه مستطيل أكثر من اللازم، لا علامات مميزة إلا شامة سوداء فوق خده الأيسر، من بين شفتيه المطبقتين أفلتت الابتسامة، في خياله منذ الطفولة كان يرى صورته إلى جوار صاحب الجلالة، ترفع أمه ذراعيها إلى السماء، تدعو السيدة الطاهرة أن يصبح ابنها مثل الملك. «لم لا يا ستنا الطاهرة؟ ألم تلده بطن مثل البطن التي ولدت الملك؟»
كان لهاث النسوة قد اختفى مع خيالهن الأسود، نباح الكلاب من بعيد بدأ، لم تكن الكلاب تنبح دونما سبب، أتدبر هؤلاء النسوة حركة ما؟ في عيونهن تحت السحابات نظرة متمردة، عمل مضاد في حالة كمون دائم.
Shafi da ba'a sani ba