وقد كتب أحد المؤرخين الرومانيين يقول: «إن تيتوس الذي كان يحب بيرينيس كما كانت تحبه، والذي كان قد أطمعها في الزواج، قد أخرجها من روما برغمه وبرغمها أيضا.»
ومن هذه الجملة القصيرة التي كتبها المؤرخ الروماني، بل من آخر هذه الجملة استقى راسين قصته الرائعة. فصور الصراع بين الحب والواجب أبرع تصوير وأروعه، ونصر الواجب الوطني في القصة كما نصره التاريخ أيضا؛ فقد كان القيصر الإمبراطور محبا لملكة فلسطين حبا ملأ قلبه وملك نفسه واستأثر بأهوائه وعواطفه، ولكنه على ذلك لم يستطع أن يتخذها له زوجا؛ لأن قوانين روما لم تكن تسمح بهذا الزواج.
ولم يكن حب الملكة للإمبراطور هينا ولا فاترا ولا يسيرا، ولكنها على ذلك قد أذعنت لسلطان الواجب وخضعت لقوانين روما، وانصرفت عن هذا الزواج الذي عملت له وعاشت بالتفكير فيه والطموح إليه أعواما طوالا. وكان القيصر الإمبراطور يقدر حق القدر أنه يضحي في سبيل القانون والواجب تضحية خطيرة لن يهملها التاريخ، ولن تقصر الأجيال في الانتفاع بها والإكبار لها واتخاذها موضوعا للموعظة والاعتبار. وكانت الملكة في حقيقة الأمر لا تفكر إلا في نفسها وفي حبها، ولا تحفل بالقانون ولا بالواجب ولا بالتاريخ. ولكنها انتهت آخر الأمر إلى مثل ما انتهى إليه قيصر، فضحت بالحب في سبيل الواجب والقانون، وضربت للناس مثلا قويا في تصوير التضحية والإيثار.
قال صاحبي: فلما انتهت إلى العاشقين في دار الموتى أنباء الأحداث الجسام التي حدثت في وندره، نسيت بيرينيس روما وقوانينها، وواجبات القيصر الإمبراطور وكل ما كان بينها وبين صاحبها من الحوار الرائع الذي صوره راسين، ولم تذكر إلا شيئا واحدا: وهو أنها امرأة عاشقة ضحى بها خليلها في سبيل شيء آخر غير العشق. وأنت تعرف الغيرة إذا اضطرمت نارها في قلوب النساء كيف تلتهم كل شيء، وكيف تمتنع على كل روية وتستعصي على كل تفكير. فقد ثارت إذن بيرينيس ثورة هائلة، وجحدت كل ما كان بينها وبين صاحبها من حقائق الود ووثائقه، وزعمت أن القيصر الإمبراطور لم يكن إلا جاحدا خائنا غادرا لا يرعى للحب حرمة ولا يرجو للوفاء وقارا.
وكانت من قبل تظن أن الواجب الاجتماعي فوق الواجب الفردي، أو أن إخلاص الرجل لوطنه يجب أن يكون فوق إخلاصه لنفسه ولمن يحب، وأن الرجل الذي يضحي في سبيل الوطن بحياته خليق أن يضحي في سبيل الوطن بعواطفه وميوله وأهوائه. فقبلت من عاشقها ما قبلت، وآمنت بمثل ما كان يؤمن به من أن الوطن فوق الأشخاص، وأن الطاعة لقوانين روما فوق الطاعة لقوانين الحب والغرام. ولكنها رأت أن امرأة أخرى لم تكن ملكة ولا قريبة من الملكة قد صارعت دولة فغلبتها. وقارنت بيرينيس بين الإمبراطورية الرومانية التي ضحى بها في سبيلها منذ تسعة عشر قرنا وبين الإمبراطورية البريطانية، فراعتها المقارنة وملأت قلبها غيظا وحنقا. فأين تقع الإمبراطورية الرومانية وملك قيصر من الإمبراطورية البريطانية وملك إدوارد الثامن؟
ومع ذلك فقد ضحى إدوارد الثامن بالملك ونزل عن العرش، وآثر صاحبته على ملك لم يتح لأحد مثله. فقد كان إدوارد الثامن إذن أصدق حبا وأخلص وفاء من تيتوس القيصر الإمبراطور، وكانت صاحبته أعظم حظا وأسعد طالعا من بيرينيس ذات الحسن الرائع والجمال البارع. ومع ذلك فقد كانت بيرينيس أدنى إلى الشباب وأعظم حظا من الجمال، وكانت صاحبة عرش لا من عامة الناس ولا من أوساطهم! فترى إلى نتيجة هذه المقارنة وإلى أثرها في قلب امرأة عاشقة غالية في العشق، لا تعرف في الحب هوادة ولا لينا، ولا تقبل فيه موادعة ولا مصانعة.
وقد لقي القيصر الإمبراطور كثيرا من الهول، وبذل كثيرا من الجهد، واحتمل كثيرا من العناء، ولم يستطع أن يوفق إلى إرضاء صاحبته ولا إلى استعطافها عليه واجتذابها إليه؛ فقد صور لها أن حاجة البريطانيين إلى ملكهم ليست كحاجة الرومانيين إلى إمبراطورهم؛ لأن الملك في هذه العصور الحديثة رمز للسلطان، يملك ولا يحكم، فهو يستطيع أن يتخلى عن العرش إذا عجز عن النهوض بأثقاله دون أن يسيء إلى الوطن أو يعرض مصالحه للخطر والضياع. على حين كان الإمبراطور الروماني يملك ويحكم ويدبر الأمر كله تدبيرا في دقائقه وجلائله؛ فكان نزوله عن العرش أبعد أثرا في حياة الدولة من نزول الملوك المحدثين عن عروشهم.
وقد صور تيتوس لصاحبته أن فكرة الواجب فكرة مرنة تتغير مع الزمن وتتشكل بأشكال البيئات المختلفة، وأن تصور المحدثين للواجب ليس كتصور القدماء له.
وقد عرض تيتوس على صاحبته أن تسعة عشر قرنا تكفي لتغيير آراء الناس في كل شيء، ولتغيير ما يكون بين الفرد والجماعة من الصلات. فقد كانت الجماعة في العصور الأولى كل شيء ولم يكن الفرد شيئا. فأما الآن فقد أخذ الأفراد يوجدون ويؤمنون بأنفسهم، ويرون أن عليهم واجبات ويرون أيضا أن لهم حقوقا، وهم مستعدون لأداء الواجبات ولكنهم غير مستعدين للنزول عن حقوقهم.
وقد عرض تيتوس على صاحبته أشياء أخرى لا نكاد نفرغ من إجمالها فضلا عن تفصيلها، ولكنه لم يستطع أن يقنعها ولا أن يردها إلى الرضا والهدوء؛ فهي كانت تسخر من هذا كله، بل تسخط على هذا كله، وترى أنه تحكيم للعقل فيما لا ينبغي أن يحكم فيه العقل. تحكيم العقل فيما هو من شئون القلب وحده. وكان يزيد سخطها وثورتها ويملؤها غيظا إلى غيظ وحنقا إلى حنق، أنها قد انخدعت بهذا الحب الكاذب نحو عشرة أعوام في الحياة الدنيا وتسعة عشر قرنا في الحياة الآخرة، لم تشك فيه ولم ترتب بصاحبه، فمنحته حبها وقلبها وأخلصت له في الدنيا والآخرة، وفي السر وفي الجهر، ثم تبين لها في لحظة قصيرة جدا أنه لم يكن عاشقا ولا صادقا في الحب، وإنما كان خادعا ومخدوعا في وقت واحد. وما هذا الحب الذي لا يضحى في سبيله بالممالك والعروش؟ بل ما هذا الحب الذي يضحى به في سبيل الممالك والعروش؟
Shafi da ba'a sani ba