أكتب إليك، وقد ارتفع الضحى، وأظن مكسيم يوشك أن يودعك؛ فقد ينبغي أن يبلغنا نحو الساعة الثانية. وقد يصل إليك هذا الكتاب مساء اليوم، أو صباح الغد، فاقرئيه واذكري كاتبته! واعلمي أنها لا تضمر لك بغضا ولا تحفظ لك موجدة، وإنما تسدي إليك الشكر، وتهدي إليك التحية، وتتمنى لك ما لم يتح لها من السعادة، وما لم يقدر لها من النعيم.
20
كلا لم أكن صادقة أيها الدفتر العزيز حين زعمت للورنس أني لست ثائرة ولا محنقة، ففيم كتبت إليها هذا الكتاب؟ ولم أرسلته في غير تردد، ودون أن أسأل نفسي عما يمكن أن يكون له من عاقبة، وعما يمكن أن يحدث من أثر في نفس هذه الصديق البائسة، وفي نفس مكسيم الذي سيظهر على كل شيء؟
لم أكن صادقة فيما زعمت، وإن كنت صادقة فيما عملت. فقد استجبت لغريزتي، وأذعنت لعواطفي، ولم أفكر ولم أرو، ولو استطعت الآن لاسترجعت هذا الكتاب، ولتركت هذين الآثمين البائسين ينعمان أو يشقيان بما قضي عليهما من إثم وبؤس. وما عسى أن ينفعني هذا الكتاب؟ أتراه يرد إلي هذا الحب الضائع الذي لا سبيل إلى أن يعود؟ واحسرتاه، إني لأفكر وأقدر كما يفكر الناس ويقدرون برغم ما أشعر به في أعماق نفسي من انقطاع الصلة بيني وبين الناس، ومن أني قد انتقلت إلى عالم آخر يجب أن أفكر فيه على نحو جديد، بل يجب أن أستريح فيه من التفكير.
ما أشد شوقي إليك أيتها الأم العزيزة! ما أشد شوقي إليك أيها الأب الرحيم! ما أشد شوقي إليك أيها الأخ الكريم! لقد كنتم أجدر الناس بلقائي وشفائي من هذا الذي أشقى به، ولا أعرف كيف أسميه، ولكني لا أستطيع أن أسعى إليكم، ولا أن أبلغكم، ولا أن أحملكم من أثقالي أكثر مما احتملتم إلى الآن.
وأنت أيها الدفتر العزيز، ما أشد صبرك علي، واحتمالك لي، ومواساتك لهذا القلب الكسير! أتراني سأعرض عنك كما عودت الإعراض عنك، ثم أعود إليك كما تعودت العودة إليك، مشغوفة بك، لاجئة إليك، مستخذية منك؟
وداعا على كل حال. ومكسيم ...؟ كلا، ما ينبغي أن أفكر في مكسيم. وأنت أيها الطفل العزيز؟ كلا، ما ينبغي أن أفكر فيك الآن، وإن كنت لا أجد إلى الانصراف عنك سبيلا ...
وأصبح الناس ذات يوم وقد قرءوا في صحف الإقليم نعي سيدتين أهدت كل واحدة منهما نفسها إلى الموت، وجعل الناس في المدينة إذا لقي بعضهم بعضا يلمون بهذا النبأ، ويقول بعضهم لبعض: يا عجبا، كأنما كانتا على ميعاد.
الحب اليائس
قال القسيس وهو يضحك للراهبة وهي تبكي: على رسلك أيتها الأخت العزيزة؛ فإن الله يكره الإسراف لعباده حتى في حبه والإنابة إليه، واحذري أن يكون إغراقك في هذا الندم وإلحاحك في هذا الحزن الذي يوشك أن ينتهي بك إلى اليأس من روح الله الذي لا ييأس منه المؤمنون؛ احذري أن يكون هذا مظنة للريبة، وثقي - وأنت واثقة طبعا - بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فاجتهدي في ألا يظهر الله منك على سر تكرهين أن يظهر عليه.
Shafi da ba'a sani ba