أصغ إلي فإني أريد أن ألقي إليك رسالتي، وأن أنصرف عنك قبل أن يهجم ضوء النهار فيبدد ظلمة الليل، وإني لحريصة على أن ألقاك، فإن كان لقائي يرضيك الآن كما كان يرضيك من قبل، فانتهز فرصة كهذه الفرصة، في ساعة كهذه الساعة، وانظر في الكتاب وأطل التفكير فيه، فقد أستجيب لدعائك حينئذ. ثم سكت هذا الصوت قليلا، واستأنف حديثه الحلو المر فقال: ليس السل وحده هو الذي قتلني، وإنما قتلني معه الحب أيضا، فقد تذكر أن زوجي فارقني قبل أن أموت بأشهر؛ لأن مرضي المتصل قد ثقل عليه، وقد تذكر أني كنت أظهر تجلدا وعزاء، وقد تعلم أني كنت أخفي من ذلك غير ما أضمر، وأنك كنت تشفق علي مما كنت أخفيه.
وكنت تود لو استطعت أن تسليني عن بعض ما أجد، فاعلم الآن أني حين ثقلت علي العلة، وتورمت أطرافي، ورأى الطبيب أن ينزع ذلك الخاتم الذي كان آخر ما بقي من زوجي، لم أشك في أنه سينزع معه الحياة من هذا الجسم المريض، ولم أكره ذلك، وأي بأس من مفارقة العلة واليأس. فأبلغ زوجي أني فارقت الحياة وأنا أحبه، وأن مقامي في هذه الأرض بعد الموت لن يطول، وأنه خليق أن يعلم أني أراه وأرافقه، وأنه خليق أن يرعى ذلك، وأن يذكرني في شيء من الخير والرفق والوفاء.
حتى إذا آن لهذا الخيال أن يصعد في طبقات الجو، وأن يمضي إلى ذلك العالم الذي تعيش فيه خيالات الموتى، وأن تنقطع الصلة بينه وبين هذه الأرض؛ فلزوجي أن ينسى، ولزوجي أن يقطع ما بين نفسه وبيني من الأسباب.
قالت ذلك ثم نظرت إلي نظرة قوية حادة، لم أستطع أن أثبت لها، وإنما أطرقت برأسي إلى الأرض خائفا وجلا، ثم رفعت رأسي بعد ذلك ونظرت فلم أر شيئا، وتسمعت فلم ينته إلي صوت وإنما هي رسالة الغفران مبسوطة أمامي أرى فيها عبث أبي العلاء حول شعر النمر بن تولب. هنالك أخذني هلع ما أعرف أني أحسست مثله من قبل، وملكني روع كاد يدفعني إلى الصياح لولا بقية من عقل، وفضل من حياء، ففارقت غرفتي وهبطت إلى الحديقة أهيم فيها أنتظر مطلع النهار، حتى إذا ارتفعت الشمس قليلا أوصيت أهلي بما أوصيت وأسرعت إليك.
أترى بعد ذلك أن سخف أبي العلاء لم يسؤ أحدا؟ قال ذلك ثم أخذته رعدة غريبة أشفقت أن ترده إلى مثل ما كان عليه من الوجل والاضطراب، فما زلت به حتى رددت إليه الأمن والهدوء وقلت مداعبا: ويحك! ألم تقرأ كتاب أناتول فرانس ذلك الذي سماه جريمة سلفستر بونار؟ إن فيه قصة إن لم تكن تشبه قصتك هذه من كل وجه، فإنها قريبة منها إلى حد ما، وما أرى إلا أنك قد ذكرت صاحبتك هذه في ضوء النهار أو في ظلمة الليل، حتى إذا أخذت تنظر كتابك أخذك هذا النوم الخفيف الذي تتراءى فيه الأشباح والخيالات. قال مغضبا: أقسم لك ما كنت نائما ولا قريبا من النائم، وإنما كنت يقظان أشد ما يكون الناس يقظة وانتباها، ولكن ما نفع الحديث معك في هذا وأنت لا تؤمن بعالم الخيال؟
قلت: فإني أشفق عليك من إيمانك هذا، فقد تستطيع أن تتحول عن دارك، وأن تفارق القاهرة، وأن تنزل من الأرض أي منزل شئت، فسيتراءى لك هذا الخيال كلما خطر له أن يتحدث إليك، أو أن يحملك رسالة إلى الأحياء. وماذا تريد الآن أن تصنع برسالته هذه؟ أتحملها إلى من أنت مكلف أن تحملها إليه أم تكتمها؟ فإن تكن الأولى فماذا تصنع إن لقيك باللوم لأنك تعرض لما لا ينبغي لك أن تدخل فيه؟! وإن تكن الثانية فماذا تصنع إن ألم بك الخيال وسألك عن تبليغ الرسالة وتأدية الأمانة والوفاء بالعهد؟ هنالك نهض صاحبي مغاضبا وهو يقول: ما أشد بغضي للذين يمزحون في غير أوقات المزاح.
ثم انصرف عني وأنا شديد الإشفاق عليه وعلى كثير من أمثاله الذين تطرقهم هذه الخيالات فتملأ قلوب بعضهم أمنا ورضا، وتملأ قلوب بعضهم الآخر خوفا وروعا.
طيف
ما كان أعذب هذا الصوت الذي كان يبلغ أذنيها من بعيد، من بعيد جدا، فيملأ قلبها الثائر المضطرب راحة وأمنا وهدوءا، ويملأ نفسها المفجوعة الجزعة طمأنينة ودعة واستقرارا.
وما كان أجمل هذا الطيف الضئيل الذي كان يتراءى لها ثم لا يلبث أن يستخفي ليعود فيتراءى لها مرة أخرى. ولا تكاد تحقق النظر فيه حتى ترى صورة كانت أحب إليها من كل صورة، وتتبين شخصا كان آثر عندها من كل شخص، وتحس كأنها وجدت شيئا عزيزا فقدته منذ حين قريب، وما كان أغرب هذا الشعور الذي كانت تجده في أثناء ذلك؛ فقد كانت تحس حزنا يشتد على قلبها حتى يوشك أن يفطره، ثم تجد نعمة وراحة تردان عنها هذا الحزن ردا، ثم تجد بشرا يغمر قلبها ونفسها وعقلها، ويكاد يخرجها عن طورها، ويبلغ بها شيئا يشبه الجنون، ثم تحس كأنها تفيق من سكرات لا عهد لها بها، وإذا دموع غزار تنهال من عينين لم تتعودا البكاء.
Shafi da ba'a sani ba