صرفني عن ذلك ما أثارته هذه الأحاديث وتلك الأنباء من شجون وأحزان امتلأ بها قلبي وغرق فيها ضميري، والتبست لها الأمور على نفسي، ثم لم تلبث أن استأثرت بحسي الظاهر فأجرت في جسمي رعدة خفيفة أول الأمر، ثم عنيفة بعد ذلك، لم تهدئها عني إلا هذه الدموع التي انحدرت من عيني غزارا.
لقد كنت أحسب أن قد هدأت اللوعة وسكت عني وعن الأسرة هذا الجزع الذي ملكنا وأفسد علينا أمورنا كلها حين انتهى إلينا النبأ بمصرع أخي الصغير. فإذا أنا لا أكاد أبدأ الحديث إليك حتى ينكأ الجرح وتثور العاصفة، وحتى يضطرب من حولي كل شيء، وحتى يفسد علي كل شيء، وحتى أغرق في هذا الحزن الشامل، الذي يصرفني عنك وعن نفسي، والذي ينسيني مكاني منك، ومكاني من كل شيء، والذي يشغلني ويشتمل علي اشتمالا تاما، فأنفق ليلة ما أدري كيف أنفقتها، ما أعرف إلى أي لحظة منها بقيت يقظى، وفي أي لحظة منها أدركني النعاس.
وإنما أتنبه لنفسي حين يمسني برد الصباح؛ فإذا أنا كما كنت حين بدأت الحديث إليك، لم أنتقل من مكاني ولم أتحول عن مجلسي ولم أدر كيف قضيت الليل.
هنالك أنهض فزعة مرتاعة متسائلة: ماذا كان يمكن أن يكون لو أن البرد لم يوقظني، ولو أني لبثت على هذه الحال حتى تستيقظ الأسرة وحتى تظهر علي في هذا الوضع الذي كنت فيه؟ هنالك أعمد إليك فأخفيك، وأعمد إلى سريري فأحدث فيه شيئا من الاضطراب، ثم آوي إليه كارهة متكلفة؛ لتعلم الأسرة أني قد قضيت ليلة عادية لم أخرج فيها على المألوف.
ولكني تبينت من هذا كله أني كنت أكذب على نفسي، أو أن نفسي كانت تكذب علي حين كنت أزعم أني قد أخذت أتسلى عن الحزن وأتعزى عن كوارث الحرب. وما أشك الآن في أن الأسرة كلها تكذب على نفسها فتتكلف السلو، وتتصنع العزاء، وتلقي حجابا رقيقا على أحزانها وآلامها، تتخذه من مشاغل الحياة وأغراضها المتصلة؛ لأنها لا تستطيع أن تمضي في هذا الحزن العنيف جاهرة به مظهرة له.
لا تستطيع ذلك لأن للحياة ظروفها وبواعثها إلى العمل والجد، ولا تستطيع ذلك لأنها تحسب لمراقبة الناس حسابا أعظم مما تقدر وتظن. وما أشك الآن في أننا جميعا نلتقي بوجوه باسمة أو غير مكترثة، ونمضي في حياتنا بهذه الوجوه التي تبتسم وتظهر التجلد، ولكنه ابتسام لا يدل على شيء إلا على التكلف والتصنع، ولا يصدر عن شيء إلا الحزن المر، واليأس الممزق للقلوب. ولكنه تجلد يسير هين لا يكاد يثبت إلا متهالكا متضائلا، يكفي أن تعرض له الذكرى، فإذا هو يتبدد ويزول كما يتبدد سحاب الصيف.
وآية ذلك أنا نتجنب إذا التقينا وأخذنا في الحديث ذكر الفقيدين الشهيدين، والإشارة إليهما من قريب أو بعيد؛ مخافة أن يخرج ذلك بنا عن طور التكلف هذا الذي أخذنا به أنفسنا، وأجرينا بيننا عهدا صامتا على أن نلزمه، ونمعن فيه لتستقيم لنا الحياة، كما تستطيع أن تستقيم لقوم لا يجدون ينبوع الحياة في قلوبهم، وإنما يستمدون حياتهم من الخارج ويستعيرونها من الحوادث والظروف، فهم يحيون متكلفين، ولولا هذا التكلف لما ظفروا من الحياة إلا بأسباب واهية لا تغني عنهم شيئا.
وما أشك الآن في أن أمر أبوي شر من أمري؛ فإن لي من الشباب نشاطه وآماله ما يسليني، رضيت ذلك أم كرهته، وما يعينني على أن أتجنب الذكرى، وأفر من الحزن. فأما أبواي فليس لهما من هذا كله شيء؛ فقد فقدا نصف آمالهما حين فقدا اثنين من أبنائهما الأربعة، وبقي لهما نصفها الآخر كئيبا شاحبا لا يثير نشاطا، ولا يدعو إلى جد، ولا يكاد يبعث في النفوس فرحا ولا ابتهاجا.
وهما يتجنبان الحديث في كل هذا بمحضر منا، ولكنهما يضمران غير ما يظهران، ويتحدث كل منهما إلى صاحبه بما يذكي النار في قلبه ويضاعف الحزن على نفسه، وكل منهما مع ذلك رفيق بصاحبه شفيق عليه يخفي عليه أكثر مما يظهر له. لهما الله ما أشد ما يقاسيان وما أعظم ما يألم كل منهما إذا خلا إلى نفسه، واستطاع أن يرفع هذا الحجاب الرقيق المتكلف، وأن يلقى وجها لوجه هذه الصورة البشعة التي تركتها لنا الحرب والتي رأيتها أمس فأنفقت أشنع ليلة وأشقاها.
5
Shafi da ba'a sani ba